وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الزيادة في الأجور لأسرة التعليم نهاية أبريل    المئات يشيعون الأمين بوخبزة في جنازة مهيبة بتطوان بحضور شخصيات وطنية (صور)    صندوق النقد الدولي يكشف توقعاته بشأن اقتصاد المغرب    "ريمونتادا" سان جيرمان ترسل برشلونة خارج دوري أبطال أوروبا    رباعية مثيرة تعود بدورتموند إلى المربع الذهبي الأوروبي    الإعدام ل"ولد الفشوش" قاتل الطالب بدر والمؤبد ل "القاتل المتطوع"    آيت الطالب يعطي انطلاقة خدمات 43 مركزا صحيا حضريا وقرويا بجهة الشرق (صور)    وزير الفلاحة: ارتفاع معدل التساقطات المطرية إلى حدود أبريل ب 9 في المائة مقارنة مع السنة الماضية    توجاد الحكومة للعيد الكبير بدا.. شي زوج مليون راس للي ترقمات وتجهز 34 سوق مؤقت لتعزيز الأسواق لي كاينة وتسجلات 210 آلاف وحدة تسمين    جلسة مجلس الأمن المغلقة حول الصحرا سالات.. إجماع على دعم المبعوث الشخصي فمهمتو وها شنو باغية الجزائر من دي ميستورا    الملك محمد السادس يهنئ بيتر بيليجريني بمناسبة انتخابه رئيسا لجمهورية سلوفاكيا    الوداد والرجاء ومعهم 2 فرق مغربية ضمن 15 أحسن فريق إفريقي باغيين يشاركو فالسوبر ليگ الإفريقي    محمد المرابطي ربح أطول وأصعب مرحلة فماراطون الرمال    الوزير الأول البلجيكي يغادر المغرب في ختام زيارته للمملكة    الصراع على رئاسة لجنة العدل والتشريع مستمر..السنتيسي ل"گود:" مغاديش نتنازلو على هاد المنصب والفريق الاشتراكي خالف الاتفاق اللي كان فاللول وها اش كيقول التمثيل النسبي    السطو على محل لبيع الذهب فكازا متبوع بالعنف: ها كيفاش تم الاستيلاء على كميات كبيرة ديال الحلي والمجوهرات والديستي دخلات على الخط (صور)    قاضي التحقيق ففاس هبط جوج عدول لحبس بوركايز بسبب تزوير وكالة لبيع عقار: جاو عندو فحالة سراح والخبرة فضحاتهم    البي بي اس حتى هو مامفاكش قبل اجتماع رؤساء الفرق مع الطالبي العلمي.. قيادي ل"كود": مغاديش نتنازلو على منصب النائب السادس لرئيس مجلس النواب    مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يقدم استقالته    صواريخ صدام ومسيرات إيران: ما الفرق بين هجمات 1991 و2024 ضد إسرائيل؟    ماتش سفيان رحيمي وياسين بونو فشومبيونزليگ دارو له وقت جديد    4 دول خليجية تواجه أمطارا غزيرة    خلال أسبوع.. 26 قتيلا و2725 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    حافلة للنقل العمومي تفقد السيطرة وتتسبب في إصابات وخسائر مادية جسيمة    بنسعيد: حماية التراث المغربي مسؤولية مشتركة .. ودعم صناعة السينما يزدهر    معرض مغاربي للكتاب بوجدة.. تعرفوا على أهداف هذه الدورة    الأمثال العامية بتطوان... (574)    علماء أمريكيون يحذرون من تأثير مادة "الباراسيتامول" على صحة القلب    بلاغ جديد وهام من الصندوق المغربي للتقاعد    كلفت أكثر من ربع مليار درهم.. تدشين المجازر الجهوية للرباط سلا الصخيرات تمارة    سانشيز: كأس العالم 2030 "سيكون ناجحا"    الحسن أيت بيهي يصدر أولى إبداعاته الأدبية    شركة ميتا تكشف عن سعيها لإحداث ثورة في التعليم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    نجم برشلونة الإسباني: لا إحساس يضاهي حمل قميص المنتخب المغربي    ابن كيران: رفضنا المشاركة في ملتمس الرقابة بسبب إدريس لشكر(فيديو)    مساء اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : لمحات من سيرة وشعر الأمير الشاعر المعتمد بن عباد دفين أغمات    تأجيل جلسة البرلمان المخصصة لعرض الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة إلى وقت لاحق    دونالد ترامب في مواجهة قضية جنائية غير مسبوقة لرئيس أمريكي سابق    إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024 من مدينة أولمبيا اليونانية    الحصيلة الإجمالية للقتلى ترتفع في غزة    كمية الصيد المتوسطي تتقلص بالمغرب    هذه مستجدات إلغاء ذبح أضحية عيد الأضحى لهذا العام    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    دراسة: الشعور بالوحدة قد يؤدي إلى مشاكل صحية مزمنة    كيف يمكن أن تساعد القهوة في إنقاص الوزن؟: نصائح لشرب القهوة المُساعدة على إنقاص الوزن    هجوم شرس على فنان ظهر بالملابس الداخلية    عبد الإله رشيد يدخل على خط إدانة "مومو" بالحبس النافذ    مؤسسة منتدى أصيلة تنظم "ربيعيات أصيلة " من 15 إلى 30 أبريل الجاري    دراسة تحذر من خطورة أعراض صباحية عند المرأة الحبلى    المدرسة العليا للأساتذة بمراكش تحتفي بالناقد والباحث الأكاديمي الدكتور محمد الداهي    مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان يدعو إلى انهاء الحرب في السودان    العنصرية ضد المسلمين بألمانيا تتزايد.. 1464 جريمة خلال عام وجهاز الأمن تحت المجهر    هذه طرق بسيطة للاستيقاظ مبكرا وبدء اليوم بنشاط    الأمثال العامية بتطوان... (572)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    مدونة الأسرة.. الإرث بين دعوات "الحفاظ على شرع الله" و"إعادة النظر في تفاصيل التعصيب"    "الأسرة ومراعاة حقوق الطفل الروحية عند الزواج"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



براءة أم المؤمنين عائشة من رواية أكذوبة سحر الرسول عليه السلام
نشر في هسبريس يوم 27 - 06 - 2015


3/3
ذكرنا في الجزء السابق تسعة أوجه لبطلان خرافة سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ونواصل إيراد أوجه أخرى دفاعا عن جناب النبي، وإسكاتا لأصوات القادحين في نبوته، وطمأنة للشباب المسلم الحائر المستهدف.
