في طنجة، مساء الخامس والعشرين من أكتوبر، وفي إطار المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، كانت القاعة الكبرى لقصر الثقافة والفنون تنبض بوهج غير عادي؛ الأضواء تلمع، العدسات تترقب، والوجوه التي اعتادت التصفيق كانت هذه المرة أكثر انتباهاً... لأن التكريم لم يكن مجرد لحظة احتفاء، وإنما لحظة تأمل في معنى الفن حين يتحول إلى شكل من أشكال الوجود. وهنا صدح صوت الفنانة فاطمة عاكف بمواويل أمازيغية اقشعرت لها الأبدان في تعبير عن صوت الصبر المتجذر والكفاح المستميت الذي يأتي شامخا من جبال الأطلس. فاطمة عاطف — الممثلة التي لا تكثر من الظهور، لكنها حين تظهر تملأ الشاشة بحضورها الآسر — كانت في مركز هذا الضوء. غير أن الضوء هنا لا يسطع ليبهِر، فهو يكشف ما وراء الوجوه: حكاية فنانة بنت تجربتها بالصمت والعمل، لا بالصخب أو الادعاء. بين النفس والدور: الفن كنوع من العلاج في قراءتنا النفسية لمسار فاطمة عاطف نجد أن كل دور أدّته كان بمثابة مواجهة داخلية مع الذات، شخصياتها غالبًا ما تخرج من الهامش: امرأة تُصارع قدرها في "مباركة"، أمّ معلّقة بين الحياة والموت في "أبي لم يمت"، امرأة تائهة بين الحلم والواقع في فيلم "ميرا"؛ فهي لا تؤدي، بل تُعيد خلق الألم الإنساني في صور جديدة. ويبدو أن فاطمة — بوعي أو بدونه — تمارس نوعاً من التحليل النفسي عبر التمثيل، إذ تفتح جراح الذات لتشفيها أمام الكاميرا؛ وربما لهذا السبب لا تندفع نحو الكمّ، بقدر ما تنتقي أدوارها كما لو كانت تختار لحظة اعتراف أمام مرآة الروح. من المسرح إلى السينما: رحلة عبر اللغة والجسد وعلى المستوى الأكاديمي لا يمكن فهم فاطمة عاطف دون استحضار خلفيتها المسرحية. المسرح، كما يعلّمنا علم النفس الجسدي (Psychodrama)، ليس فقط فضاءً للتمثيل، فهو مختبر لاختبار الذات عبر الجسد والصوت والنظرة. لقد جاءت من مدرسة مسرحية صارمة — "الشامات" بمكناس — حيث يُصاغ الممثل من طين الخشبة لا من بريق الكاميرا، لذلك حين انتقلت إلى السينما لم تأتِ كوجه جديد، بل كذاكرة كاملة تحمل طقوس المسرح وصمته، تحوّله إلى ما يسميه منظرو الأداء "صدق الوجود أمام العدسة". غير أن هذا التكريم، في عمقه، لا يخص فاطمة عاطف وحدها، إنه أيضًا تكريم لفكرة التكريم المستحق ولفكرة الممثلة التي تقاوم التشييء في صناعة تميل إلى السطحية؛ حضورها القليل والمركّز يفضح خللاً في الصناعة أكثر مما يعكس عزوفها: فالممثلات اللواتي يبحثن عن الأدوار المركّبة نادرات، والمخرجون الذين يجيدون كتابتها أقل. ولا تتوسل فاطمة الدور، بل تنتظره كما ينتظر الرسام الضوء المثالي ليرى اللون على حقيقته، لذلك فإن كل ظهور لها هو حدث، وكل غياب سؤال. ويأتي هذا التكريم الوطني بعد ربع قرن من المهرجان الوطني للفيلم، كإشارة رمزية إلى أن الذاكرة الفنية لا تُقاس بالعدد بل بالأثر. فاطمة عاطف ليست فقط فنانة من جيل صاعد أو راسخ، بل ذاكرة أنثوية أمازيغية تشكل جزءاً من السرد الثقافي المغربي المعاصر. وفاطمة بتعبير بسيط الجسر بين لغة الجسد ولغة الهوية، بين الجذور الأمازيغية والحداثة