كانت جاكلين في القطار، تجلس بمحاذاة النافذة، تنظر بعينين شاردتين إلى حقول ورود التوليب التي تحتل مساحة معتبرة من أراضي منبسطة على مشارف مدينة هارلم الهولندية، حين سمعت فجأة رنة إشعار قدوم رسالة عبر هاتفها الصغير. لم تكن رسالة شخصية، بل مجرد إعلان إشهاري لطبيبة أخصائية في المجال النفسي. كادت جاكلين -وبدون وعي منها- أن تحذف الرسالة قبل أن تتراجع عن ذلك. ربما اكتشفت في آخر لحظة أن أكثر شيء تحتاجه في حياتها الآن هو استشارة مختص في الحالات النفسية والعصبية، ربما يستطيع أن يرمم انكسار نفسيتها المتعبة والتائهة... أضحت الرسالة التي كانت تود التخلص منها قبل قليل أكثر شيء تحرص عليه ويمنحها بصيص أمل. لم تتردد جاكلين في مهاتفة مكتب العيادة وحجز موعد للجلسة الأولى... بعض الأحيان لا نستطيع أن نتخذ القرار المناسب، ونحتاج إلى من يساعدنا على فهم مشاعرنا وأحاسيسنا المتناقضة والمضطربة وربما المبهمة أيضًا. دونت جاكلين تاريخ موعد زيارة الطبيبة في مذكرتها الصغيرة، وصارت متحفزة أكثر لهذا اللقاء الذي سوف يمنحها ترف البوح. ********************* بدت الخادمة بيانكا هذا الصباح على غير عادتها وهي تتهيأ لتحضير وجبة الفطور للأسرة التي تعمل لديها منذ أكثر من سنة. كان في حركاتها شيء من التردد، وفي ملامحها قلق دفين، وكأنها تستشعر شيئًا قادمًا لا تعرف ملامحه بعد. جلس الزوج إلى المائدة كعادته، وألقى عليها تحية الصباح بنبرة ودودة، تبعته الابنة سارة ذات الثمانية عشر ربيعًا التي لم تنس أن تبتسم لها وتأخذ فنجان قهوتها. لكن الأمر كان مختلفًا بالمطلق مع الزوجة! لم تتبادل معها أي كلمة، لم تنظر في وجهها حتى. جلست صامتة، شاردة ترتشف قهوتها، ثم ما فتئت أن جمعت حقيبتها وغادرت نحو محطة القطار في رحلتها المعتادة إلى هارلم حيث مقر عملها، دون أن تلتفت أو تنطق بكلمة... صارت الفجوة بين المرأتين تتسع كل يوم أكثر. وقفت بيانكا في المطبخ، تحدّق في فناجين القهوة الفارغة وأحاسيسها مثقلة بالشكوك. صارت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بأن فرصة بقائها في هذا البيت تتضاءل... "مع الأسف أنهم لا يدركون أن مغادرتي ليست مجرد خروج خادمة من بيت ونهاية عقد عمل، بل ستكون أشبه بخروج الروح من الجسد... كيف لي أن أترافع عن حقي في البقاء، وأنا مقيدة بأقفال وأسلاك تشل لساني؟ سيظل صوتي محبوسًا في صدري كصرخة لا تجد منفذًا... الأخرس في مثل هذه المواقف يعوض عدم قدرته على الكلام بالعناق والبكاء. ما أتعس امرأة مثلي محرومة من الكلام والعناق، وكأنني عالقة في منتهى العجز: لا صوت ينقذني ولا حضن يواسيني." رنّ فجأة هاتف بيانكا الصغير رنة واحدة معلنًا عن قدوم رسالة إشهارية لطبيبة مختصة في المجال النفسي. شعرت بيانكا وكأنها رسالة قادمة من مكان ما في السماء، من القدر نفسه، وأنها فرصتها للحكي والبوح. ********************* لم تكن تعلم جاكلين حينما طلبت منها الطبيبة الحديث والحكي ماذا تقول بالضبط. بدا جسدها مستسلمًا وهي