«يَا طَالِعَ الشَّجَره هَاتِ لِي حَلِيبَ بَقَره» [توفيق الحكيم] لم أقْتَنِع، مُطْلقاً، وأنا أستمع لبعض خطاباتِ رئيس الوزاراء السيد عبد الإله بنكيران، بأنَّنِي أمام رَجُل سياسة، يعرف كيْف ينتقد خُصومَه، وكيف يُخاطِبُهُم، بما تَقْتَضِه لغة الخِطاب السِّياسيّ مِنْ لَباقَةٍ، حتَّى وهو يُحاول تَصْريف عُنْفِه اللفظيّ، الذي قد يكون قاسِياً، أو فيه بعض التَّشَنُّج، وعَدَم الرِّضا. فكُلّ ما يقولهُ من كلامٍ، هو تَهْرِيجٌ في مُجْمَلِه، وفيه كَثير من التَّشَنُّج، أو التَّعَصُّب، بالأحرى، الذي هو انْعِكاس لطبيعته، ولطبيع الفِكْر الذي يَصْدُرُ عنه، أو يَنْتَمِي إليه. كنتُ أوَدُّ لَوْ دَخَل بعض المُحَلِّلِين النفسيين على الخَطّ، وقرأوا هذه الظَّاهرة، بِكل ما فيها من تناقُضاتٍ، والْتِباساتٍ، في الخطاب، كما في السُّلُوك. فقد يَكْشِفُوا لَنا على ما يتخَفَّى، أو ما هُو مُتَرَسِّبٌ في نفس هذا الشخص، باعتباره إنْساناً، أوّلاً، وباعتباره مسؤولاً عن التسيير والتدبير السياسي، والاجتماعي والاقتصادي في البلاد. رُبَّما ستكون النتيجة، هي مَخْزُون العُنْف الذي تربَّى عليه هؤلاء في تكوينهم الفكري، الذي لا يعترفُ بحق المرأة في المُساواة، أو في أن تكون حاضرةً في الحياة العامَّة بنفس حضور الرِّجال، وهذا في ذاته، أحد مُعيقاتِ الانشراح في نُفوس هؤلاء ممن خَرَجُوا من عباءة «الإخوان المسلمين». كما قد تكون، أيضاً، ذلك النُّزُوع إلى العُنْف، و«الإرهاب»، بكل ما يمكن أن تَحْمِلَه هذه الكلمة من إيحاءاتٍ، لا أسْتَثْنِي منها الإرهاب بالمعنى الذي شاعَ اليوم، في كُل العالَم، أو أصاب العالَم كاملاً. حين أعودُ للنقاشات البرلمانية، التي دارتْ بين المُعارضة المغربية، التي كانت قَدَّمَتْ أوَّل مُلْتَمس رَقابَة، وكان، آنذاك، «الاتِّحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» هو من يتزَعَّمُها، وبين مَنْ كانوا يُمَثِّلُون الحكومة المغربية، من وُزراء الحسن الثاني، رغْم الاحْتِداد الذي كانت تَدُور به هذه النِّقاشات، ورغم كُلّ أشكال «العُنْف» الذي قد يبدو لَنا أنَّه عنف، فلم ينزل مستوى الجَدَل، بين الأطراف المُتخاصِمَة، إلى دَرَجَة الإِسْفاف التي وَصَلتْ إليها رُدُود السيد رئيس الوزاراد عبد الإله بنكيران، وبعض المُنْتَمِين إلى خزبه. فقد بلغ التَّهوُّر في هذه الخِطابات، دَرَجَةً، تَكْشِف عن الجَهْل المُطْلَق بقواعد الخطاب السِّياسيّ، في كلام بنكيران، وأيضاً، تَمْييع النِّقاش، بِخَلْقِ مُشاحَنَاتٍ، هي نوع من التَّعْوِيم، أو التَّهْويم اللَّفْظِي، الذي، كثيراً ما تَنْتُج عنه فَلَتاتُ لِسانٍ، هي تعبير عن النّزْعَة التَّسَلُّطِيَة لهذا الشَّخص، سواء في مُخاطبة خُصومِه ومعارِضِيه، أو في مُخاطَبَة أعضاء حزبه، بنوع من التَّعالِي، ونوع من دَوْخَة السُّلْطَة التي سَكَنَتْ نَفْسَه، وأقامَتْ فيها، ما سيجعلُه