السينمائية، بين الحضور الصادق في الشاشة والغياب الطويل الذي يجعل العودة أكثر توهجاً. وحين صعدت فاطمة عاطف لتستلم درع التكريم لم يكن التصفيق مجرد طقس احتفالي، كان، في عمقه، تصفيقاً للصدق في زمن الاستعراض. في تلك اللحظة بدا أن الضوء الذي انبعث من المنصة لم يعد يخصها وحدها — فهو انعكاس على وجوه الحاضرين، كأنه يقول: "الفن الحقيقي لا يُكرَّم، بل يُفهم". رحلة العطاء والفرح تبدأ الرحلة من "أصدقاء الأمس" (1998) لحسن بنجلون، حيث البدايات تشي بولادة حسّ تمثيليّ يفيض صدقًا وشفافية، إلى "عشاق موغادور" (2002) لسهيل بنبركة، الذي حملها على أجنحة التاريخ والحلم. ثمّ جاء "يا له من عالم جميل" (2006) لفوزي بن السعيدي، بعينٍ ترى العجب في تفاصيل الواقع، وتؤنسن الغرابة بلطفٍ وسخريةٍ ناعمة. تم تتابعت الخطى في "حدّ الدنيا" (2011) لحكيم نوري و"رقصة الوحش" (2011) لمجيد لحسن، حيث الأدوار تنضح بالبحث عن الإنسان وسط فوضى الوجود. وفي "خارج التغطية" (2012) لنور الدين دوكنة أطلّت بوجهٍ يعرف العزلة ويؤنسها، قبل أن تقف في الفيلم القصير "المحاكمة" (2010) لعبد الكريم الدرقاوي شاهدةً على هشاشة العدالة وسحر الصمت. ثمّ انفتحت الآفاق مع "دموع إبليس" (2014) لهشام الجباري، حيث الصراع بين النور والعتمة يمرّ من عينيها، وتنسج في "وليلي" (2017) لفوزي بن السعيدي خيوط الحبّ والتمرد في مشهدٍ مغربيّ نابضٍ بالحياة. وتتقدّم السنوات نحو "مباركة" (2018) لمحمد زين الدين، ف"نساء الجناح ج" (2019) لمحمد نظيف، و"زنقة كونطاكت" (2019) لإسماعيل العراقي، أعمالٌ تجمع الواقعيّ بالأسطوريّ، وتمنح حضورها نكهةً من صدقٍ نادر. تمّ يأتي "الرحيل" (2020) لسعيد حاميش، بوصفه وداعًا حميمًا، يليه "الكونجي" (2020) لنوفل البراوي، بوابةً إلى الداخل، يُفتح فيها القلب على احتمالات الخلاص. وفي "أبي لم يمت" (2023) لعادل الفاضلي يداوي الفقدان بلمسةٍ من الحنين، قبل أن يلوح "البحر البعيد" (2024) لسعيد حاميش، حيث يتماهى صوتها مع الأفق المائيّ البعيد ومع الحسرة والغضب، والغياب وعدٌ بالرجوع. أما الأفق الأخير ففيه فيلم "ميرا" (2025) لنور الدين الخماري و "كوندافا" (2025) لعلي بنجلون، عملان يبدوان كخلاصة الرحلة، كأنهما نغمتان أخيرتان في لحنٍ طويلٍ من البحث عن المعنى. وفي الموازاة مع كل ذلك كانت صورها تتلألأ في سماء التلفزيون: في "دواير الزمان" (من إخراج فريدة بورقية)، و"شجرة الزاوية" (لمحمد منخار)، وفي أفلامٍ تلفزيونيةٍ مثل "أكون أو لا أكون" لهشام العسري، و"الشاهدة" و"الدم المغدور" لعادل الفاضلي، و"أسرار صغيرة" لعزيز السالمي، حيث تبرق دائمًا في المسافة الفاصلة بين الدور والذات، بين ما يُقال وما يُحسّ. ويستمر وهج الحكاية والتعلق بالسينما والدراما التلفزية. لا يعتبر تكريم فاطمة عاطف مجرد اعتراف بمسيرة، فهو دعوة لإعادة التفكير في معنى الفن النسوي، في صدق الأداء، وفي حدود العلاقة بين الفنان ونفسه؛ إنها مثال على أن الموهبة لا تحتاج إلى ضجيج، بقدر ما تحتاج إلى عمق... وأن التكريم الحقيقي لا يُمنح، بل يُزرع في ذاكرة المتفرج.