تتسم الحملات الانتخابية السابقة لأوانها والتي يقودها وجهاء بعض الأحزاب السياسية هذه الأيام بالحرارة الشديدة التي لا تضاهيها على ما يبدو سوى حرارة الصيف الملتهبة، هذه الحملات التي أخرجت العديد من الأحزاب من قوقعتها وجعلتها تبحث بشكل مفاجئ عن قواعدها وتنسج قنوات اتصال مع الناخبين المفترضين المسجلين في اللوائح الانتخابية و المتوفرين على بطائق الناخب، هذه الفئة التي ظلت غائبة أو مغيبة عن دائرة المشهد السياسي و دائرة صنع القرار المحلي طيلة الخمس سنوات الفارطة ،الشيء الذي يستدعي معه طرح الأسئلة التالية: هل دور تلك الأحزاب ينحصر فقط في استقطاب الناخبين والبحث عن سبل ضمان أصواتهم كل خمس سنوات؟ وأين يكمن دورها المفترض في تأطير المواطنين وتغذية الحس الوطني وروح المصلحة العامة لديهم والعمل على إشراكهم في تدبير الشأن المحلي و الجهوي ؟ واقع الحال يشير دونما مواربة إلى وجود خلل كبير وانحراف يطبع مسار العلاقة التعاقدية التي تربط بين المواطن و معظم الأحزاب السياسية، هذه العلاقة التي أصبحت تتسم بسيادة النزعة المكيافيلية و البراغماتية الآنية لدى الطرفين، فإذا كان همً الأحزاب السياسية ينكب على تحصيل أكبر عدد ممكن من المقاعد مستخدمين في ذلك كافة الوسائل المشروعة وفي بعض الأحيان غير المشروعة وتبحث عن مرشحين ممن لديهم شعبية كبيرة وقدرة على الاستقطاب حتى لو أدى الأمر إلى التشجيع على ظاهرة الترحال السياسي أو في بعض الأحيان ظاهرة الهجرة الجماعية "للمناضلين" والقياديين كما حدث لحزب عريق كالإتحاد الاشتراكي وحتى لو أدى الأمر إلى خرق لميثاق الشرف المبرم بين تلك الأحزاب حول ضرورة العمل على الحد من هذه الظاهرة التي تسيء للعمل السياسي وسمعته ببلادنا وتزعزع ثقة شريحة واسعة من المواطنين به ، على الرغم من وجود دستور متقدم للمملكة لسنة 2011 وما يحمل في ثناياه من قيم ومبادئ تنصب في اتجاه تعزيز دولة المواطنة والحقوق وترسيخ القيم الديمقراطية، وعلى الرغم من وجود ضمانات من مستويات عليا بتخليق الحياة السياسية وربط المسؤولية بالمحاسبة وتفعيل مفهوم الحكامة الجيدة و إرساء آليات الشفافية والرقابة نظرا لما تكتسيه هذه الانتخابات من أهمية كبرى في تنزيل مضامين الدستور ودورها في العبور بالبلاد نحو الديمقراطية وتحقيق التنمية المحلية و الجهوية. لكن للأسف معظم الأحزاب السياسية لازالت غير مواكبة لتلك التطورات الدستورية التي عرفتها بلادنا وغير منخرطة فيها بالمستوى الذي تتوخاه الوثيقة الدستورية والإرادة العليا لجلالة الملك. ففي الوقت الذي تظل فيه شرائح واسعة من المجتمع ولاسيما من فئة المتعلمين ممن أنفقت الدولة ميزانيات هامة على تكوينهم وتعليمهم حتى يسهموا يومًا في إثراء النقاش العمومي و صناعة الخارطة السياسية اللائقة بالوطن والمشاركة بفعالية في صنع القرار وتدبير الشأن المحلي و ترسيخ مفهوم "الديمقراطية التشاركية" التي جاء بها الدستور، فإنها تظل خارج اللعبة السياسية وتفضل النأي بنفسها و عدم ممارسة حقها الدستوري وواجبها الوطني الكامن في المشاركة في العملية الانتخابية والتصويت، ربما بسبب فقدان الثقة في الأحزاب المتنافسة وفي خطاباتها و سلوكياتها وممثليها والتي لازال نظام عملها حبيس النسق التقليدي المرتكز في أساسه على دور "الوجهاء" و"الأعيان" وأصحاب المال والأعمال في العملية الانتخابية، إلى جانب ما يسمى "بالكائنات الانتخابية" التي تنشط في كل موسم انتخابي و"التيار الشعبوي" وفئة عريضة من الأميين ممن يشاركوا بفعالية وينساقوا بسهولة نحو خطابات تلك الأحزاب نظرا لانسداد أفقهم السياسي الذي يختزل المشاركة السياسية في بضع دقائق وهي المدة الكافية لعملية التصويت ثم الانتظار حتى الانتخابات المقبلة في غياب تام لمنطق المواكبة والتتبع ،وتدني مستواهم الثقافي والمعرفي أو حصر دائرة مطالبهم في مطالب شخصية آنية من قبيل الوعد بالتشغيل أو بإيجاد سكن أو في بعض الأحيان مطالب مادية، مغتنمين حسب وجهة نظرهم فرصة الانتخابات وسخاء بعض الوجهاء ووعودهم التي لا تنتهي بعيدا عن شيء اسمه المصلحة العامة كالتركيز على الفضاءات الترفيهية والثقافية و تأهيل البنى التحتية أو إنشاء مرافق اجتماعية للقرب و التي يعود نفعها على عامة الساكنة وتتميز بالاستدامة.وأيًا كانت الأسباب التي تدفع هذه الشريحة الاجتماعية إلى الانسياق وراء خطابات تلك الأحزاب كالفقر وسيادة النزعة الفردانية و قلة التأطير السياسي والثقافي الذي تتحمل فيه تلك الأحزاب قسطا وافرا من المسؤولية، إلا أنه لا يمكن البتة إغفال دورها في صناعة الخارطة السياسية والتحكم بطريقة أو بأخرى في اللعبة عبر التصويت بكثافة لفائدة أشخاص دون غيرهم وفي الغالب ما يكون عنصر المال أو السلطة أو النفوذ هو السائد ونادرا ما يتم اعتماد عنصر المروءة والمبادئ والتصورات والبرامج كمعيار لتزكية الأشخاص والتصويت عليهم وتجديد الثقة فيهم. غير أن الهاجس و التحدي الكبير والذي سيظل يأرق الجميع هو نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة والتي نرجو أن لا تكون منخفضة و مشابهة للمحطات السابقة، حيث تسهم خطابات الأحزاب وصراعاتها البينية التي تشبه الحرب القذرة التي لا تستثني أي خطوط حمراء تجاه الخصوم والمنافسين وتستهدف شيطنتهم، ويا ليتها كانت صراعات برامج ومشاريع ورأى وتصورات قد تنعكس إيجابا على الوطن والمواطنين والرقي بمستواهم وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، الشيء الذي يساهم في إذكاء العزوف عن المشاركة في الفعل الانتخابي و الانخراط في العملية السياسية برمتها وجعلها مرادفا للعمل الانتهازي والوصولي الذي يتوخى تحقيق مآرب ومنافع شخصية أو امتيازات ريعية بعيدا عن المبادئ و القيم و الأخلاق وحب الصالح العام والوطن.