نقول له: مقولة صحة كل أحاديث "الصحيحين" مبالغة غير مسلمة، فلا تنزعج من وجود أسطورة السحر فيهما، ولا تشوش عليك شبهات المهاجمين، فما تضمنه القرآن وحده الثابت الصحيح بلا جدال.
وأزيدك براهين شرعية وعقلية على بطلان الخرافة سندا ومتنا، وعلى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بريئة كل البراءة من التحديث بهذا البهتان العظيم، فلا تلتفت للطاعنين عليها الظالمين لها.
ونعلم أن خبر السحر ورد عن غير أم المؤمنين، لكن من طرق ضعيفة واهية، وبمتون منكرة متناقضة، فلا تصلح شاهدا لها، ونركز على خبر السيدة عائشة لأنه عند الشيخين، أي أنه منتقى وراجح على غيره كما يدعي القائلون بصحة كل ما في الصحيحين.
إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بريئة من رواية أكذوبة السحر مظلومة، ظلمها الكذاب الدجال الذي نسب إليها الخرافة، وظلمها هشام بن عروة الذي روجها، وظلمها ويظلمها علماؤنا الذين يصدقون الأسطورة ويصححونها ويبذلون المهج دفاعا عن ثبوتها.
الوجه العاشر: شدة الاضطراب تفضح المخلط أو الكذاب:
عندما تتناقض روايات الخبر الواحد، ويكون إسناد كل رواية صحيحا، يسمى حديثا مضطربا، فيبحث المحدثون عن الوجه الأقوى بناء على مرجحات معروفة، فيعتمدونه ويسمونه راجحا أو محفوظا، ويحكمون على الوجه المرجوح بالضعف.
أما إذا تعددت أوجه الاضطراب، وتعذر الجمع والترجيح، فالحديث مضطرب لا يؤبه له ولا يذكر إلا على سبيل التمثيل والاستغراب.
وإن شدة الاضطراب والتناقض الفاحش بادية على روايات "حديث" السحر المروي عن السيدة عائشة، وكلها روايات صحيحة الأسانيد إلى هشام بن عروة، فلا نشك أنها من تخليطاته وتناقضاته، وقبح تضاربها المانع للجمع شاهد شرعي وعقلي على أنه كان مختلطا فاحش الغلط سيء الحفظ في آخر حياته، وبرهان منطقي على أنه كان مستعدا لقبول التلقين والاستغفال من قبل الزنادقة أعداء الدين.
لقد كان هشام بن عروة يحكي القصة على أوجه متناقضة لا تقبل التوفيق والتأويل، يحدث هذا بطريقة وهذا بخلافها، فإما أن تفاصيل الأسطورة من وضع دجال نجح في تمريرها عليه، أو أنها خيالات وأحلام شيطانية تراءت له في اليقظة أو المنام، فكانت تختلط عليه بالأسانيد والمتون فيظنها حديثا منسوبا إلى خير الأنام.
وهذه أهم أوجه الاضطراب التي تجعل القصة خرافة كالسراب:
الاختلاف في حقيقة الساحر:
قال هشام في رواية عند البخاري: ( فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا -)، وفي رواية ثانية عند أحمد والبخاري: ( وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ )، وعند مسلم في الصحيح: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ).
فظهر أن هشاما اضطرب في حقيقة الساحر، فكان يحدث مرة أنه يهودي، ومرة أنه منافق حليف ليهود.
وبنو زريق فرع من أهل المدينة العرب، لم يكونوا يهودا، بل كانوا مشركين ثم صاروا من الأنصار بعدما أنارت المدينة بهجرة منير الدار، فيستحيل أن يكون أحدهم يهوديا.
وهنا سيرجح المدافعون أن لبيدا كان منافقا حليفا لليهود، وهذا الترجيح لا يعفي هشاما من التناقض، ولا يبرئه من سوء الحفظ والتخليط، ولا مجال لنسبة الاضطراب للرواة عن هشام، فالأسانيد صحيحة إليه بواسطة أئمة حفاظ، ثم هو موصوف بالاختلاط، فهو المسئول.
الاختلاف فيمن أرشد النبي إلى مكان السحر:
قال في رواية عند البخاري: (أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ)
نفهم من هذا الوجه أن الرجلين جاءا النبي في اليقظة، وتشير بعض الروايات أن ذلك تم في المنام، وهذا اضطراب شديد.
ونستفيد من الرواية أيضا أن الرجل الذي شخص حال النبي هو الذي كان عند رجله الطاهرة، لكن تنقضها هذه الرواية عند البخاري: ( فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي ما بال الرجل؟ قال مطبوب)، فتدل على أن المشخص هو الذي كان عند الرأس الشريف.
وفي ثالثة عند البخاري، احتاط هشام لنفسه فقال فيها: ( فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ...)
وفي رابعة كشف تخبطه رحمه الله فقال عند أحمد ومسلم: (جَاءَنِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ، أَوِ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي...)
وأحيانا كان يجعل الملكين مكان الرجلين، ففي مسند أحمد وسنن النسائي ومسند ابن راهويه وصحيح ابن حبان: (أَتَانِي مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ...)
فهل كان النبي نائما أم يقظا؟ وهل جاءه رجلان أم ملكان؟ ومن الذي شخص حاله؟
أسئلة تبقى أجوبتها معلقة لأن هشام بن عروة ( كان يدخل ويخرج في كلامه )، وهذا هو المؤكد الوحيد.
