قال الفيلسوف المغربي محمد المصباحي إن "ابن رشد أدخل الأفق الفلسفي إلى الشريعة، وأصبح الفكر الإسلامي يتعايش بنوعين من الميتافيزيقا: الميتافيزيقا الإنسانية، وهي ميتافيزيقا أرسطو، والميتافيزيقا الإلهية"، مضيفا أنه "حاول قراءة الإسلام والوحي بأدوات فلسفية خالصة جعلته ينتهي إلى سريان مقومات المعقولية في قلب الشريعة من البداية حتى النهاية. وبالنظر إلى وجود هذه المعقولية فإن الإنسان قادر على قراءتها". ووضّح المصباحي هذه الفكرة خلال حديثه، مساء السبت في الدورة ال19 لمهرجان "ثويزا" الثقافي، مسجلا أن "قراءة "الأنا" لشيء آخر تشترط المناسبة، وتشترط الاشتراك في الماهية". وتابع قائلا: "هذا يعني أن الشريعة، أو القرآن في كنهه، هو فلسفة، ولكن فلسفة ينبغي أن تُترجم، أن تُمسْرح.. وهذا ما فعله ابن رشد، رغم أنه ظل فقيهًا ووضع حدودًا كثيرة للغاية كي لا يحدث أي تعدٍّ لمبادئ الفلسفة والشريعة معًا". وأشار الأكاديمي المتخصص في فلسفة ابن رشد والتصوف الإسلامي إلى أنه "في غضون هيمنة جو النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الإنسان، نهاية الفلسفة، نهاية الأخلاق، نهاية السياسة، تكلم بعض الفلاسفة عن نهاية العقل"، مسجلا أن "العقل لا يمكن أن يرتفع ما دام الإنسان موجودًا؛ فالإنسان ماهيته العقل، وإنسانية الإنسان هي ذاته، وذات الإنسان هي عقله، ولا يمكن أن نضع الأول في منأى عن الثاني". وتساءل صاحب كتاب "مع ابن رشد": "هل ما زال العقل قادرًا على تأويل التراث؟"، مضيفا "نحن نعرف أن التراث طرح عدة نظريات بالنسبة للعقل"، لكنه اقتصر على الإشارة إلى نظرية الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي المتصوف، "الذي كان يقول إن تعريف الإنسان بأنه حيوان عاقل لا يخص الإنسان وحده، بل الكائنات كلها تنطق، وكلها تعقل، أما الذي يخص الإنسان فهو أنه صورة الله، ومن ليس على هذه الصورة ليس بإنسان". واستند كاتب "فلسفة الخيال في الفكر العربي الإسلامي" إلى هايدغر، الذي يعتبر أن "من العيب أن نقول إن الإنسان حيوان عاقل". وتابع قائلا: "العقل قادر على تأويل وفهم النص، لكن في الوقت نفسه لا ينبغي الحديث عن نظر عقلي واحد وإنّما عن أنظار عقلية: النظر الشعري، والنظر الخطابي، والنظر السفسطائي، والنظر الجدلي، والنظر الورهاني. وهذه الأنظار تنقسم إلى ما هو عملي وما هو نظري". وبالنسبة للعقل النظري أو النظر العقلي، سجل المصباحي أنه "لا حدود له في الفهم والتأويل"، أي "لا حدّ له في طرح الأسئلة مهما كانت عويصة"، مشيرا إلى أنه "لا يمكن للعقل وضع مبادئه كلها موضع تساؤل، فهو يسلم بها كما نسلم في الشريعة بالمبادئ الأولى لأسس الفضيلة"، قبل أن يضيف أن "العقل العملي، الذي يهتمّ بالتشريع والسعادة الإنسانية، لا حدود له أيضا، لأنه ينظر في أمور قابلة للتطور، بمعنى الشرائع والفضائل والصناعات العملية والنظرية". ومع ذلك، أبرز الأكاديمي ذاته أن "الفلاسفة وضعوا حدودًا لتأويل الشريعة وفهمها لكي لا يتعداها المُؤِّول، لأن المسّ بمبادئ الشريعة معناه المسّ بالبنية الأخلاقية وبنية الفضائل التي تقوم عليها الحضارة"، مضيفا "لدينا إذن إمكانية للفهم والتأويل، سواء بالنسبة للعقل النظري أو بالنسبة للعقل العملي، ولكنْ هناك حدود ينبغي التوقف عندها". ومضى متفاعلاً مع أسئلة مسيّر اللقاء الأكاديمي امحمد جبرون، خلال ندوة "حدود إعمال النظر العقلي في فهم وتأويل التراث"، أن "الشريعة إذن تقوم على وحدة الإله، أو على المعاد والجنة والنار، وعلى العقاب، فإذا حُذفت هذه المبادئ حُذفت الفضائل، وإذا حُذفت الفضائل والصنائع العملية انحلّت معها الحضارات"، فالأخيرة "تقوم على مبادئ غير قابلة للتأويل والتطوير". وواصل موضحًا "لكن في داخل الشريعة توجد مجالات تتصل بالذات الإلهية أو الأحكام الفقهية والفضائل العملية، وهي قابلة للتأويل، أي أن التشريع لم يعد حكرا على الشريعة، بل صار حقًا من حقوق الإنسان". وتابع قائلا: "على الإنسان بهذا المعنى أن يبتكر شريعة بجانب الشريعة الدينية لتحقيق السعادة الدنيوية؛ فالمبادئ التي تعتمد فقط على العقل، بالنسبة لبعض الفلاسفة، أقل قيمة من المبادئ التي تعتمد على الوحي". لذلك شدد المصباحي على "ضرورة الجمع بين نورين: نور العقل البشري ونور الوحي لتحقيق سعادة متكاملة". وسجل أن "المعتزلة ليست أبعد شأنًا في العقلانية من الأشاعرة، بل هي أيضًا تمتلئ بالأساطير والحقائق المزيّفة إلخ"، مضيفا "نحن إزاء حضارة أثمرت لنا مدارس واتجاهات في الفهم والتأويل، بعضها مدهش، ويكفي أن نتصفح شرح ابن عربي أو شرح صدر الدين الشيرازي للقرآن لنرتقي إلى مقاماتٍ عليا".