مستلقية على سرير مريح. كانت كلماتها مترددة، متقطعة، وكأنها تُنزع من أعماق موجعة، ليخيم الصمت في الأخير، وكان السرير صار منصة اعتراف أو ساحة مواجهة بينها وبين ذاتها... فجأة انهمر الحديث بلا توقف... "مشكلتي هي الخادمة بيانكا! أولاً، دعيني أتحفظ على كلمة 'خادمة'، لا أعتقد أنها التوصيف المناسب. بيانكا أكثر امرأة عرفتها في حياتي تمتلك من الذكاء والمهارة والأمانة وقوة الشخصية ما يجعلها استثنائية بحق. إلى درجة أنها -وبدون قصد منها- تجعلني أشعر بضعفي ومحدودية تفكيري وقلة مهاراتي. إنها كالمرآة... مرآة أرى فيها كل عجزي وعيوبي. قولي لي أيتها الطبيبة: هل يمكنك أن تتصوري مرآة بهذه المواصفات تحتمل امرأة الاحتفاظ بها في البيت، والنظر إليها طوال الوقت؟ ثم دعيني ألفت انتباهك إلى شيء مهم -وأنا واثقة من نباهتك- أنه لا يمكن أن يخطر ببالك ولو لوهلة أنني أغار منها! لا، لم أشعر يومًا بذلك الإحساس. كيف تغار امرأة من مخلوق لا يشبه الإنسان؟ من كائن أقرب من الملائكة منه إلى البشر؟ قد أكون سعيدة جدًا بوجود 'خادمة' بهذه الصفات المكتملة، لكن هذا الكمال لا يوافق طبيعة الأشياء... الكمال سيدتي يربك، يدعو إلى الشك، بل ربما إلى الخوف! دعيني أرجع إلى الوراء قليلاً، إلى ما قبل سنة ونصف من الآن، حين تعرفت على بيانكا لأول مرة. كان ذلك في واحدة من أصعب اللحظات في حياتي. لم يكن قد مضى على العملية الجراحية التي أجرتها ابنتي سارة سوى أقل من أسبوع واحد. سارة، التي كانت تعاني منذ مدة من عجز كلوي حاد، وكانت حياتها مهددة في كل لحظة، وفرص علاجها كانت محدودة جدًا، وقد بدأ الأمل يتضاءل شيئًا فشيئًا، خصوصًا بعد أن أثبتت التحاليل الطبية تعذّر تبرعي أنا أو والدها لها بأي من كليتينا. وفي صباح خريفي بدأ عاديًا، وردتني مكالمة من المستشفى أخبروني بأنه تم العثور على متبرع تطابقت خصائصه البيولوجية بالكامل مع سارة. سيتم إجراء عملية زرع كلية! آه... أخيرًا ستتخلص سارة من حصص تصفية الدم المرهقة، ومن ذلك العبء الجسدي والنفسي الذي كان يسحقها أمام أعيننا ونحن عاجزون. في الليلة التي غادرت فيها سارة المستشفى وعادت إلى المنزل، نشرت إعلانًا على مواقع التواصل الاجتماعي أطلب فيه خادمة للعمل فورًا. وفي المساء، هاتفتني بيانكا، اتفقنا على موعد صباح اليوم التالي. حين التقيتها لأول مرة، وجدتها امرأة نحيفة، أنيقة بلا تكلف، تختار مفرداتها بعناية، كانت مسحة حزن واضحة على ملامح وجهها رغم ابتسامتها الخجولة. كان من الممكن أن تظن عنها أي شيء إلا أن تكون خادمة! ومع ذلك، بدا واضحًا أنها في حاجة ماسة للعمل، ومستعدة لقبول كل الشروط التي أطرحها والأجر الذي أحدده. أخبرتها عن حالة سارة الصحية وعن حاجتي لأن أكون قريبة منها بينما تتكفل هي بالأعمال المنزلية، لكن بعد وقت قصير انعكست الأدوار دون أن نشعر: صرت أنا من يقوم بأغلب الأعمال المنزلية بينما تولت بيانكا رعاية سارة لما أظهرته من مهارة ودراية طبية لا تخطئها العين. كانت دقيقة في توقيت