الاختلاف في المواد التي عمل فيها السحر:
عند البخاري وغيره في رواية: ( في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر )، وعنده في ثانية: ( فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ).
والمُشَاطَةُ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ، وَالمُشَاقَةُ: ثوب من الكَتَّانِ، فهل هي "المشاطة" أم "المشاقة" يا هشام يغفر لك الرحمن؟
الاختلاف في اسم البئر الذي وضع فيه السحر:
عند البخاري في رواية: ( في بئر ذروان)، وعند مسلم وغيره: ( فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ)، وعند أحمد: ( فِي بِئْرِ أَرْوَانَ)، وهذا اضطراب يدل على أن القصة وحي شيطان.
الاختلاف في استخراج السحر من عدمه:
قال هشام مرة عند البخاري: ( فخرج إليها النبي صلى الله عليه و سلم ثم رجع، فقال لعائشة حين رجع: (نخلها كأنه رؤوس الشياطين). فقلت: استخرجته؟ فقال: ( لا، أما أنا فقد شفاني الله وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا ). ثم دفنت البئر).
فدلت هذه الرواية على أن النبي لم يستخرج السحر، واكتفى بطمر البئر وهدمها، وأنه خشي على الناس شرا من استخراج السحر.
وعند الشافعي والبخاري ما ينقض الخبر جملة وتفصيلا حيث قال السيد هشام مرة: ( فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَذِهِ البِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ» فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلَّا، تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» وهذا الوجه من الاضطراب لم يستطع الشراح تأويله إلا بالمضحكات المبكيات، كيف لا وكل روايات الصحيح مسلمة عندهم كالقرآن؟
الاختلاف في مدة السحر:
اضطرب هشام في مدة السحر، فكان يقول أحيانا كما في صحيح البخاري وغيره: ( مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلاَ يَأْتِي...)
أي أنه نسي المدة التي أخبره بها الدجال أو أوحاها له الشيطان في منامه، فكان لا يحددها في الغالب، وكان يتذكرها حينا فيذكرها، فروى أحمد في مسنده ط الرسالة (40/ 405) بإسناد صحيح إليه عن أبيه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَبِثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي وَلَا يَأْتِي.
وربما كان يحددها هشام في ستة أشهر، لكن الرواة والمصنفين لم يستسيغوها فحرفوها وجعلوا مكانها (كذا وكذا)، وكذلك يفعلون عندما لا يعجبهم أمر في الخبر.
والراجح أن الاختلاف من هشام غفر الله لنا وله.
الاختلاف فيما قالته السيدة عائشة آخرا:
اضطرب هشام في الجملة الأخيرة من أسطورته اضطرابا فاحشا كما ترى:
عند مسلم وأحمد: قَالَتْ عائشة: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أَحْرَقْتَهُ؟ قَالَ: «لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ».
وفي مسند إسحاق بن راهويه: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أَسْتَخْرِجُهُ، فَقَالَ: «قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ شَرًا»
وفي صحيح ابن حبان: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلَّا أَحْرَقْتَهُ أَوْ أَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَيْئًا» ، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ وفي صحيح البخاري وغيره: ( يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلَّا، تَعْنِي تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...) وفي شرح أصول الاعتقاد لللالكائي: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَنْتَصِرُ؟ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا» ، قَالَتْ: «وَنَزَلَتْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، حَتَّى خَتِمَتِ السُّورَةَ»
اقترحت عليه أن يحرقه في الأولى، وطلبت إخراجه في الثانية، واستغربت عدم التحريق والإخراج في الثالثة، وأشارت عليه بالنشر أي التبرك بالماء في الرابعة، والانتصار من الساحر في الخامسة، وأضافت أن المعوذتين نزلتا بسبب سحر لبيد في هذا الطريق الشاذ المنكر... هكذا يتخبط هشام في قص الحكاية، والمحدثون يصدقونها إلى النهاية، يستثقلون رميه بالوهم والنسيان، ولو بالإساءة للنبي العدنان. ومعاذ الله أن نعطل عقولنا فنجاريهم، ونلطخ قلوبنا بنسبة القبائح لمولانا رسول الله.
الوجه الحادي عشر: هشام بن عروة مدلس مختلط صاحب مناكير، فالسند ضعيف جدا:
كان هشام بن عروة إماما ثقة صادقا مرضيا حافظا متقنا، وفي آخر حياته أصبح سيئ الحفظ كثير الأوهام والنسيان، وصار مختلطا تختلط عليه محفوظاته ببعضها، فلا يميز بين ما هو حديث وما هو حكاية أو أسطورة، ويسند الأساطير والخرافات الشائعة في مجتمعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، وينسب أقوال التابعين أو الصحابة إلى النبي، ويسمع الخبر الذي قد يكون أكذوبة من بعض معاصريه ينسبه إلى النبي من غير إسناد، ثم ينسى هشام فيجعل للخبر المنقطع سندا نظيفا، غالبا ما يكون عن أبيه عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين.
وربما حدثه أبوه الثقة الصادق الإمام بخرافة شعبية، أو قال له كلاما من بنات أفكاره، أو أرسل عن الرسول خبرا منكرا دون أن يسنده إلى أحد الصحابة، ويكون الخبر إشاعة استساغها عقل عروة رحمه الله، أو حدثه به يهودي متأسلم أو ملحد زنديق، فيأتي هشام بعد ضعف حفظه وغلبة النسيان عليه وينسب كلام أبيه إلى رسول الله، أو يجعل بين أبيه والنبي صحابيا كالسيدة عائشة.
وكان هشام أيضا مدلسا التدليس القبيح، يسمع الخبر من الراوي الذي لا يرضاه لجهالته أو ضعفه، فيسقط شيخه الذي قد يكون يهوديا متأسلما أو زنديقا متخفيا ويروي الخبر عن شيوخه الموثوقين دون التصريح بالسماع منهم، فيقول "عن" ولا يقول: "سمعت" أو "حدثني" أو "أخبرني". وهذا التدليس نوع من الخداع والتلاعب بالدين، يجعل مرويات صاحبه متهمة مشكوكا فيها حتى ولو صرح بالسماع، خصوصا إذا ثبت اختلاطه وتحديثه بعد كثرة النسيان، فالمدلس الذي لا يكذب يروي بالعنعنة ما كان ضابطا ويروي تدليساته مصرحا بالسماع إذا اختلط وضعف حفظه وقل ضبطه.
