الدفاع‮ ‬والصحراء والتبادل التجاري: ‬البرازيل في‮ ‬استراتيجية المغرب الدولية... ‬والعكس‮!‬    تطوير مدرسة Suptech Santé.. مؤسسة البحث والتطوير والابتكار في العلوم والهندسة تتجاوز عتبة مهمة بين سنتي 2023 و2024 ( أزولاي)    تواصل ارتفاع أسعارها يصعب على المغاربة اقتناء أضاحي العيد..    المقالع بالمغرب تتعرض للاستغلال المفرط و تعاني من ممارسات الغش وعدم التصريح الكامل بالمداخيل ( المجلس الاقتصادي والاجتماعي)    انطلاق بيع تذاكر مباراة المغرب والكونغو    لاعبو الكونغو يهددون بعدم السفر للمغرب    الملك يراسل عاهل الأردن    هكذا عرفت الصين.. محمد خليل يروي قصة الفرق بين الصين في الثمانينيات واليوم        المغرب يسجل حالة وفاة جديدة بفيروس كورونا    ارتفاع أسعار العقارات بنسبة 0.8 خلال الربع الأول من 2024    ارتفاع حصيلة الحرب في غزة إلى 37084 قتيلا    فيدرالية اليسار تقود ائتلافا لدعم ساكنة فكيك ضد تفويت الماء    آلية الترافع وأدوار المجتمع المدني محور ندوة فكرية بالرباط    تسجيل حالة وفاة جديدة ب"كورونا" في المغرب    مهرجان صفرو يستعرض موكب ملكة حب الملوك    جمعية سلا تُحرز كأس العرش لكرة السلة    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يرفع ورقة التصعيد طلبا لتفعيل اتفاق دجنبر 2023    استطلاع رأي.. أزمة تدبير الغذاء تعصف بثلثي المغاربة    هذه تفاصيل أطروحة جامعية لفقيد فلسطيني خطفه الموت قبل مناقشة بحثه    البلجيكيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع برسم الانتخابات التشريعية الجهوية والأوروبية    السعودية تُلغي تصاريح بعض حجاج الداخل    زيارة "رجاوية" تتفقد نوري في أمستردام    كولومبيا توقف بيع الفحم لإسرائيل بسبب الحرب في غزة    هذه أحوال الطقس لهذا اليوم الأحد    طلبة الطب والصيدلة مدعون إلى اقتراع وطني للحسم في وساطة حكومية تمهد لحل أزمتهم    بليونش .. جنة ساحرة تجاور سبتة المحتلة وتشهد على مغربيتها منذ الأزل    الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تحقق في تهريب أموال بتراخيص صرف مزورة    زينب قيوح تترأس أشغال لقاء تواصلي حول برنامج التنمية الجهوي 2022-2027 لجهة سوس ماسة    تواصل المطالب بالإرجاع الفوري للأساتذة الموقوفين وزملاؤهم يحملون الشارة الحمراء ويلوحون بالتصعيد    استطلاع.. تراجع في تأييد المغاربة للتطبيع مع إسرائيل    انطلاق المرحلة الأخيرة لطواف المغرب للدراجات من الرباط    عبد السلام بوطيب يكتب : في رثاء نفسي .. وداعا "ليلاه"    إدارة بايرن ميونخ تصدم مزراوي    بحضور أمزازي وأشنكلي .. النادي الملكي للتنس بأكادير ينظم، لأول مرة بأكادير، البطولة الدولية للتنس لفئة الشباب أقل من 18 سنة، بمشاركة 24 دولة.    تشوهات الأسنان لدى الأطفال .. أكثر من مجرد مشكلة جمالية    نقابة تدخل على خط منع مرور الشاحنات المغربية المحملة بالخضر إلى أوروبا    حقيقة وفاة سجين بالمستشفى الجامعي محمد السادس بمراكش..    