الأدوية، وتعرف جيدًا كيفية التعامل مع الحقن والأقراص، بل تتصرف بثقة ممرضة محترفة... لا أخفي عليك دكتورة، كنت سعيدة جدًا بها، بل فخورة بكل ما كانت تقوم به من أجل سارة. في أوقات كثيرة كانت تعمل ساعات إضافية حسب الحالة الصحية لابنتي، ولم تطلب يومًا تعويضًا أو زيادة في الأجر... وحين بدأت حالة سارة تتحسن، فوجئت بها تساعد وتحفز سارة على مراجعة مقرراتها الدراسية لتعويض ما فاتها من دروس ومحاضرات. يومها، لم تسعني الأرض من الفرح؛ كنت أبحث عن 'خادمة'، فإذا بالحظ يقودني إلى خادمة وممرضة وأستاذة خصوصية في آن واحد... يا له من حظ نادر! قبل أسبوع، رأيتها خلسة في غرفة سارة، كانت بيانكا حزينة، غاضبة على ما يبدو، بينما سارة تعتذر منها، ثم شاهدت سارة تعانقها وبيانكا تنهار بالبكاء. سمعت سارة تقول: 'لن أعود للتدخين، أعدك. أعلم أنه يضيع صحتي ويغضبك، وأنا لا أتحمل أن تغضبي مني'. بالأمس فقط، ضبطتهما معًا يناقشان مستقبل سارة بعد التخرج من الجامعة! لا أدري لماذا شعرت بحنق شديد، وإن كنت قد تظاهرت بعدم الاكتراث... أحاسيسي نحوها مضطربة، لا أدري: هل أنا أحبها؟ أم أني...؟ هل تعلمين سيدتي أن أقصى درجات الفرح قد نعبر عنها بالدموع؟ الجسد نفسه حين لا يستوعب إحساسًا نفسيًا عميقًا يتفاعل أحيانًا بنقيضه: نضحك في لحظة حزن، أو نبكي من شدة الفرح، وربما نكره من فرط الحب... هل هذا ممكن سيدتي؟ الآن أشعر براحة جميلة لم أشعر بها منذ مدة... شكرًا على إنصاتك، وشكرًا أكثر على رسالتك الإشهارية التي وصلتني على هاتفي ومنحتني ترف البوح والحكي." غادرت جاكلين المصحة، بينما بقيت الطبيبة صونيا غارقة في التفكير، لم تستطع التخلص من تفاصيل حكاية جاكلين، تحاول فكّ شيفرة تركيبتها النفسية المعقدة وأحاسيسها المتناقضة التي تبدو مضطربة أحيانًا ومبهمة بحدة في أحيان أخرى. فتحت مذكرتها، وبدأت تدوّن بعض الملاحظات. كانت بحاجة إلى ترتيب أفكارها، إلى أن تجد مدخلًا لفهم تلك المرأة التي تركت أثرًا غريبًا في روحها. وفي نهاية الصفحة، كتبت الطبيبة صونيا، كمن تسجل ملاحظة لنفسها: "مع أنني لم أبعث بأي رسالة إشهارية، ولا إدارة العيادة قامت بذلك، فمن يكون إذن الذي أرسل لجاكلين عنوان العيادة ورقم الهاتف؟" في مساء اليوم نفسه، حلت بيانكا بالعيادة. مباشرة بعد أن استقبلتها الدكتورة صونيا، استلقت بهدوء على السرير، كانت تبدو متماسكة، تتحدث بثقة تعكس قوة شخصيتها. لم تضيع وقتًا في المقدمات، بل اختارت أن تختصر المسافة لتصل مباشرة إلى لبّ الموضوع. قالت بأسى عميق: "أكاد أفقد عملي عند مشغلتي. لا يمكنك أن تتصوري حجم الدمار الذي سيلحقني لو حدث ذلك." نظرت إليها الدكتورة صونيا وسألت بهدوء: "ولِمَ قد يفعلون ذلك؟" أجابت بيانكا، وعيناها تنظران إلى الفراغ كمن يحاول كبح سيل داخلي: "لأنهم يريدون مجرد خادمة... وأنا لم أستطع أن أضبط مشاعري المنهمرة على هذا النحو، ولا أن أحاصرها بسياج." تأملت صونيا كلماتها، ثم قالت: "ولمَ لا تبحثين عن بيت آخر؟ هناك كثيرون يرغبون في خادمة بخبرتك." شعرت بيانكا بوقع السؤال. أحرجها، أربكها. صمتت قليلاً، كأنها تفتش عن جواب لا يُختصر بكلمات. ثم رفعت عينيها وقالت بنبرة أقرب إلى الرجاء: "ما رأيك أن نعيد الشريط إلى البداية؟ أعتقد أنه لا مناص من ذلك... لفهم أصل الحكاية." "قبل سنة ونصف، حلّت كارثة غيّرت مجرى حياتي بالكامل. كنت يومها في مكتبي، أزاول عملي كطبيبة رئيسة قسم التخدير بالمستشفى. فُوجئت باستدعاء عاجل إلى قاعة العمليات لإجراء عملية زرع كلية لمريضة في حالة حرجة جدًا. أسرعت إلى هناك، واتممنا العملية بنجاح. لكن ما إن خرجت من قاعة العمليات حتى وجدت أحد أفراد الشرطة ينتظرني في مكتبي. كان مطأطئ الرأس، وصوته مبلل بالحزن. قال لي بصوت خافت: 'ابنتك، مادلين... صدمتها شاحنة متهورة، وهي في طريقها إلى الجامعة.' كأن الزمن توقف. أسرعت إلى قسم المستعجلات أبحث عنها، أتشبث بأي بصيص أمل... لكن لم أجدها. أخبرني الطبيب المسؤول في قسم المستعجلات أن مادلين فارقت الحياة في سيارة الإسعاف قبل أن تصل إلى المستشفى. وأنها الآن في قاعة التشريح بعد أن تم نقل كليتها إلى مريضة في قاعة العمليات المجاورة حيث تتوافق مع المريضة بيولوجيًا. يا إلهي...! تراني، إذن، كنتُ في قاعة العمليات رفقة فريق طبي نقتلع بعضًا من ابنتي... ونزرعه في جسد آخر... أحسست أنني اقتطعت قلبي بيدي ورميته داخل جسد غريب! آه، يا ربّي...! في نفس الأسبوع، تمت مراسم دفن مادلين، أو بالأحرى... دُفن الجزء الأكبر منها، بينما جزءكِ الآخر، لم يمت بعد... كنت أقف عند قبركِ عاجزة عن الاستيعاب... كيف أدفن جسدكِ هنا، بينما بعض منكِ ما زال نابضًا بالحياة في مكان آخر؟ ربما يصعب شرح هذا التمزق الذي أعيشه... لكنّي أشتاق إليكِ، حتى وإن لم يتبقَ منكِ سوى ذاك الجزء اليسير. قليل منكِ يا مادلين يعوّضني عن هذا الإحساس الثقيل بالعدم. وحين ألتقي بكِ ذات يوم، سأحضنك... سأحضنك بقوة، حتى تتسلل حرارتي إلى أعماقك، إلى ذلك المكان السحيق من الأحشاء... حيث ما زلتِ تقيمين... يؤسفني، دكتورة، أن أخبرك بأنني لم أستطع أن أخلص لقَسَم أبقراط الذي اقسمته عند مزاولتي لمهنة الطب. لقد خالفت التعليمات، وتجاوزت ما لا يجوز تجاوزه. ولجتُ خلسة إلى الصفحة المعلوماتية الخاصة بالمتبرعين بالأعضاء. دونت بسرعة عنوان وهاتف أسرة المريضة التي استفادت من كلية مادلين.... لم أكن طبيبة في تلك اللحظة، كنت أمّا مكسورة تتشبث بوهم حياة انسحب النور منها دفعة واحدة ودون سابق إنذار. وقبل أن أغادر المستشفى، كتبت استقالتي، وأرسلتها عبر البريد الإلكتروني إلى مدير المؤسسة. لم يكن من اللائق أن أستمر بعد أن خنت القسم. بدأت أبحث عن ذلك الاسم في مواقع التواصل الاجتماعي، ولحسن الحظ، كانت جاكلين، والدة سارة، قد نشرت لتوّها إعلانًا تطلب فيه خادمة للعمل في المنزل. لم احتج إلى تفكير طويل، تواصلت مع السيدة جاكلين ورتبنا موعدًا قريبًا، فرحت بهذا الموعد الذي لم يكن مع جاكلين وابنتها سارة، كان بالأحرى موعدًا مع