وهشام بن عروة من هذا النوع، كان يسقط الراوي الضعيف المعلوم عنده ثم يروي بالعنعنة عن أبيه وغيره أيام كان ضابطا، وربما صرح بسماع ما كان يدلسه بعد اختلاطه وسوء حفظه. والمحدثون يعرفون هذه الحقائق عن هشام بن عروة، لكنهم يستحون منه لجلالته في النفوس من جهة، ولأنهم ابتدعوا مقولة تزعم أن رجال الصحيحين تجاوزوا القنطرة أي حصلوا على طابع إلهي يشهد لهم بالصدق وعدم الوهم والنسيان، كما اخترعوا خرافة مفادها أن البخاري ومسلما رحمهما الله لم يكونا يخرجان لهشام بن عروة إلا ما صح لديهما أنه حدث به قبل الاختلاط والضعف.
والحق أن الشيخين كانا يهابان تضعيف مرويات هشام ولو كانت منكرة كأسطورة السحر، وكانا رحمهما الله يقلدان من سبقهما من المحدثين، فإذا وجدوهم يصححون شيئا من أحاديث هشام بن عروة المنكرة صححوها تبعا لهم.وقد كان خبر السحر مشهورا بين المحدثين قبل الشيخين، وكان مصححا عند الإمامين الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، فما كان للبخاري ومسلم إلا أن يقلدا ويسلما لمن هم أجل وأعلم.
وبالنسبة للإمام الشافعي فإنه لم يكن بارعا في الحديث كالإمام مالك، ولم يكن على دراية بحال هشام، فخفي عليه تدليسه واختلاطه، لأن كتب الجرح والتعديل لم تكن وضعت بعد، فصحح خبر السحر الذي استساغه عقله وقلبه، واعتمده حجة في عدم قتل السحرة.والإمام أحمد قلد الشافعي في تصحيح الخبر والاحتجاج بدليل أنه كان محدثا كبيرا إماما في الجرح والتعديل، خبيرا بتدليس هشام وتخليطه.
وقد وجدنا الإمام النجم مالك بن أنس لا يرضى كل أحاديث شيخه هشام بن عروة، وهو أعرف به من الشافعي وأحمد، ووجدناه عقد في الموطأ بابا في موضوع السحر، لم يخرج فيه خبر شيخه هشام بن عروة، ووجدنا مذهبه هو قتل الساحر خلافا لما دل عليه خبر شيخه الأكذوبة، فعلمنا أنه تعمد اجتنابه، وأنه ضعيف عنده لم يثبت، وإلا فلماذا تحاشاه ولم يعمل به، رغم أنه كان منتشرا عن شيخه الذي روى عنه أحاديث أخرى في الموطأ.
إن الإمام مالكا يميز بين صحيح مرويات شيخه وضعيفها، وهو أعرف وأعلم من الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم مجتمعين بأحاديث هشام، فما خرجه منها في الموطأ صحيح، وما تحاشاه وتجاهله ولم يعمل به ضعيف جدا.
وقد تأكد لدينا صواب مسلك الإمام مالك نظرا للأوجه المتقدمة، وبناء على المعطيات التالية، فلا نتهيب مخالفة هؤلاء الأئمة الكبار العظام، لأننا مسبوقون بمن هو أعظم منهم من ناحية، ولأن الله أمرنا بالتفكير وإعمال العقل والتشبث بما نراه سليما منطقيا من ناحية ثانية.
وهذه أدلتنا الشرعية والعقلية على صحة مسلك الإمام مالك:
أولا: إثبات تدليس هشام واختلاطه في آخر حياته:
روى الخطيب في ترجمة هشام من تاريخ بغداد عن عَبْد الرَّحْمَن بْن يوسف بْن خِراش قَالَ: هشام بْن عُروة كَانَ مالك لا يرضاهُ، وكان هشام صدوقًا تدخلُ أخباره فِي الصحيح. قَالَ ابن خِراش: بلغني أن مالكًا نقمَ عَلَيْهِ حديثه لأهل العراق، قدم الكوفة ثلاث مرات، قدمة كَانَ يَقُولُ: حدَّثَنِي أبي، قَالَ: سمعتُ عَائِشَة، وقدم الثانية، فكان يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أبي، عن عَائِشَة، وقدم الثالثة، فكان يَقُولُ: أبي، عَن عَائِشَة، سَمِعَ منه بأخرة وكيع، وابن نُمير، ومحاضر.
ثم روى الخطيب عن يعقوب، قَالَ: هشام بْن عروة ثبتٌ ثقةٌ، لم يُنكر عَلَيْهِ شيء إلا بعد ما صارَ إلى العراق، فإنه انبَسط فِي الرواية، فأنكرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أهلُ بلده. قَالَ: والذي نَرَى أن هشامًا يَتسهَّل لأهل العراق، أَنَّهُ كَانَ لا يحدث عَن أَبِيهِ إلا بِما سمعه منه، فكان تسهله أن أرسَلَ عَن أَبِيهِ مما كَانَ يسمعه من غير أَبِيهِ عَن أَبِيهِ.
قلت: إذا أنكر عليه أهل بلده، فتلك حجة على نكارة بعض مرويه، وإرساله عن أبيه ما لم يسمع منه، هو التدليس.