نتنياهو: لن نهدأ حتى نكمل المهمة ونعيد جميع الرهائن    هذه تدابير مهمة للحماية من هجمات القرصنة الإلكترونية    الفرنسيون يتوجهون إلى صناديق الاقتراع    إعفاء مفاجئ لمدير ديوان الوالي أمزازي    رحلات أبولو: من هم رواد الفضاء الذين مشوا على سطح القمر ولا يزالوا على قيد الحياة؟    العلامة التجارية الرائعة في تسويق السيارات المستعملة Auto 24 تفتتح فرعا لها بمدينة الجديدة    ندوة بالناظور تدرس ميزانيات الجماعات    هؤلاء أهم النجوم الذين يُتوقع اعتزالهم بعد يورو 2024    ماذا يحدث لجسم الإنسان حال الإفراط في تناول الكافيين؟    موسم الحج 1445: السلطات السعودية اتخذت جميع التدابير لضمان سلامة وأمن ضيوف الرحمان    وزارة الصحة تعلن حالة وفاة ب"كوفيد"    الحج 2024: خمسة آلاف طبيب يقدمون الرعاية الصحية للحجاج عبر 183 منشأة        مطالب بصرف الدعم الاجتماعي قبل عيد الأضحى    الدورة ال 12 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة: "متى يحل عهد أفريقيا" لدافيد بيير فيلا يتوج بالجائزة الكبرى    الأشعري في قصص "الخميس".. كاتب حاذق وماهر في صنع الألاعيب السردية        الأمثال العامية بتطوان... (619)    فيتامين لا    "غياب الشعور العقدي وآثاره على سلامة الإرادة الإنسانية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في يومها العالميّ .. العربيّة وترويض العولمة
نشر في هسبريس يوم 22 - 12 - 2015

أرى ابتداء ما يستوجب الإشارة إلى مناسبة هذا الجمع وسياق هذا اللقاء؛ فمن المفترض أننا التأمنا هنا في هذه القاعة وهذه الساعة في سياق الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية.
يرتبط الاحتفال في أذهاننا منذ الطفولة – أيام كان للمناسبات طعم ونكهة ومذاق ومعنى – بدلالات الفرح والتأنق والغناء والحلوى بطبيعة الحال. هكذا كان الاحتفال – ولا يزال في ذاكرة الطفل القابع في كل منّا – مرادفا للحلاوة، ومعادلا موضوعيا للفرح، أما وعروس أمسيتنا هذه ونجمته هي اللغة العربية، فلا أخفيكم تشاؤمي، فأنا لا أرى في الأفق حلاوة ولا هم يحزنون، إلا في حال تكرمت علينا اللجنة المنظمة في ختام هذه الندوة بحفل شاي ينسي الحضور الكريم مرارة وحنظل ما اعتاد تجرّعه في مناسبات كهذه نجتهد بشكل مازوشي عجيب في جعلها لحظة لجلد الذات وتوزيع الاتهامات، ثمّ ينتهي بنا المطاف إلى تسجيل شكاية ضد مجهول، والتقاط صور تؤرخ للّقاء، وكأس شاي تعيد للنفوس صفاءها وتزيح عن الوجوه تجهّما وتكشيرا صارا لازمة كلّ حديث عن العربية.
لنترك جانبا هذا الوجه العابس، ولنضرب صفحا عن ذلك المدلول الطفولي للاحتفال، ولننفتح على دلالة مغايرة يسعفنا بها المعجم العربي، وهي فرصة للتنويه بثراء وخصوبة هذا المعجم. يعني الاحتفال من بين ما يعنيه: العناية والاهتمام والاجتماع. بهذا المعنى، يكون القصد من اجتماعنا هنا والآن إبداء بالغ اهتمامنا بلغة الضادّ، وإيلاءها واسع عنايتنا ليوم سرعان ما نعود بعده إلى اهتمامات أولى وأجدى من قضية تدمّر الأعصاب وتسبّب صداعا في الرأس.