ما تبقى من ابنتي مادلين! مع الأسف، دكتورة، أشعر أنني وصلت إلى نهاية الطريق... وأن جاكلين ربما قد عقدت عزمها بالفعل على الاستغناء عن خادِمتها التي تجاوزت حدود وظيفتها. لكن صدقيني، لا أحمل في قلبي أي غضب أو عتاب. ولو كنت مكانها، ربما سأتصرّف بالطريقة نفسها. في الأيام الأخيرة، فكّرت مرارًا أن أعترف بكل التفاصيل... لكنني كنت أتراجع في كل مرة. ربما أن ذلك الاعتراف قد يُحرمني من رؤية سارة. وجودي بجانب سارة... يشبه صراعًا صامتًا: كأنني أنازع جاكلين في ابنتها التي تحتفظ في أحشائها بجزء من ابنتي. وهل باستطاعتي أن أحافظ على حب سارة وتعلقها بي حينما تشعر أن كمية الحب التي منحتها لم تكن من أجلها، فأحرم رأيتها إلى الأبد؟ كيف أقنعها أني بالفعل أحبها؟ وبسببها أشعر أن مادلين مازالت تعيش بيننا. لم أكن أعرف كيف أتعامل مع هذه الأحاسيس المتشابكة، المتضاربة والمضطربة... حتى وصلتني رسالتك الإشهارية تحفزني للقدوم إليك... فقررت أن آتي. شكرًا لك." غادرت بيانكا المصحّة. لم تكن الطبيبة صونيا تتوقّع أن تعيش فصلاً ثانيًا من نفس الحكاية، التي بدأ فصلها الأول في الصباح مع السيدة جاكلين. فتحت مذكّرتها من جديد، ودوّنت: "مع أنني لم أبعث بأي رسالة إشهارية، ولا إدارة العيادة قامت بذلك، فمن يكون إذن الذي أرسل لجاكلين ثم بيانكا عنوان العيادة ورقم الهاتف؟ هناك بكل تأكيد من له مصلحة في قدوم المرأتين معًا إلى العيادة، من؟ ولماذا الآن؟ هناك حتما حلقة مفقودة!"... لم تستطع الطبيبة صونيا أن تتخلص من تفاصيل الحكاية التي عاشت أحداثها هذا اليوم، في فصلها الأول مع جاكلين، والثاني مع بيانكا. لم تتفاعل معهما كطبيبة... بل ك امرأة. في لحظات كهذه، يصبح من الصعب جدًا أن تظل محايدًا في مشاعرك. كانت تقود سيارتها لكنها لم تتجه كالعادة نحو البيت هذه المرة. دون أن تشعر، وجدت نفسها أمام المقبرة، واقفة عند قبر مادلين. هناك، وسط الصمت، أعادت سرد تسلسل الأحداث لنفسها... كأنها تحاول أن تفهم أكثر، لو مُنحت هذه القبور ترف الكلام... لغرق العالم في ضجيج لا ينتهي. في صباح اليوم التالي، كانت الطبيبة صونيا تحاول أن تكون طبيعية قدر الإمكان... تُقنع نفسها أن دورها ليس أن تعيش حبيسة قصص الآخرين، بل أن تساعدهم على الخروج منها. أن تكون حاضرة بذهنها، لا أن تبقى رهينة قصة الأمس. أعدّت مكتبها، رتّبت أوراقها، فدقّ الجرس. دخلت فتاة في العشرينيات من عمرها، تبدو متماسكة، أنيقة ببساطة، ونظرتها فيها شيء من الحذر والخوف أيضًا. ابتسمت صونيا بلطف: "تفضّلي... يمكنك أن تستلقي، وتتكلمي إن أردتِ." لكن الفتاة أجابت بهدوء: "أنا لم آتِ لأتكلّم، بل لأستمع." رفعت صونيا حاجبيها في دهشة طفيفة، فقالت الفتاة: "اسمي سارة. والدتي السيدة جاكلين." قاطعتها الطبيبة صونيا وقالت: "إنك إذن من بعث رسائل إشهارية إلى جاكلين وبيانكا من أجل زيارة العيادة." جلست سارة على طرف الكرسي، وواصلت: "لاحظت منذ مدة أن الأمور لم تعد على مايرام بينهما، لا يتحدّثان، لا