وقال الإمام أبو زرعة العراقي في "المدلسين ص96: قال علي بن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير رسول الله بين أمرين، وما ضرب بيده شيئا الحديث، فلما سألته قال: أخبرني أبي عن عائشة، قالت: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، لم أسمع من أبي إلا هذا، والباقي لم أسمعه إنما هو عن الزهري. رواه الحاكم في علومه عن ابن المديني. قال العلائي: وفي جعل هشام بمجرد هذا مدلساً نظر، ولم أر من وصفه به. قلت: قال يعقوب بن شيبة: ثبت ثقة لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي يروى أن هشاماً تسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمعه منه فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. قلت (العراقي): وهذا صريح في نسبته إلى التدليس، ولابن خراش كلام يوافق هذا أيضاً، انتهى وفي العلل ومعرفة لابن حنبل (3/ 39) عن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: جَاءَ هِشَام بن عُرْوَة الْكُوفَة فجاؤوه فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: رَسُول الله أَو أَبُو بكر أَو عمر، فَقلت لَهُ: مَا كَذَا، قلت لي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: صدقت وَالله، كَذَا قلت. قَالَ: قَالَ بعض أَهلِي: هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أَبُو بكر أَو عمر.
وأنقل لك نص ابن القطان لتعرف أنه كان يتبع القواعد ولا يغتر بوجود الحديث في الصحيحين، قال رحمه الله في بيان الوهم والإيهام (5/503): ومما ينبغي أن يحذر في كتابه (يقصد كتاب الأحكام للحافظ الإشبيلي)، سكوته عن مصححات الترمذي، وما أخرجه البخاري أو مسلم، فإنه قد يكون الحديث منها من رواية من هو عنده ضعيف، أو موضع للنظر إذا كان ما يرويه من عند غير هؤلاء، وكأنه إذا كان ما رواه عند هؤلاء، دخل الحمى، فسلم من اعتبار أحواله، فإذا كان ما يرويه من عند غير هؤلاء وضع فيه النظر. هذا النوع كثير، ننبه على مثل منه، وابحث عنه بنفسك فيما مر في هذا الكتاب، وفيما لم نعرض له من أحاديث كتابه، إما إغفالاً وإما لغرض آخر. فمنها أحاديث أبي الزبير عن جابر من غير رواية الليث، ومما لم يذكر فيه سماعه، أورد منها من عند مسلم جملة كبيرة، لم يبين أنها من روايته، وهو إذا روى عند غير مسلم، نبه عليه وبين أنها من روايته... قال: وكذلك أحاديث كثير من المختلطين، وقد تقدم التنبيه على طائفة منهم، وإن سهيل بن أبي صالح وهشام بن عروة لمنهم، لأنهما تغيرا، وهو لا يتجنب شيئاً مما يجد لهما، ولا ينبه على كونه من روايتهما إذا كان من عند البخاري أو مسلم، أو [ ممن صحح ] له الترمذي، وهو مختلف فيه. انتهى قلت: ونحن على مذهب ابن القطان، لا نعير اهتماما لوجود الحديث في الصحيحين إذا كان في إسناده من تحكم عليه القواعد بالضعف. وقد أصاب ابن القطان في رمي هشام بالاختلاط، نظرا لما تقدم ويأتي.
وفي ترجمة هشام من تهذيب التهذيب لابن حجر: قال الآجري عن أبي داود: لما حدث هشام بن عروة بحديث أم زرع هجره أبو الأسود يتيم عروة. وقال العقيلي: قال ابن لهيعة: كان أبو الأسود يعجب من حديث هشام عن أبيه، وربما مكث سنة لا يكلمه. قال أبو الأسود: لم يكن أحد يرفع حديث أم زرع غيره. قلت: لو لم يكن متهما في حفظه وعقله، ما هجره أوثق الناس في أبيه. وفي شرح علل الترمذي لابن رجب (1/253)
قال أحمد في رواية الأثرم: كان يحيى بن سعيد يرسل الأحاديث التي يسندوها - يعني أنه كان يرسل عن هشام كثيراً - قال فقلت له: هذا الاختلاف عن هشام، منهم من يرسل، ومنهم من يسند عنه، من قبله كان؟ فقال: نعم. (...) قال العقيلي: (لم يأت بحديث أم زرع غير هشام، وأبو الأسود يتيم عروة أوثق من هشام). (...) قال القاضي إسماعيل المالكي: بلغني عن علي بن المديني أن يحيى القطان كان يضعف أشياء حدث بها هشام بن عروة في آخر عمره لاضطراب حفظه بعدما أسن والله أعلم. وسمعت علي بن نصر وغيره يذكرون نحو هذا عن يحيى بن سعيد).
قلت: لا تدع هذه النقول مجالا للشك في أن هشام بن عروة كان مدلسا من جهة، مضطربا مختلطا في آخر عمره من ناحية ثانية، لذلك أورده الحافظ العلائي في "المختلطين" ص 126، والبرهان الحلبي في "الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط" ص359 وغيرهما ممن ألفوا في المختلطين.
وترجمه المصنفون في المدلسين كالحافظ ابن حجر في "طبقات المدلسين" ص: 26، والسيوطي في "أسماء المدلسين" ص100.
ونسجل مما تقدم هذه النتائج:
أولا: كان هشام يسمع الحديث من ابن شهاب الزهري عن أبيه عروة، ثم يسقطه ويروي عن أبيه مباشرة، وهذا عين التدليس فلا عبرة بمن برأه منه.
وإذا كان هشام لا يرضى الرواية عن الزهري، فهل سيتردد في إسقاط الضعفاء والمجاهيل والدجالين؟
إن ذلك يشككنا في كل ما يرويه هشام عن أبيه عن أم المؤمنين عائشة، خصوصا إذا كان يتعلق بثوابت الدين وأصوله، وخرافة السحر عن أبيه عن السيدة عائشة، يتصل بالعقيدة ويقدح في النبوة.
ثانيا: كان هشام يدلس عن أبيه على الرواة الغرباء كالعراقيين خصوصا، وهذا يخدش عدالته، وخرافته يرويها عنه العراقيون إلا رجلان.