تأويل الاحتفال من هذا الوجه مخرج مشرّف يسعفنا به القاموس العربي، فقد وحّدنا همّ مشترك يتجسّد في حرصنا جميعاً على لغة الضادّ باعتبارها مكوّنا أساسا ضمن عناصر هويّاتية صارت عرضة لمعاول الهدم والتشويه في زمن العولمة. ومن الواضح أن حرصنا هذا لا يخلو من هواجس ومخاوف تقوّيها تسريبات وإجراءات من قبيل مذكّرة الفرنسة، وتوصيات داعية إلى الاستئناس بالعامية في التدريس بالتعليم الأولي قد تمتدّ بعد حين إلى التعليم الثانوي.
لكنّ هذه الهواجس والمخاوف ليست وليدة اليوم، فقبل المنادين بالفرنسة وعيوش متزعّم لوبي العامية في المغرب، كانت الشعوبيّة زمن بني العبّاس، وكان سلامة موسى في مصر. لكن، في مقابل هؤلاء وفي مواجهة أولئك، فإن العربيّة لم تعدم من يسند ظهرها ويذود عن معاقلها ابتداءً بالجاحظ، ومروراً بالرافعي وطه، ووصولا إلى كلّ غيور حريص على ألّا يكتب تدوينة أو ينشر تغريدة إلّا بحرف وعبارة عربيين سليمين من الغلط واللحن.
وإنّ في عودتنا المتكررة كلما اقتضى المقام إلى القصيدة – الصرخة لشاعر النيل – تلك التي حفظناها صغاراً وضيّعناها كباراً – أبلغ دليل على أن دار لقمان ما تزال على حالها، فصيحة حافظ إبراهيم على لسان العربيّة أن " أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن " تلاشت في وديان وخلجان وأمصار ضيّع أهلها هواية الغوص خلف اللآلئ بعد أن " هجم النفط مثل ذئب علينا " في هجاء لاذع مقذع من نزار قبّاني لعرب ضيّعوا العروبة، إذ وجدوا في " المول " المكيّف بديلا عن سوق عكاظ.
المؤسف في حال العربيّة أنّ أهلها قد حشروها في زاوية الانفعال عوضاً عن أن يدفعوا بها إلى واجهة الفعل، وكأنّما اعتبروها تحفة ثمينة خافوا عليها الانكسار، فركنوها في متحف حصين وضعوا على أبوابه حرّاساً غلاظاً شداداً يرهبون به كلّ زائر اجترأ على تحفتهم بسوء.
يتجلّى هذا المعنى بوضوح في ما يتعرّض له هذا المبدع النّاشئ، أو ذاك الكاتب المبتدئ من تقريع وقدح وتجريح في لغته لا يجد بعده مناصا من أن يعلن استقالته من الإبداع واعتزاله الكتابة طالما لم تجرّ عليه غير متتبّعى العورات ومتصيّدي الأخطاء النحويّة والإملائيّة.
المحزن أيضاً أنه بدلا من التمكين للغة عربيّة جامعة وموحّدة، يتّجه كلّ قطر عربي اليوم إلى التمكين للهجته الخاصّة في سلوك معاكس لما تقتضيه حركة العولمة الرامية إلى صهر كل ما يعترض طريقها من عناصر التنوّع والتعدّد والتّباين في بوتقة التنميط والقولبة والنٌمذجة، فحتّى الرّسوم المتحرّكة لم تسلم من هذا التيّار العاميّ الجارف.
هكذا تنتج العولمة نقيضها من حيث لا تحتسب. فبعد أن كانت دبلجة أفلام الكرتون تتمّ في بلد واحد غالبا ما يكون هو الأردن وبلغة عربيّة فصيحة طالما صدحنا بها أطفالاً، فكانت بذلك مدرسةً قبل المدرسة ينطلق بفضلها لسان الطفل، حتّى إذا نما عوده وحان أوان الدّراسة كان في جعبته من ألفاظ العربيّة وتراكيبها ما يعينه على تجاوز آلام الفطام الثاني، فطام اللّغة الأم، تلك اللّهجة الّتي تلقّنها في البيت والشّارع.
