عطفا على المقالة السابقة "في الإرث ومسائل أخرى"، المنشورة في جريدة هسبريس 31/10/2015، نضيف مسألتين لعل صورة الحدود في الفقه الإسلامي تغتني في سياق النهج الاستحساني والتيسيري الذي نتبناه، وهما: عن تعدد الزوجات في توجه انتقاديٍّ حادّ، كثيرا ما يستشهد حقوقيون غربيون، على خلفية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، بمسألة تحليل الإسلام لتعدد الزوجات كحجة على انتقاص حقوق المرأة المسلمة ودونيتها. وحول هذه المسألة التي أسالت الكثير من المداد، لنكتفي بالإشارة إلى ما انتهى إليه اجتهاد الفقهاء المتنورين، الوقافين على الآية 3 من سورة النساء، ومنهم أبو حنيفة الذي حكَّمه الخليفة جعفر المنصور في خلاف بينه وبين زوجته الحرة، فاستشهد بالآية: ﴿وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة﴾. ويلزم التأكيد على أن العدل لا يقتصر هنا على النفقة والقوامة، وإنما يشمل أيضا العدل في الحبّ والعاطفة. فمما نستخلصه إذن أن تعدد الزوجات رخصة أو استثناء استدعته ظروف، منها تحديدا الفتوحات والمغازي وما كانت تحدثه من تناقص في أعداد الرجال من العائلين والعزاب. أما القاعدة الثابتة فدليلها التعجيزي وعنوانها الأوضح قائمان في الآية 129 من السورة نفسها: ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم﴾. وهذا ما يشهد به تطور مؤسسة الزواج الحديث وشيوع الزواج بالواحدة. وقد نصت مدونة الأسرة بالمغرب على ما يحفظ حقوق الزوجة الأولى، إذ يقرن العقد على أكثر من واحدة باشتراطات لا تقول بمنع التعدد إلا "إذا خيف من عدم العدل بين الزوجات"، أو كان الزوج في "وضعية مادية" لا تتيح له ذلك، أو بناءً على اعتراض الزوجة الأولى. وبالتالي فإن المنع غير مصرح به قطعيا ما دامت المحكمة تشترط أيضا تلقي طلب الإذن بالتعدد (المواد 40-43)، فتترك إذن بابه مواربا وبالتالي قابلا للإبقاء على التعدد لكن مقننا وباشتراطات. وللتذكير فقط: قبل صدور تلك المدونة بحوالي نصف قرن ونيّف، كان للراحل علال الفاسي السبق في الموضوع ذاته، إذ تميز بجراءة فقهية وسياسية نادرة بين فقهاء وسياسيي وقته، فسجل:"أرى أن تعدد الزوجات يجب أن يُمنع في العصر الحاضر منعا باتا عن طريق الحكومة، لأن الوجدان وحده لا يكفي اليوم لمنع الناس منه. وقد قال عثمان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وما يبرر هذا الموقف الحازم هو أن الراغب في تعدد الزوجات قد يدعي، خصوصا إذا كان ذا مال، أنه قادر على العدل والإنصاف بينهن. وحجة علال الفاسي عليه هي في الآية المذكورة أعلاه، المصرِّحة أن الاقتدار بمعناه الشامل المستدام متعذر بل مستحيل. عقوبة الزنا بناءً على الترغيب القرآني في إتباع الأحسن بل الأمر به، كما جاء في آيات بينات سقنا بعضها أعلاه، يحسن بفقهاء التشريع الإسلامي ومفكريه أن يحسموا في شأن عقوبة الزنا، وذلك أولا لأن الرجم لم يرد البتة في القرآن وفهارس ألفاظه، وليس له فيه أي قرابة مع مشتقاته السبعة من الفعل الثلاثي؛ وثانيا لأن النص البيّن الختم إنما هو في سورة النور، لا في غيرها: ﴿والزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة﴾ الآية، وهذه الآية2 تعزز صدارتها وأولويتها الآية1 التي تصف سورة النور هكذا: ﴿سورةٌ أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آياتٍ بيّنات لعلكم تذكرون﴾. ليس هذا فحسب، وإنما لا بد من التأكيد على أن حدَّ الجلد، الذي بخلاف الرجم لا يستتبع الموت، تعترضه هو نفسه صعوبات في التطبيق جمّة، أي من حيث وجوبُ معاينة الجنحة من طرف شهود أربعة لا أقل، على أن يكونوا رجالا من أهل العقل والتقوى، وهو شرط يكاد يستحيل استيفاؤه. هذا علاوة على أن القاذف في المحصنات أي الشاهد بالزور يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل من بعد شهادته أبدا، كما في النص القرآني(سورة النور، 24). إن ذلك الحسم