ثالثا: كان هشام يسمع شيخه يروي الخبر على الشك والتردد في قائله، ثم يقطع الشك باليقين وينسبه إلى رسول الله بلا حجة ولا مبرر معقول، فماذا يسمى هذا؟ وهل نطمئن لروايات الرجل القادحة في أسس الدين؟
رابعا: يتيم عُرْوة هو محمد بن عبد الرحمن المدني الإمام الأوثق من هشام، كان يهجره بسبب رواياته، ولو لم تكن منكرة ما فعل، وحديث أم زرع لا يتصل بالعقائد ولا يمس النبوة، فكيف لو سمعه يحدث بأكذوبة السحر؟
وقفة مع الحافظ الذهبي:
قال في ميزان الاعتدال(4/301): هشام بن عروة [ع]، أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من أنه وسهيل بن أبى صالح اختلطا، وتغيرا. نعم، الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان! ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين، فهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان.ه
قلت: بل أحسن الله عزاءنا فيك أيها الإمام الكبير، فهشام ليس معصوما من النسيان ولا من الاختلاط، والحافظ ابن القطان الفاسي متحرر لا يتهيب أحدا مهما كان شأنه، لذلك كان يجرح من وثقه السابقون، ويضعف الأحاديث المصححة قبله ولو كانت في الجامعين الصحيحين.
وموقف ابن القطان صحيح لما تقدم، والذهبي اعترف بتناقص حفظ وضبط هشام، وذلك يكفي للتوقف فيما ينفرد به، ورد ما يشبه الأساطير والموبقات كخبر السحر.
وتشبيه تخليطاته واضطراباته ومنكراته ببعض الأخطاء اليسيرة التي صدرت عن أمثال الإمامين مالك وشعبة، ظلم لهم من الذهبي ومجازفة، والله يغفر له.
وهذه واقعة تبرهن على اشتداد نسيان الرجل وضعف حافظته: قال الإمام ابن بكار في جمهرة نسب قريش وأخبارها (ص: 292): أخبرني عثمان بن عبد الرحمن قال: قال أمير المؤمنين المنصور لهشام بن عروة حين دخل عليه هشام: يا أبا المنذر، تذكر يوم دخلت عليك أنا وإخوتي مع أبي الخلائف، وأنت تشرب سويقاً بقصبة يراعٍ فلما خرجنا من عندك قال لنا أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه، فإنه لا يزال في قومكم بقية ما بقي. قال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين. فلما خرج هشام قيل له: يذكرك أمير المؤمنين ما تمت به إليه فتقول: لا أذكره؟ فقال: لم أكن أذكر ذلك، ولم يعودني الله في الصدق إلا خيراً.
قلت: إذا كان هشام نسي زيارة ملك وأولاده له في بيته، فهل يستطيع أن يضبط آلاف الأخبار؟ مستحيل.
ثانيا: هشام صاحب مناكير:
إذا تفرد الراوي بخبر منكر يستحيل نقلا وعقلا، فهو كذاب أو مغفل يلقنه الكذابون، أو مختلط اختلاطا فاحشا، هذا ما تقرره قواعد الجرح والتعديل بغض النظر عن شخصية الراوي.
وهشام بن عروة تفرد بمنكرات تمجها الشريعة، وتستقبحها العقول والطبيعة، كخبر سحر النبي، وأزيدك أسطورة ثانية تكشف مدى اهتمام الرجل بأخبار السحرة، والتي اختلطت عليه بأحاديث إمام الخيرة، فكان لا يميز بينها آخر حياته واختلاطه الشديد:
قال الإمام عبد الرحمن بن أبي الزناد: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمت امرأة من أهل دومة الجندل علي، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحرة لم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لن تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها حتى أني لأرحمها وهي تقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني فدخلت علي عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك فلعله يأتيك. فلما أن كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن مكثي حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا. قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه (...) فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا متقنعا بحديد، خرج مني حتى ذهب في السماء، فغاب عني حتى ما أراه، فأتيتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء فغاب عني حتى ما رأى شيئا، قالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا، وما قالا لي شيئا، فقالا: بلى إن تريدين شيئا إلا كان: خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، فقلت: اطلعي فطلعت، وقلت أحقلي فحقلت، ثم قلت: افرخي فأفرخت، ثم قلت إيبسي فيبست، ثم قلت: اطحني فطحنت، ثم قلت: أخبزي فخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سقط في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا، فسألت أصحاب رسول الله حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك.
قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله. ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم.
رواه الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما لآيات "هاروت وماروت" من سورة البقرة، والحاكم في المستدرك (4/171)، والبيهقي في السنن8/235، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد7/1289، وابن قدامة في "التوابين" ص242.
قال الحاكم غفر الله له: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والغرض في إخراجه في هذا الموضع إجماع الصحابة حدثان وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأبوين يكفيانها.
وصححه الذهبي قي التلخيص. وابن كثير في تفسيره، وقال: استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال.
قلت: جمهور علمائنا يستدلون بهذه الأسطورة، ويفسرون بها كلام الله، ولم أر أحدا أنكرها وحكم عليها بالوضع إلا الجصاص في "الأحكام"1/59 فأصاب الحق رحمه الله.
ووالله ليس هذا الخبر الخرافي إلا أسطورة متخيلة تلقنها هشام من دجال فدلسها عن أبيه، أو كان حكاية شعبية فوضع لها إسنادا عندما ساءت ذاكرته، وإلا فهي من اختلاقه وافتعاله، ونحن مستعدون أن نجرحه في صدقه وعدالته على أن نصدقه وننسب هذا الهراء لأم المؤمنين ونفسر به كلام رب العالمين كما فعل الطبري وغيره من المفسرين.
إننا لم نصل إلى هذا الحد في الحكم على هشام بن عروة، لكننا لن نتردد إذا عاند المعاندون، ففي ترجمته ما يسعف من أراد أن يتهمه بالكذب، ومن شاء فلينظره في "المنمق من أخبار قريش".وفي هجران يتيم عروة له بسبب رواياته ما يقوي احتمال كونه غير صادق. واعلم أن الإمام أن ابن أبي الزناد مدني، وهو أثبت الرواة في هشام، فثبت أنه كان يدلس على أهل بلده أيضا، وكان مختلطا قبل أن يذهب للعراق، فلا يتوقف في روايات العراقيين عنه فقط.