هي ذي الحلاوة الّتي تأبى أن تبارح ذاكرة الطّفل القابع بداخلي. أمّا في أيامنا هذه، فقد صارت شخصيّات الرسوم المتحرّكة ترطن بلهجات خليجيّة ومصريّة وشاميّة تستهدف أبناء القطر الواحد، حتّى إذا قصد الصبية المدرسة بدأوا حكايتهم مع العربيّة من الصفر، وكأنّي بها لغة أجنبيّة أولى يخفق كثير منهم في اكتسابها.
لا يقف الارتداد عند هذا الحدّ، بل إن متتبّع الدّراما العربّية سيقف على مفارقة عجيبة؛ فبينما تتوسّل الدّراما الاجتماعيّة لهجة عاميّة دارجة تفرّقنا شيعاً وقبائل، فإنّ الأعمال الدينيّة والتاريخية، وتلك مفارقة قد نفهم منها أن لاشيء عاد يوحّدنا باستثناء الدّين والتّاريخ. أمّا الحاضر، فلكلّ بلد راهنه الذي يعنيه.
هكذا نقف على حضور للفصحى ما فتئ يتقلّص ويضمحلّ يوما بعد آخر، فوحدها نشرات الأخبار وخطب الجمعة تذاع اليوم بالفصحى، وحتّى هذه البقيّة الباقية لم تعدم من ينادي بتدريجها.
لكن، هل الصورة حقّا بهذا السّواد وتلك القتامة؟ أعتقد أن ثمّة وجها مشرقا للعولمة يأبى الانكشاف والتجلّي لمن اعتادوا النظر إلى العولمة من خلال نظّاراتهم السّوداء. فحبّذا لو تركنا هذه الزاوية المظلمة ونظرنا إلى العولمة من منظور ما تتيحه من أفق واسع للانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والجرائد والمجلات المدوّنات الإلكترونيّة، وتطبيقات الهواتف الذكيّة، والفضاء الإعلاميّ المفتوح.
إنّما لهذا الانفتاح كلفته وعواقبه الوخيمة؛ فهنا يمتزج الغثّ بالسّمين، ويلتبس الجيّد بالرديء. تغدو الكتابة هواية من لا هواية له، ويصير النّشر لعبة من لا حبل له ينشر عليه غسيله. وفي وضع كهذا يجد المتلقّي نفسه حائراً في مواجهة ركام هائل من المنشورات يسائل قدرته على الوصول إلى المحتوى الجيّد والملائم، وفي هذه الحالة لا مناصّ من تدخّل جهات رسميّة لأجل دعم القنوات والمواقع والتطبيقات التي تقدّم محتوى رصيناً، ما دامت هي الأقل استفادة من عائدات الإعلان، كونها فضاءات ذات ولوج نخبويّ محدود.
قد آن الأوان ليكفّ وزراء التعليم عن تحقير التخصصات الأدبيّة، وتتوجّه الحكومات إلى الاستثمار في الإنسان، ودعم الثقافة، وتطوير البحث العلميّ بما يفضي إلى عربيّة وظيفيّة نابضة بالحياة، عوضا عن الاكتفاء بدعم موادّ التموين، ذلك الريع الذي لم يسهم سوى في خلق بيئة ملائمة لانتشار أمراض السّمنة والقلب وضغط الدم.
ليست العولمة إذن شرّاً محضاً، ولا هي نقمة حاقت بالعربيّة دونا عن غيرها من اللغات، بل إنّ في طيّاتها من الميزات والإمكانات ما يستوجب استثماره على نحو أمثل لتحقيق إقلاع لغوي يفتح العربية على آفاق أرحب، لنخلص إلى أن أنجع أسلوب لمواجهة تسونامي العولمة الجارف يتمثل في مجاراة تيّارها بشكل واع يمكّن من تطويعه وترويضه بما يؤدي لاحقا إلى عكس مفعوله، وقلب سمّه الزعاف إلى ترياق قمين بشفاء العربيّة من دائها العضال.
* كاتب من المغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.