من منجزات الأمس إلى رهانات الغد منذ مطلع الألفية الثالثة، عرف المغرب تحوّلات كبرى شملت مختلف الميادين: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية. فقد تمّ تشييد وتحسين البنى التحتية في مختلف جهات البلاد (الطرق، الموانئ، المطارات، القطار الفائق السرعة...)، وإطلاق برامج النهوض بقطاعات إستراتيجية كالفلاحة والصناعة والطاقات البديلة، وإصلاح مدوّنة الأحوال الشخصية سنة 2004 بما يضمن كرامة الأسرة المغربية ويعزّز مكانة المرأة، كما أُغلق ملف الاعتقال السياسي في إطار هيئة الإنصاف والمصالحة، في خطوة تاريخية نحو طي صفحة الماضي وترسيخ ثقافة العدالة الانتقالية. توالت بعد ذلك الإصلاحات الدستورية، وكان أبرزها دستور 2011 الذي رسّخ مبدأ فصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، وكرّس اللغة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، في اعتراف صريح بغنى الهوية الوطنية وتعدّد روافدها. وفي ميدان التعليم، الولوج الشامل للتعليم الابتدائي، وتفعيل الاستراتيجية الوطنية. وتمّ إطلاق برامج إصلاحية كبرنامج نجاح ومنهج «مسار» وتوسيع المنح الدراسية للفئات المعوزة، مع تطوير المناهج الجامعية وتشجيع البحث العلمي. كما رُصدت ميزانيات ضخمة لتأهيل المنظومة التربوية ومحاربة الأمية والهدر المدرسي، وتكوين الأطر الوطنية تكوينًا ينسجم مع متطلبات سوق الشغل. وفي مجال الصحة، تم تعميم التغطية الصحية الإجبارية (AMO) ، وإنشاء وتجديد عدد من المستشفيات الجامعية (CHU) ، ورقمنة القطاع الصحي، إلخ. وعلى الصعيد الاقتصادي، اعتمد المغرب سياسات جديدة لجذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وتطوير قطاعات واعدة كالصناعة والطاقة المتجددة والسياحة والفلاحة. كل ذلك في ظل قيادة رشيدة جعلت من الاستقرار السياسي والتنمية البشرية ركيزتين أساسيتين للنهوض الوطني. لكن رغم التقدم الحاصل، ما تزال الفوارق الاجتماعية والإقليمية قائمة، فالعديد من المناطق ما تزال تعاني من ضعف البُنى، ومن ضعف الخدمات الأساسية (الصحة، التعليم مثلا)، ولا يزال التأثير الكامل والإيجابي لبعض القوانين محدودًا بسبب بطء التنفيذ أو البيروقراطية. ويعكس الطلب الاجتماعي والاحتجاجات (خصوصًا بين الشباب) أن الكثير من المواطنين يشعرون بأن الإصلاحات لم تسر بالسرعة أو العمق الكافيين. واليوم، بينما يشهد المغرب تقدمًا ملحوظًا في شتى المجالات، تتجدّد النقاشات والاحتجاجات التي يقودها "جيل زد" في عدد من المدن والبلدات، مطالِبةً بإصلاح التعليم والصحة وتحسين الخدمات الاجتماعية، بل وتغيير الحكومة وحلّ البرلمان. وهي مطالب تعبّر عن وعي متزايد لدى الشباب ورغبة صادقة في المساهمة في بناء المستقبل، لكنها تحتاج أيضًا إلى روح المسؤولية والتبصّر بالمرحلة الدقيقة التي يمرّ منها الوطن. إن الحكومة والبرلمان الحاليين لم يتبقَّ من ولايتهما سوى أشهر قليلة، وستكون الانتخابات المقبلة مناسبةً للشعب ليقول كلمته عبر صناديق الاقتراع، ويختار النخب القادرة على مواصلة الإصلاح وتحمل المسؤولية. وكما أكّد جلالة الملك محمد السادس في خطابه أمام البرلمان يوم الجمعة الماضي، لا تعارض بين المشاريع الرياضية الكبرى التي تسهم في التنمية، وبين إصلاح منظومتي التعليم والصحة وخلق فرص الشغل للشباب. وقد دعا جلالته الحكومة إلى تسريع وتيرة الإصلاحات والاهتمام أكثر بالتنمية المجالية المتوازنة والعدالة الاجتماعية. الحكامة الجيدة ضرورة لا ترفًا إنّ رهان المرحلة المقبلة يتطلّب ترسيخ ثقافة الحكامة الجيدة، بما تعنيه من شفافية، ومساءلة، وتدبير عقلاني للموارد، وتفعيل حقيقي لربط المسؤولية بالمحاسبة. فالمغرب لا يحتاج فقط إلى مشاريع كبرى، بل إلى مؤسسات فعالة وإدارة مواطِنة قادرة على تحويل الخطط إلى إنجازات ملموسة. فالحكامة ليست شعارًا إداريًا، بل رؤية شاملة تجعل من المصلحة العامة أولوية فوق كل اعتبار. العقلانية والحوار سلاح المرحلة إنّ التحديات الراهنة تفرض اعتماد مقاربة هادئة، مبنية على الحوار الوطني المسؤول، الذي يُنصت للجميع دون استثناء. فالعقلانية السياسية هي التي تحافظ على وحدة الصف وتمنع الانزلاق نحو الفوضى. لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض وسط الضجيج والاتهامات المتبادلة، بل من خلال النقاش الهادئ والاقتراحات البناءة. لذلك، فالحوار بين الدولة والمجتمع المدني، بين الحكومة والشباب، هو الضمانة الحقيقية لاستمرار الإصلاح دون انقطاع. خطر الأخبار الزائفة والدعاية المغرضة وفي زمن الثورة الرقمية، تبرز تحديات جديدة تتمثّل في سيل الأخبار الكاذبة والشائعات المغرضة التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الأخبار، التي تُروَّج أحيانًا بنية التضليل أو التأثير في الرأي العام، تشكّل خطرًا حقيقيًا على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فهي تزرع الشكّ، وتغذّي الانقسام، وتُضعف الثقة في المؤسسات. لذلك، أصبح الوعي الإعلامي ضرورة وطنية، وعلى المواطنين –وخاصة الشباب– أن يتحرّوا المعلومة من مصادرها الموثوقة، وأن يدركوا أنّ الحرية لا تنفصل عن المسؤولية. نحو وعي وطني جديد إنّ بناء المستقبل يمرّ عبر ترسيخ ثقافة المشاركة الواعية، والمسؤولية الجماعية، والإيمان بأن الإصلاح لا يأتي من الشارع وحده، ولا من المكاتب المغلقة، بل من تفاعل الإرادتين: إرادة الدولة وإرادة الشعب. فالوطن ليس مشروع طرف واحد، بل هو تعاقد دائم بين الجميع من أجل المصلحة العليا. إنّ المغرب اليوم في حاجة إلى كل طاقاته الخلّاقة، إلى العقول التي تفكّر بصفاء، والقلوب التي تؤمن بالعمل والمثابرة، لا إلى خطابات اليأس أو ثقافة الاتهام. فبالحوار والحكمة، وبالحكامة الرشيدة، وبمواجهة التضليل والعنف الرمزي، يمكن للمغرب أن يواصل طريقه بثقة نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنصافًا وازدهارًا.