يُقْسِم، مثلاً، بأغْلَظِ الإيمان، لِسَدِّ الباب أمام أيّ حلّ لِمُشْكِل الأساتذة المُتَدرِّبِين. رُدود فعل النُّشطاء الأمازيغيين، ضِدَّ تصريح بنكيران، الذي هو عُنْف، وتَحْقِير، وازْدِراء للأمازيع، أو لِ «سُوس العالِمَة»، بتعبير الفقيه والأديب المختار السُّوسي، رغم ما فيه هو أيضاً من عُنْف غير مقبول، هو حاصِل هذا التَّهَوُّر في السَّبّ والشَّتْم، في كُلّ الاتِّجاهات، دون حِساب العواقب، وما يُخَلِّفُه مثل هذا الكلام الصَّادِر عن مسؤول كبير في هَرَم السلطة، من جراح، لا يمكن تبرير دَمِها، مهما حاوَل السيد بنكيران، تبريرَها، أو وضْع بعض الرُّتوشَاتِ عليها. إنَّ طبيعة المسؤوليات التي تُسْنَد لبعض الأشخاص، حين تكون مُرْتَبِطَةً بالسُّلْطَة، أو ببعض دواليب تدبير الشأن العام، تفرض على هذا الشَّخْص، أن يتنازَل عن نُزُوعِاتِه الشخصية، وأن يخرج من الشخصيّ، إلى العام، وألاَّ يعتبر ما يَمسّ مصالح الشَّعْب، أو فئاتٍ واسعة من هذا الشَّعب، مسألة تَهُمُّه هو بالذَّات، أو تَهُمُّ حِزْبَه، بل إنَّ الوَطَن، والمصلحة الوطنية، التي هي مصلحة الشَّعب، أو السَّواد الأعظم من هذا الشَّعب، هي أكبر من ترتبط بشخص، حَتْماً هو زائِلٌ، أو إلى زَوالٍ، لأنَّ الموقع الذي هو فيه، لو دامَ لغيره مِمَّنْ سبقُوه إليه، لَما كان هو وَصَل إليه. فالسيد رئيس الحكومة، يخلط الشخصي بالعام، ويَخْبِط خَبْطَ عشواء، ولا يَتَّسِم لا بِخِصال الأئِمَّة، ولا بخصال الخُلفاء ممن يعتقِد أنَّ مُتَحَدِّر منهم، أو هكذا يتوهَّم، هؤلاء الذين كانوا يَتَّسِمُون بِبُعْد النَّظَر، وبالعَفْوِ، والصَّفْح عند المقدرة. أو كما في المثل المغربي العامّ «اللِّي غٌلَبْ اعَفّ». الغالِب، في هذا الوضع، هو الحِكْمَة وبُعْد النَّظَر، كما قال سُقراط، الذي لم يقرأه بنكيران، وهُما ما لا يتوفَّر في رئيس الحكومة، وفي كثير مِمَّن نَهَجُو نَهْجَه، أو ساروا في طريقه، سَعْياً وراء الشَّارع، أو ما أصْبَح يُعْرَف ب «الشعبوية»، التي هي عَجْزٌ عن الإقناع، بالبرامج والمواقف، فيلجأ من يَسْتَثْمِرُها، إلى هذا النَّوْع من التهريج، والفُرْجَة، ومَسْرَحة الأشياء، بالتَّنْكِيث، والتَّبْكِيث، أو بالتَّصْوير الكاريكاتوري، الذي هو خِطابٌ يُقْبِل عليه عامَّة النَّاس، ممن لا يعرفون أنَّ السِّياسة، في معناها اللغوي، وفي مفهومها، هي ترويضٌ، وقُدْرَة على تحويل الهَبَاء إلى هواء، أو تحويل التَّنَك إلى ذَهَب. سادَ التَّهَوُّر، وغَلَبَ الحِكْمَةَ، وأصبح السِّياسيون عندنا، بلا لَوْنٍ، وبلا طَعْمٍ، مثل المَاء، لكنه ماء مُلوَّثُّ بشوائبِ اللِّسان، وبغَسِيل الحسابات الشخصية، والصراع على المواقع، والكراسي، فيما الوَطَن ضاع بين هؤلاء، وأولئك، الذين لا يعْنِي لهم لوطن سوى ما كان افْتَتَح به توفيق الحكيم كتابَه «ياطالع الشَّجره»، بقولته المعروفة: «ياطَالِعَ الشَّجَره هَاتِ لِي حَلِيبَ بَقَرَه».