والخلاصة أن هشام بن عروة مدلس عن أبيه وغيره، وعلى الغرباء وأهل بلده، ثم إنه اختلط اختلاطا فاحشا، وانفرد بالمناكير عن المشاهير، فوجب التوقف فيما انفرد به من أحاديث وتأملها، فإن كانت لا تقدح في ثوابت الدين ولا تعارض القرآن والأحاديث الصحيحة والمنطق العقلي، وكان مصرحا فيها بالسماع من شيوخه، فهي حسنة يحتج بها، فإن عنعنها فهي ضعيفة ولو كانت في الصحيحين، وإن كانت منقوضة بالقرآن أو العقل فهي منكرة ساقطة موضوعة كقصة الساحرة.
وبخصوص خرافة سحر النبي عليه السلام، فإن إسنادها لا يصح إلى عروة بن الزبير ولا إلى أم المؤمنين، والمتن منكر لما تقدم ولهذه العلل الإضافية:
علة الانقطاع: لم يصرح هشام بن عروة بالسماع من أبيه، وثبت تدليسه عن أبيه وغيره، فتحمل العنعنة على الانقطاع، أي أن هشاما أسقط راويا حدثه عن أبيه، وهذا الراوي لا يمكن أن يكون إلا دجالا، وإلا فالقصة من تخليطات هشام أو مكذوباته.
وقد رأيت بعض العاطفيين ينقضون هذه العلة بكونه صرح بالتحديث في طريق يحيى القطان، مستدلين بقول البخاري في صحيحه الحديث رقم 3004: حدثني محمد بن المثنى حدثنا يحيى حدثنا هشام قال: حدثني أبي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه صنع شيئا ولم يصنعه.
وهكذا رواه أحمد وغيره، ولا حجة في هذا من وجوه:
أولا: إذا صح ذلك عن يحيى القطان، فإنه خالف كل الرواة عن هشام، وهم: ابن نمير وأنس بن عياض وسفيان بن عيينة وعيسى بن يونس ومعمر بن راشد وحماد بن أسامة ووهيب وأبو أسامة وعلي بن مسهر، فإنهم رووه بالعنعنة، وهم جماعة من جهة، وفيهم من هو أجل شأنا من يحيى القطان كسفيان بن عيينة، فلا عبرة بمخالفة يحيى بل تعتبر شاذة.
ثانيا: قال الطبري في تفسيره (2/437): حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.
فظهر أن يحيى كان يرويه بالعنعنة حينا، وبالتصريح حينا، فالظاهر أنه سمعه من هشام منقطعا ثم كان يتوهم وينسى ويجعل "حدثني" مكان "عن".
ثالثا: تأكد فيما سبق أن هشاما كان يضطرب بفعل اختلاطه، فكان يروي الخبر معنعنا مدلسا قبل الاختلاط، ثم يصرح بسماعه من أبيه أو غيره بعد سوء حفظه، ويحيى القطان عراقي بصري، سمع هشاما بعد الاختلاط، فلا قيمة لتصريحه بالسماع إذا استبعدنا شذوذ القطان واحتمال توهمه.
ونلاحظ أن يحيى القطان كان يختصر القصة ويقتصر على بدايتها، فكأنه كان يستقبح تفاصيلها.
وربما يحاول بعضهم تقوية رواية يحيى بما قاله البخاري في صحيحه الحديث رقم 3095: وقال الليث: كتب إلي هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت: سحر النبي صلى الله عليه وسلم(...)
فالجواب كما قلنا في طريق يحيى القطان، ونضيف الآتي:
أولا: البخاري علق السند ولم يسنده إلى الليث، فلا أثر لهذا التعليق لانقطاعه، وتقدم أن معلقاته المجزومة فيها الضعيف أيضا.
ثانيا: وصل الحافظ ابن حجر هذا التعليق في "تغليق التعليق" (3/512) معنعنا لا مصرحا بالسماع، فأسنده عن شيوخه إلى أَبي بكر بن أبي دَاوُد قال: ثَنَا عِيسَى بن حَمَّاد زغبة، ثَنَا اللَّيْث عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة. الحديث
وابن أبي داود ضعيف متهم بالوضع والكذب، فلا يصح أن الليث بن سعد من رواة البهتان عن هشام، وإن صح فهو بالعنعنة، وما قاله الإمام البخاري وهم منه رحمه الله.
فتأكد الانقطاع، وبرئت الصديقة عائشة من رواية الإفك.
علة التحديث بعد الاختلاط: نمتلك أدلة قاطعة على أن هشام بن عروة حدث بأسطورة سحر النبي عندما اختلط وساء حفظه، وهي أدلة لم ينتبه إليها الشيخان لأنهما كانا مغترين بمن سبقهما إلى التصحيح، فلا نقبل بعدها أنهما تأكدا من صحة الخرافة لذلك روياها في ديوانيهما العظيمين.
لقد اضطرب هشام بن عروة في متن الخرافة اضطرابا فاحشا كما تقدم في الوجه العاشر، وهذا وحده كاف للحكم عليه بالاختلاط الشديد حسب قواعد الصنعة الحديثية.
وعندما نجد كل الرواة الذين رووا عنه أسطورته من غير أهل المدينة، وأنهم كلهم عراقيون، ونتذكر أنه حدث العراقيين بعد اختلاطه، نزداد اطمئنانا إلى أنه حدث بخرافته أيام الاختلاط.
ولا يعكر على ما قلناه رواية أنس بن عياض المدني، فهشام كان يدلس على الجميع، والراجح أن أنسا سمع منه بعد الاختلاط.