التقريري المؤيّد شرعا وعقلا أمسى ضروريا ومستعجلا، لا سيما بعد الضجة التي أثارها المفكر والداعية طارق رمضان حين ضل وأضل في الغرب شرائح عريضة من الخاصة والعامة، إذ تكلم في الموضوع كما لو أن عقوبة الزنى هي الرجم (كما يعاند في هذا أخوه هاني)، وتعني الزانية وحدها، التي لا كلام في الضجة إلا عنها، فلم يتعنَّ الأستاذ في جامعة أكسفورد الرجوع إلى الأصول، ولا حتى إلى مرجع سهل الاقتناء، هو قاموس القرآن الذي أشرف على إنجازه البحاثة الخبير محمد علي أمير- مُعِزّي، وحرر فيه محمد حسين بنخيرة مادة "الرجم" حيث نفى وجود هذه العقوبة في المصحف العثماني. وعوض ذلك دعا رمضان أمام الملأ علماء الإسلام إلى اجتماع تناظري يتوخى تعليق الأمر بالرجم. فما كان من نيكولا ساركوزي، وكان وقتها في 2003 وزيرا للداخلية، إلا أن اغتنمها فرصة في مقابلة تلفزية بالدوبلكس مع صاحبنا للإجهاز عليه ببالغ الاستنكار والتقزز صائحا: المرأة عندكم ترجم، وأنت تدعو إلى موراطوار! قلنا إن إثبات الزنى بالحجج والمواصفات المذكورة بالغ الإشكال والصعوبة، ولا أدل عليه من شكوى محرجة تقدم بها بعضهم إلى الرسول الأكرم، وهي: "أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم. وإن سكت سكت على مثل ذلك، وإن ذهب ليأتي بالشهود انتهى كل شيء؛ فسكت الرسول ولم يجب عن هذه الشكوى"، فلم يرفع عنه الحرج إلا نزول الآية6 من سورة النور ﴿والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين﴾. وبهذا لا يكون أمام الزوجين إذا تشبث كل واحد بموقفه إلا اليمين أربعا ثم يحق عليهما طلاق اللعان والتفريق من دون رجعة؛ وإذ نضيف إليه طلاق الخلع وما شابه نصبح، كما هو الحال في جلِّ البلدان الإسلامية، في غنىً عن حدِّ الجلد نفسه الذي إنما نزلت الآية به في الغالب الأرجح للتخويف والردع الاستباقي لا غير، سيما وأنها جاءت بعد الآية15 من سورة النساء وتجاوزاتها، كما أنها نسخت أخرى ضائعة قيل إنها كانت تقول بالرجم. ولا يمكن أن يُبنى على المنسوخ أو النص الضائع. وهكذا يصح قبول المادة 5 من الإعلان العالمي الآنف الذكر: "لا يُعرّض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة". إن خيار الأحسن في مسألة الزنى، التي يستغلها مناوئو الإسلام وخصومه الشرسين لتمريغ وجهه في الوحل، لا يستند إلى نصية الآية المذكورة وحدها، وإنما أيضا إلى تحجج بعض السلف كالخوارج بما أورده الفخر الرازي في تفسيره، وبعض المعتزلة كالنظام وأتباعه. لكن، فضلا عن ذلك كله، لنتذكر ما رُوي في الإنجيل عن يسوع المسيح حين جيء إليه بامرأة ضُبطت في حالة تلبس بالزنى، وقال له معلمو الشريعة أن موسى أوصى في تعاليمه برجم أمثالها، فكان جوابه: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجرة". فانسلوا تباعا مهرولين، حتى إذا بقي مع المرأة قال لها: "أنا لا أحكم عليك. اذهبي ولا تخطئي بعد الآن". فحاشا أن يكون رسول الإسلام، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، أقل من عيسى ابن مريم رحمةً وسماحة، أو أن يكون أمَرَ بالرّجم أو رَجَم، كما في بعض الأحاديث المنافية لشيمه الحميدة وسنته السَّنية. وحتى في الديانة اليهودية التي توصي شرعة توراتها برجم الزانية الأمَة حصريا (وأصل كلمة زنى عبري)، فإن تطبيقه لم يعمّر طويلا، هذا علاوة على أن في دولة إسرائيل اليوم لا نرى أيّ أثر لتلك الوصية أو نسمع عنها، بالرغم من أنها تعلن عن يهوديتها أصلا ثابتا ومؤصلا. وإذِ الأمر كذلك فما بالنا بالإسلام حيث لا وجود لحدّ الرجم في قرآنه، والذي يحيط عقوبة الجلد باشتراطات صعبة التحقيق، فلا يصح إذن إلا تعويضها بأخرى لا تمس بالسلامة البدنية، فتصير بناءً عليه من اختصاص القانون المدني بسلطاته التعزيزية والتقديرية. وهذا وسواه هو ما يحسن أن يقف عليه ويتأمله طارق رمضان وأخوه وكل من قالوا بعقوبة الرجم، طلبا للتصحيح والمعذرة.