في خضم النقاش الدائر حول إصلاح المنظومة التعليمية، يطفو على السطح بين الفينة والأخرى مطلب إدراج العلوم السياسية والقانونية ضمن مقررات التعليم الثانوي التأهيلي، بدعوى أن المتعلمين في حاجة إلى فهم مبادئ المواطنة والديمقراطية والدولة الحديثة منذ سن مبكرة، وتمكينهم من خلفية معرفية قبل الالتحاق بالشعب الجامعية المتخصصة في هذا المجال. قد يبدو هذا المطلب وجيها في ظاهره، غير أنه يخفي في العمق قدرا من التبسيط المخل بطبيعة العملية التربوية ومراحل النمو المعرفي والنفسي للمراهقين. فالمدرسة، في جوهرها، ليست ساحة لتجريب الأفكار أو اختبار النوايا الإصلاحية، بل مؤسسة تخضع لهندسة بيداغوجية دقيقة تراعي التدرج العقلي والنفسي للمتعلمين. إن الاعتقاد بأن تلميذ اليوم مؤهل لاستيعاب المفاهيم السياسية المركبة، وإدراك تعقيدات النظم القانونية والحقوقية والدستورية، يجانب الصواب، فهذه المعارف بطبيعتها تتطلب نضجا ذهنيا وقدرة على التجريد والتحليل النقدي لا تتوافر عادة في هذه المرحلة العمرية. ثم إن من يروج لفكرة غياب هذه المعارف في المناهج الدراسية، يتجاهل أن المنظومة التربوية الوطنية تتضمنها فعلا — ولكن بجرعات مناسبة — من خلال مواد مثل التربية على المواطنة، والفلسفة، والتاريخ، واللغة العربية ، في هذه المقررات، يتعرف المتعلم على قيم الحرية، والمسؤولية، واحترام القانون، والمشاركة المجتمعية، دون الوقوع في التلقين الإيديولوجي. إضافة إلى ذلك، فإن إدراج العلوم السياسية والحقوق كمقررات مستقلة لن يضيف بالضرورة قيمة معرفية حقيقية، بل سيزيد من تكديس المواد في برنامج دراسي يشتكي التلاميذ أصلا من ثقله وكثافة مكوناته. فالحاجة اليوم ليست إلى توسيع العرض المعرفي، بل إلى تعميق الفهم، وتحسين طرائق التدريس، وتطوير قدرات التفكير النقدي والتعبير المسؤول. تؤكد الهندسة البيداغوجية الحديثة أن لكل مرحلة تعليمية غاياتها ومداها الزمني، وأن إدخال معارف تفوق مستوى النضج الإدراكي للمتعلمين هو نوع من العنف التربوي غير المقصود. لذلك، عوض المطالبة بمقررات جديدة، يجدر بنا أن نتساءل: هل ما ندرسه اليوم فعال في بناء شخصية متوازنة ومستنيرة؟ وهل طرائق التدريس الحالية قادرة على تحقيق الأثر التربوي المنشود؟ من واقع التجربة الميدانية، يتبين أن كثيراً من المتعلمين يجدون صعوبة في تمثل المفاهيم الأساسية المرتبطة بالقوانين التنظيمية أو بالاختصاصات الجماعية، فكيف يمكن تحميلهم فوق طاقتهم بمعارف أكاديمية متقدمة في القانون والعلوم السياسية؟ إن المدرسة لا تعد "سياسيين صغارا"، بل مواطنين أحرارا قادرين على التفكير السليم واتخاذ المواقف الواعية. أما الوعي السياسي الحقيقي، فهو ثمرة تدرج في المعرفة والممارسة، لا نتيجة حشو نظري في قاعات الدرس. ولا ينبغي أن نغفل أن هناك أندية تربوية لحقوق الإنسان والتربية المدنية تشتغل في مؤسساتنا التعليمية، وتؤدي دورا فعالا في نشر قيم المواطنة والكرامة والعدل، ضمن أطر تربوية مدروسة ومناسبة للفئة العمرية. في النهاية، ليس كل علم يصلح لكل عمر، والتربية الناجحة ليست في كثرة المقررات، بل في عمق الأثر الذي تتركه في عقول الناشئة وسلوكهم.