وإذا فرضنا أنه سمعه قبل تغير حفظه وضعف حافظته، فأنس كان يترك أصول كتبه عند الناس الغرباء كالعراقيين، فربما غيروا وأفسدوا كتبه، لذلك قال الإمام مالك عنه كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب": لم أر عند المحدثين غيره، ولكنه أحمق يدفع كتبه إلى هؤلاء العراقيين. وقال عنه مروان: كانت فيه غفلة الشاميين ووثقه، ولكنه كان يعرض كتبه على الناس.ه
وابن جريج الذي يحتمل أن يكون سمع الخبر من هشام مكي لا مدني، وليس معدودا فيمن سمع منه قبل الاختلاط، فيترجح أنه بعده.
علة مخالفة الأوثق: من علامات ضعف حفظ الراوي وقلة ضبطه، أن يخالف من هم أوثق منه في سند حديث أو متنه، فإذا كان ثقة كانت روايته شاذة ضعيفة، وإذا كان ضعيفا كانت روايته منكرة واهية جدا، أما إذا ناقضت النقل أو العقل فهي موضوعة قولا واحدا.
وهشام بن عروة كان ضعيفا حين حدث بخرافة السحر، وخالف من هو أوثق منه بمراحل، فتكون روايته منكرة عند المنصفين، ثم هي موضوعة لمعارضتها النقل والعقل.
روى يونس ومعمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. قال الزهري: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق.
رواه معمر في جامعه (1/458)، ومن طريقه عبد الرزاق في مصنفه(6/65)، وابن سعد في الطبقات(2/ 153) والطبري في التفسير(2/ 438)، وهو صحيح إلى الزهري، والبلاغ الذي زاده شبه الريح.
وهذه أوجه الاختلاف بين رواية هشام ورواية الزهري:
أولا: رواية الزهري مرسلة، لم ينسبها ابن المسيب وعروة لأحد من الصحابة، فتأكدت براءة أم المؤمنين.
ثانيا: ذكرت رواية الزهري "بئر حزم" وفي رواية هشام "بئر ذروان أو أروان"، وهذا تناقض.
ثالثا: صرحت رواية الزهري أن السحر أثر على بصر النبي فقط دون عقله وفرجه كما عند هشام، وشتان بين التأثيرين.
رابعا: أخبرنا هشام أن السحر كان في مشط النبي ومشاطته، وأخبرنا الزهري أنه كان عبارة عن عقد.
خامسا: أفهمنا هشام أن النبي أخرج السحر بنفسه، وأتحفنا الزهري بأنه أرسل من يخرجه من أصحابه.
سادسا: في رواية هشام تفاصيل لا وجود لها عند الزهري، كنزول الملكين.
فهذه ستة أوجه من الاختلاف، بعضها تناقض واضح، فلا تتقوى أي من الروايتين بالأخرى.
ورواية الزهري ساقطة لا عبرة بها لأنها مرسلة، وما سمعها سعيد وعروة رحمهما الله إلا من شيطان أو زنديق، وإلا فلماذا لم يذكرا من حدثهما؟
ويظهر أن دجالا سمعها من عروة، فزاد فيها ما شاء، ومررها على هشام أيام اختلاطه، فكان يسقطه ويرويها عن أبيه بالعنعنة ويزيد فيها أم المؤمنين عائشة.
وقد كان بعض السلف يشكون في ثبوت رواية الزهري، ففي مصنف عبد الرزاق(6/65): أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَيَعْقُوبَ، وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: «لَا يُقْتَلُ سَاحِرُهُمْ»، زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صُنِعَ بِهِ بَعْضُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ.
فكلمة: "زعموا" تعني الشك والريبة، والمرتابون جماعة من الأئمة مشايخ ابن جريج، فماذا بعد ذلك؟
علة المخالفة في نزول المعوذتين:
زاد هشام في طريق عند اللالكائي أن سورتي المعوذتين نزلتا بسبب حادثة السحر الواقعة بالمدينة، والراجح عند علماء القرآن أن السورتين مكيتان، وهذا من أقوى البراهين على بطلان الأسطورة، ومقولة تعدد النزول من أكذب اختراعات العلماء للتغطية على الروايات المتناقضة.
قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره للمعوذتين عن روايات سحر المعصوم: وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست من المتواتر، فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح، مما يوهن أساس الروايات الأخرى. ه وقد وجد مقبل الوادعي الإمام البيهقي يروي الأسطورة في "دلائل النبوة"8/151 من طريق سلمة بن حبان قال: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عبيد الله عن أبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة. وذكرها متضمنة نكارات أشد من رواية هشام. فطار بها فرحا، وعضد بها رواية هشام، لكنه سكت عما فيها من ويل وهول. فسلمة بن حبان لم يصرح أحد بتوثيقه وإن أورده ابن حبان في ثقاته، ومثله إذا خالف لا يقبل في الشواهد، وقد خالف في السند والمتن وأنكر.
ومحمد بن عبيد الله هو العرزمي المجمع على تركه، فهو ضعيف جدا.
ويزيد بن هارون تغير واختلط قليلا في آخر حياته، ويروي عن أصحاب هشام بن عروة. فالظاهر أن العرزمي سمع الأسطورة من هشام، فإنهما متعاصران، أو من بعض تلامذته، ثم غير الإسناد وزاد في المتن، فزعم أن النبي كان له تمثال من شمع، وهو من جملة ما عمل فيه السحر. فقبح الله من وضع هذه الأكاذيب على رسول الله، وقد أحسن الألباني فقال عن طريق العرزمي في الصحيحة6/260: هذا إسناد ضعيف جدا.ه قلت: حقه أن يقول "موضوع"، فقد حكم بذلك على متون أحسن مروية بأسانيد أنظف.وما كان ضعيفا جدا، لا يتقوى بالمتابعات والشواهد، ولا يصلح فيها، فلا قيمة لهذا الطريق الساقط.
النتيجة السارة:
إسناد خرافة السحر ضعيف جدا مثخن بمجموعة من العلل، ومتنها منكر متناقض في نفسه، مناقض للنقل والعقل، فأم المؤمنين مبرأة من البهتان الذي ألصقه بها هشام بن عروة، غفر الله له ولجميع الرواة والمصححين والمضعفين.
خريج دار الحديث الحسنية
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.