أين الثروة؟ أين الرأسمال غير المادي؟...هذه أسئلة يطرحها المغاربة خلال الأيام الأخيرة بمختلف مستوياتهم وشرائحهم ومواقعهم، وهي بدون شك أسئلة فرعية ومقدمة لطرح السؤال الكبير أين المغرب وأين نحن من هذا العالم؟ على كل حال، هي أسئلة جريئة وآنية، كثيرا ما تطرح الشعوب والدول الجادة نظيرها خلال مراحل ولحظات الإحساس بالأزمة وعودة التفكير الجدي في الكيان والمآل والرغبة في إعادة صياغة وتصحيح النظرة المتوارثة عن الذات وإلى العالم، وذلك بما يفضي إلى تجاوز الأوضاع القائمة في مختلف أبعادها ومسبباتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وإلى تجاوز أزماتها وتحقيق انبعاثها الوطني. وإذا كانت الثروة المادية ترتبط مجملا بالإنتاج الداخلي الخام لبلد ما، كما يبدو من السهل والواضح صياغة أجوبة عن السؤال الأول، أي أين الثروة؟ حيث يكفي معاينة دارة الإنتاج الوطني ونسيجه الاقتصادي والبنية السياسية التي تفرزه وتحكمه وتستفيد منه، لتتضح جل أشكال ومنافذ الهدر والاستنزاف والاستغلال التي تطال خيرات وثروات المغرب، فإن البحث في الرأسمال الا مادي، وتحليل مقوماته وأشكال الاستنزاف والهدر التي طالته بدوره، يتطلب لا محالة تحليل ونقد مختلف الاختيارات والشروط التي تتحكم في بناء الشخصية الفردية والوطنية المنتجة، خاصة الهوياتية والثقافية وتمثل المواطنين لذواتهم وكيانهم الجمعي وعلاقاتهم بالآخر وبالعالم المتغير من حولهم ، وما ترتب عنها وارتبط بها من سياسات عمومية وخطابات إيديولوجية وقرارات إستراتيجية همت مختلف مجالات ومستويات تدبير الشأن العام الوطني. وبما أن جل المغاربة يعرفون مصير ثروة المغرب المادية، وما لحقها من نهب واستغلال واستنزاف، فالقليل من يعرف ويدرك أهمية سؤال الثروة غير المادية للمغرب، ما هي؟ وما علاقتها بالثروة المادية؟ وما مصيرها بدورها؟ بكل اختصار، الثروة غير المادية هي الإنسان المغربي، أي مجموع مقومات الكفاءة البشرية التي يمتلكها المغاربة والتي تشكل كيانهم الفردي والجمعي، وتميز محيطهم السوسيوثقافي، وتحدد وجودهم وقدراتهم على الإنتاج والإبداع والتطور. بهذا المعنى، توجد على رأس هذه المقومات الطاقة الخلاقة الوطنية التي تنهل من المادة الرمادية وذكاء العقل المغربي، ومن دافعية الوجدان والحس وإبداعية الخيال والفكر، أي الإمكان الذاتي والوطني نتيج الخيارات الهوياتية والثقافية التي تشكل كيانه، والتكوين والمعرفة التي تبرز قدراته وتغذيه، وكل ما يرتبط بذلك من مقومات ومسارات التنشئة سواء من خلال التخطيط والتدبير السياسي والاقتصادي، أو من خلال مجالات الحياة الثقافية وأشكال التعبير والإبداع الفني. سبق أن وضحنا في كتابات سابقة، خاصة في كتابنا الأمازيغية والمغرب المهدور الصادر سنة 2013، بأن الأمازيغية ليست مجرد معطى لسني أو ثقافي بسيط يمكن غظ الطرف عنه أو تجاوز النقاش العميق حوله، أو اختزالها في تدابير ظرفية وفئوية، حيث الارتباط الوطيد الذي يجمع بين مشروع إعادة الاعتبار لأمازيغية المغرب عبر المدخل الإنسي والتاريخي والسياسي وبين رهان وقف نزيف الهدر الذي يطال الإمكان الوطني، وذلك من أجل تحريره وتوظيفه الخلاق في عمليات الدمقرطة والتنمية والتحديث الشاقة (مقتطف من خاتمة الكتاب). وبهذا المعنى، فالمقصود بالأمازيغية هو أساس الشخصية المغربية بمختلف مكوناتها اللسنية والثقافية الأخرى، وفي أبعادها المجالية والإنسية العميقة. أي كل هذا التعدد والتنوع الذي تشكل ويتشكل داخل توليفية أمازيغية تؤطر بطابعها الثقافي العام ونصغها الإنسي العميق وجودها واختلافها وديناميتها واستمراريتها في المكان والزمن. فالأمازيغية باعتبار الثلاثي المشكل لمقومها الثقافي ومشروعها الإنسي وخطابها التصحيحي، أي اللغة والأرض والإنسان awal d wakal d ufgan ، تتقدم على المستوى الأنثربولوجي كأساس الثروة اللامادية للمغرب، وروحها اللاحمة والممانعة، والتي تبقى للأسف والجهل الشديدين ثروتنا وإمكاننا الوطني المهدور. عندما نتمعن جيدا في وضع الهدر الذي طال المغرب إنسانا وإمكانا وثروات ووطن، وعندما نحلل أساس المعضلة التنموية والديموقراطية، يمكن أن نخلص بكل وضوح إلى أن ثروتي المغرب المادية وغير المادية مترابطتان من حيث وضعيتهما وكيفيات تدبيرهما ومصيرهما، حيث من الواضح أن من نهبوا ثروة المغرب المادية هم نفسهم من نهبوا ثروته غير المادية. فاستغلال الثروة غير المادية والهيمنة على الإنسان واستيعاب مقدوراته ووجوده الاجتماعي والثقافي داخل بوتقة التحريف والاستلاب، كانت أهم الآليات السياسية والثقافية والإيديولوجية التي اعتمدتها الفئات والأطراف المهيمنة لإخضاع الإنسان واستغلال الموارد الطبيعية وخيرات البلاد والنسيج والناتج الاقتصادي الوطني. لقد حان الوقت أن يتحول المغرب إلى بلاد ووطن قائم الذات، ليس بالمعنى القانوني والدستوري الدولي، وبمفهوم السيادة فحسب، لكن قصدنا أن يصير المغرب "كنس بين الكناس" التي تستطيع ضمان موطئ قدم ومستقبلها في عالم متغير ومهدد. وهذا لا يمكن أن يتحقق دون الحسم في اختلافه ككيان وطني يمتلك كامل الأهلية الحضارية والشخصية بعيدا عن الشرق وعن الغرب، وذلك عبر إعادة الاعتبار بقوة لأمازيغيته التي تشكل بالمفهوم الألماني volguest روح شعبه. إن أخطر تهديد حقيقي للمغرب ومستقبله الوطني، خصوصا في ظل الوضع الدولي الراهن وتحولات العالم من حولنا، هو هدر إمكانه الا مادي وتهجين كيانه على المستوى الهوياتي والثقافي. وإذا كانت جل الشعوب والبلدان التي استطاعت أن تحقق التطور والنماء في العالم، وفي ظرف قياسي، اعتمدت أساسا في بنائها الوطني على مقومات اختلافها الثقافي وتاريخها الحضاري وعمق وجودها الاجتماعي الذي يؤطر مشروعها الديمقراطي والعلمي والاقتصادي، فإنه من الأكيد أنه لا مستقبل للمغرب إلا في أمازيغيته. ولكم في النموذج الياباني والألماني والكوري والتركماني... خير دليل.