ينظران إلى بعضهما، وكأن شيئًا كبيرًا وقع بينهما، لكن لا أحد يجرؤ على تسميته." سكتت لحظة، ثم أضافت بنبرة خافتة لكنها واثقة: "شعرت أن كليهما بحاجة إلى شخص يسمعهما... فراهنْتُ أنهما عندما يتوصلان بالرسالة سوف يقومان مباشرة بحجز موعد للحديث والبوح، وأراهن أنك تعرفين الآن ما لا أعرفه." ثم نظرت إليها مباشرة، وقالت: "المرأة قد لا تعترف بسهولة في مخفر الشرطة، لكنها تبوح بكل شيء عند أول زيارة لطبيب نفسي... أرجوك، دكتورة، ماذا هناك؟ ما الذي يجمع بينهما ويُبعدهما في آن واحد؟ إني خائفة، لا أعرف ممّ بالضبط؟ أشعر وكأن شيئًا ما يخصني يحدث من حولي، دون علمي." نظرت صونيا إلى سارة، الفتاة التي عاشت بين سطور الحكاية دون أن تدري أنها كانت مركزها، قالت الدكتورة صونيا بنبرة حانية: "ما فعلته يا سارة يتطلب شجاعة، أن ترى الصمت ولا تكتفي بتجاهله، بل تسعى لفهمه." شعرت صونيا بانقباضٍ في صدرها حين تذكرت فجأة اسم مادلين... الاسم الذي مازال محفورًا على شاهد قبر وداخل كِلية تبض بالحياة في جسد هذه الفتاة الجالسة أمامها. قالت الطبيبة صونيا بنبرة هادئة وحاسمة في آنٍ واحد: "أفهم قلقك، سارة... لكن اسمحي لي أن أكون صريحة معك. ما دار بيني وبين والدتك جاكلين، وما شاركتني به بيانكا لا يمكنني البوح به، لأنه يدخل ضمن أخلاقيات المهنة. الأمانة التي التزمت بها يوم اخترت الطب النفسي طريقًا." ثم صمتت قليلاً، بعد لحظات أضافت: "لكن يمكنني أن أقترح حلاً... اتفاقًا منصفًا للجميع. غدًا، في هذا المكان، في هذه الغرفة، أريد أن تجتمعن أنتن الثلاث: جاكلين، بيانكا وأنتِ يا سارة. لأن الحقيقة، كما بدت لي، لا تخص واحدة فقط، بل ثلاث نساء تتقاسمن خيطًا واحدًا لقصة واحدة." في صباح اليوم التالي، ألغت الدكتورة صونيا كل مواعيدها. هيأت الغرفة، أغلقت هاتفها، وجلست تنتظر. وصلت جاكلين أولاً، وبعدها بدقائق سارة. كانت العيون متوترة، والقلوب أكثر. لكن بيانكا لم تحضر. ساد الصمت في الغرفة، ثم بدأت علامات القلق تتسلل إلى ملامح سارة وجاكلين. تبادلت الأم وابنتها نظرات فيها الكثير من التساؤل والريبة... هل قررت بيانكا الرحيل؟ هل اختارت أن تغلق الباب بصمت؟ لكن صونيا بدت وكأنها اكتشفت أمرًا مهمًا جدًا، نظرت إليهما بثقة وقالت: "أعتقد أننا أخطأنا في التقدير." نظرتا إليها باستغراب، فقالت: "لقد حصرنا هذه القصة بين ثلاث نساء، لكن الحقيقة... أنها تخص أربعة." زاد الاستغراب، فسألت سارة: "أربعة؟ من الرابعة؟" نظرت إليها صونيا بعمق وقالت: "مادلين." شهقت جاكلين بصمت، بينما تساءلت سارة: "من هي مادلين؟" ردّت صونيا، بصوت خافت كأنها تستحضر روحًا: "مادلين... الغائبة الحاضرة بقوة. الساكنة في ذاكرة هذه القصة، في قلبها، وفي عمقها... هي الجزء الميت النابض بالحياة." ثم نهضت وقالت: "أعتقد أن بيانكا لم تغب، بل تنتظرنا هناك عند مادلين. دعونا نلتحق بها... فقط هناك حيث مادلين، بيانكا، جاكلين وسارة يمكننا أن نعيد صياغة الحكاية، من بدايتها... إلى نهايتها."