لم يكن إعلان مالي رفع دعوى قضائية ضد الجزائر أمام محكمة العدل الدولية بسبب إسقاط طائرة مسيّرة عسكرية مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل مؤشّرًا على انهيار جدار الثقة بين بلدين تجمعهما حدود تتجاوز ألفًا وثلاثمئة كيلومتر، ومصالح لا حصر لها. ما حدث ليلة 31 مارس الماضي على تخوم تينزاواتين لم يكن حادثًا تقنيًا ولا خطأً عابرًا، بل قرارًا سياسيًا ينطوي على نزعة عدائية واضحة، عبّرت عنها الجزائر عبر سلوك لا يمكن تفسيره إلا باعتباره محاولة متعمدة لإرباك جهود الجيش المالي في مواجهة الجماعات المسلحة التي تهدد وحدة الدولة واستقرارها. الجزائر، التي قدّمت نفسها راعية لاتفاق السلام في شمال مالي سنة 2015، تحوّلت اليوم من وسيط إلى خصم. فمنذ انقلاب 2021 في باماكو وصعود العسكر إلى الحكم، اختارت مالي إعادة رسم خارطة تحالفاتها بالابتعاد عن الشركاء التقليديين والتقارب مع لاعبين جدد، في مقدمتهم روسيا عبر قوات "فاغنر". هذا التحول أزعج الجزائر التي وجدت نفسها على هامش القرار المالي، فانقلبت على دور الوسيط، ولجأت إلى سياسات الضغط والابتزاز، مستضيفة قادة أزواديين وزعماء دينيين معارضين، في رسالة واضحة إلى باماكو بأن يدها ما زالت تطال عمقها الداخلي. وفي يناير 2024، أعلنت مالي انسحابها من اتفاق الجزائر، معتبرة أن الوسيط "لم يعد قادرًا على الوفاء بالتزاماته". بهذا القرار سقط آخر غطاء شرعي لدور الجزائر في الشمال المالي. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد مستغربًا أن تتطور الأزمة إلى مستويات غير مسبوقة: استدعاء السفراء، تبادل الاتهامات، إغلاق الأجواء، وصولًا إلى حادث إسقاط الطائرة المسيّرة الذي فجّر الخلاف إلى العلن، وجرّ الجزائر إلى أروقة العدالة الدولية. المفارقة أن الجزائر برّرت فعلتها بذريعة "انتهاك المجال الجوي"، لكنها لم تقدّم أي دليل. صمتها في وجه الطلبات المالية المتكررة ليس إلا إقرارًا ضمنيًا بالعدوان، ومحاولة للتغطية على سياسة باتت تقوم على التدخل المباشر لا الوساطة. وفي لغة القانون الدولي، لا مكان لمثل هذه المغامرات: فمبدأ عدم استخدام القوة ركن أساسي، ومن ينتهكه يضع نفسه خارج الإجماع، ويمنح خصومه مبررًا لمقاضاته على الملأ. الجزائر اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تدرك أن زمن الوصاية على جيرانها قد انتهى، وأن لغة الطائرات المسيّرة لم تعد تجدي في منطقة تتطلع إلى الأمن والتنمية، أو أن تواصل سياسة التصعيد لتجد نفسها أكثر عزلة، وأكثر انكشافًا أمام خصوم الداخل والخارج. مالي، بدعواها القضائية، لم تكتف بفضح العدوان الأخير، بل سلّطت الضوء على مسار كامل من السياسات العدائية والكيدية التي وسمت تعامل الجزائر مع محيطها. إن أخطر ما في هذه الأزمة ليس فقط خرق الجزائر للقانون الدولي، بل إصرارها على الهروب إلى الأمام بدل مراجعة خياراتها. وفي منطقة تموج بالصراعات وتحتاج إلى بناء جسور التعاون، اختارت الجزائر أن تبني جدارًا جديدًا من العداء. والنتيجة واضحة: عزلة استراتيجية، صورة مشوّهة، ومأزق تاريخي لن ينفع معه الإنكار ولا المناورة.