في المغرب الراهن مشكل مزمن، مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية والحل الصحيح. إنه مشكل التعليم، مشكل يعترف بخطورته وتفاقم أبعاده منذ الإعلان عن الاستقلال إلى اليوم المغاربة جميعًا، آباء وأمهات وأبناء، أساتذة ومعلمين وطلابًا وتلاميذ، حاكمين ومحكومين.. (محمد عابد الجابري: 1973) 1 – ما من شك في أن المسألة التعليمية ببلادنا لم تؤخذ يومًا ما، بمأخذ الجد منذ الاستقلال إلى الآن، رغم كثرة اللغط حياله، وتعدد المناظرات والندوات والمواثيق والمناهج والمفاهيم التي نظمت من أجل "إصلاح" المنظومة التربوية وتقويم اعوجاجها، دون تحقيق أي نجاح يذكر، ليس لأن هذا الإشكال الوطني الجوهري عصيًا عن الحل، بل لأنه مرتهن بطروحات سياسوية ضيقة ونزعات أيديولوجية مصلحية مبتدأً وخبرًا، مما أفضى إلى عديد الصراعات والتجاذبات، التي كادت أن تعصف بالوضع العام في محطات من تاريخ المغرب المعاصر، وما خروج شباب جيل Z إلى الساحات العمومية في مختلف المدن المغربية، إلا تحصيل حاصل وخطوة أخرى في مسار دق ناقوس الخطر، من أجل تجنيب الوطن سكتة قلبية مجتمعية. ويندرج هذا المقال في سياق التعاطي مع الوضع العام الذي يعرفه واقع التعليم المغربي، والأسئلة المؤرقة التي لا يني يطرحها باستمرار جل المعنيين بالشأن التربوي ببلادنا، أملاً في رؤية ضوء في آخر نفقٍ مظلم، وقد سبق لنا أن كتبنا هذه الورقة منذ خمس سنوات، فضلنا إعادة نشرها مع تغييرات طفيفة.. 2 – نصدر من خلال ملامستنا راهن النظام التعليمي المغربي عن حزمة من التصورات والمحددات الرؤيوية، التي من شأنها أن تساعدنا على استجلاء واستقراء حقيقة المنجز التعليمي الوطني، ولعل أهم هذه المنطلقات هو أن التعليم يشكل مكونًا محوريًّا في حياة الأمم والمجتمعات قديمًا وحديثًا، كما أن التطلع نحو تجسيد تنمية شاملة وإقلاع حضاري فاعل إنما يرتبط بوجود نسق تعليمي نوعي، ونسق سياسي واجتماعي واقتصادي وازن، خاصة ونحن ندرك أن التعليم بمثابة نقطة ارتكاز النهوض البشري، ومقياس بالغ الدقة يعكس مدى تقدم الأمم وتأخرها في حلبة التنافس العلمي والتكنولوجي والثقافي.. ومعلوم أن الدول العظمى ينصب اهتمامها أبدًا على تجديد الوسائل والمناهج والاستراتيجيات البيداغوجية في مسعى للصراع على القمة والهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. 3 – إن نظرة خاطفة على ما يُنشر من دراسات ومقاربات جادة حول الموضوع المقصود بالمعاينة، تجعلنا نستنتج دون عناء يذكر أن هناك شبه يقين بانحدار التعليم المغربي، وفشله الذريع في تحقيق الأهداف المنوطة به كما وكيفًا، من قبيل تعميم التمدرس وتكافؤ الفرص والاستفادة من تعليم عصري يتسم بالجودة ومستلزمات الحداثة وسوق الشغل. ولعل تقارير المؤسسات الوطنية (التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي)، والتقارير الدولية (البنك الدولي) تُغني عن أي إبحار في عالم الأدبيات التربوية المغربية للتأكد من هزالة "المحصول المدرسي"، إلى درجة أفضت بالبعض إلى "الاقتناع" بأن إمكانية إصلاح التعليم بالمغرب أضحت مستحيلة. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا الإحباط القاتل؟ وهل فعلاً فقدنا الأمل في إحياء مدرستنا العمومية على وجه الخصوص، وعودتها إلى لعب أدوارها الطلائعية في تكوين الناشئة وتأطير المتعلمين وإعدادهم لبناء مغرب الغد؟ ليست أزمة التعليم وليدة اليوم بقدر ما أنها ضاربة في التاريخ المعاصر، فمنذ استقلال المغرب سنة 1956 والحديث عن إصلاح المنظومة التربوية لم يتوقف، جراء إقحامه في الشأن السياسي والصراعات الأيديولوجية الظرفية وتضارب مصالح الفاعلين في الشأن المجتمعي، وإذا اقتصرنا على العقدين الأخيرين من تاريخ المملكة الحديث سندرك أن جهودًا "هرقلية" بُذلت من أجل تدارك الخلل وتجاوز المعيقات المكبلة لأي انطلاقة فعلية نحو الأفضل، ولعل الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999) قد مثل دستورًا تربويًا بمعنى الكلمة، إذ جاء نتيجة عمل تشاركي وتوافقي، شاركت في صياغته كل مكونات الشعب المغربي باختلاف الحساسيات الثقافية والإيديولوجية والسياسية. وإذا أضفنا إلى جانب ذلك باقي النصوص والقوانين والوثائق المماثلة، وعلى رأسها المخطط الاستعجالي (2009-2011)، والخطب الملكية والدستور المغربي الجديد (2011) والرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين.. والتصريحات الحكومية المتتالية سنجدها تتوافق والقوانين التربوية العالمية، دون أدنى مبالغة مجانية، ولئن كان بعض المعنيين بالشأن التربوي يشتكون من قلة الموارد المادية، وضعف الميزانية المخصصة لمجال التعليم، فإن المملكة المغربية قد وضعت رهن إشارة وزارة التربية الوطنية في السنوات الأربعة الأخيرة أغلفة مالية فلكية، من أجل "انتشال" المنظومة التعليمية من مخالب الانهيار المأساوي، رغبة في تكوين وتأهيل الموارد البشرية و"مكننة" المعطى البيداغوجي وتوفير مستلزمات تكنولوجيا الإعلام الحديث.. دون تحقيق أي تقدم ملموس كما وكيفًا، فما العمل!؟ 4 – في خضم ركام هائل من "القراءات" المجمعة على قتامة واقع وأبعاد التعليم المغربي، وعدم "جاهزيته" لتقبل أي علاج يخرجه من قاعة العناية المركزة، نجد عددًا غير قليل من المعنيين بقضايا التعليم الوطني والدولي، يتطلعون إلى اجتراح حلول أكثر نجاعة وعقلانية، بعيدًا عن النزعة العدمية الموغلة في الانشغالات السياسية محدودة الأفق، ومن أبرزهم الباحث الجامعي والأستاذ المجتهد الدكتور عبد الله ساعف، الذي طالما آمن بما أسماه بالتفاؤل المأساوي المتمثل في أن هناك دائمًا بابًا مفتوحًا للإصلاح، يجمع بين الوعي الجدلي العميق بهشاشة المنظومة التعليمية، والتسلح بالرؤية الإنسانية المؤمنة بالإصلاح والتجديد والوصول إلى بر الأمان.. وصاحب هذه السطور يؤمن دون ادعاء مصطنع، بإمكانية حقيقية لتجاوز الباب المسدود الذي وقف عنده "نسقنا" التعليمي، كما أنه متيقن بأن نهضة تاريخية للجسم المدرسي والجامعي لا تقتصر على عقد اللجان وتنظيم المؤتمرات والمناظرات التربوية، وإخراج مواثيق وقوانين ونصوص جديدة، وتجديد الوسائل والطرق البيداغوجية المتجددة باستمرار.. فعلى الرغم من أهمية هذا المنحى، فإننا مطالبون بإحداث إصلاح سياسي حقيقي يتخذ من الديمقراطية نقطة انطلاقه، لأنه لا يمكن إصلاح التعليم في أي بلد دون إصلاح الحياة السياسية العامة، كثيرة هي الجهود المادية والمعنوية المضنية التي بذلت على أمل بلورة هذا الإصلاح الذي يأتي ولا يأتي، وطالما توقفنا في وسط الطريق، لم نهتم بحال من الأحوال بما يسمى في عالم التجارة والتسويق بخدمة "ما بعد البيع". 5 – فهل قمنا بتتبع المشاريع الهيكلية العملاقة التي كلفت المغرب غاليًا؟ هل نوفر لهذه المهنة الشريفة ما يكفي من الكفايات الثقافية والتشريعية والبيداغوجية والأخلاقية؟ هل تُسند المناصب الكبرى والصغرى لمن هو أجدر وأحق بها؟ هل نضع الرجل المناسب في المكان المناسب لتحمل المسؤولية التعليمية الصعبة؟ هل تتم مراقبة ومحاسبة الإنجاز التربوي للمدرسين والأطر الإدارية بشكل منظم ومنهجي بعيدًا عن مسلكيات التطهير المناسباتية؟ ... يؤلمني أن أقول بأن الجواب على كل هذه الأسئلة وما يماثلها سيكون بالنفي المطلق. مأساتنا نحن في مغربنا العزيز أننا نبذل قصارى جهدنا في البحث والتنظير والتخطيط والبرمجة.. فليجرب مسؤولو قطاع التربية والتعليم الوطني، ولو مرة واحدة، الانتقال من فضاء الأقوال إلى عالم الأفعال الملموسة، والموضوعة تحت المراقبة والمحاسبة الدائمتين، إنه لا ينقصنا اللعب الجيد، بل ينقصنا تسجيل الأهداف الإستراتيجية والتاريخية.