قالت الباحثة والخبيرة الاقتصادية سميرة مزبار، في مستهل مداخلتها خلال حفل تكريم الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، إن الأخير "يجسد تماما نموذج المثقف العضوي كما حدده أنطونيو غرامشي"، موضحة أن ما يميز المثقف في فكر غرامشي ليس طبيعة العمل الذي يؤديه، بل الدور التاريخي والاجتماعي الذي يضطلع به داخل المجتمع. ومن هذا المنطلق، اعتبرت مزبار أن أقصبي "لا يكتفي بإنتاج المعرفة، بل يضعها في خدمة المجتمع، ينخرط في الدينامية التاريخية، ويتفاعل معها بفكر نقدي وشجاعة علمية".
وأكدت مزبار أن "الالتزام، بالنسبة للمثقف، لا يجب أن يُختزل في النشاط السياسي أو المواقف العامة فقط، بل يجب أن يتجلى في جميع أبعاد العمل الأكاديمي، بدءا من التعليم، مرورا بتأطير الطلبة، وصولا إلى إنتاج معرفة جادة ومنخرطة في قضايا المجتمع". وأضافت أن الأستاذ الباحث، لكي يؤدي هذا الدور، مطالب "بتعليم الفكر النقدي، وليس فقط المعارف الجاهزة"، وبتأطير الطلبة "ليكونوا فاعلين ناقدين"، وبالأساس، أن "يكون هو نفسه منتجا للمعرفة، لا ناقلا لها فقط". واعتبرت أن هذه المهام تتطلب صفات خاصة، لم تعد منتشرة اليوم في المجال الأكاديمي، حيث قالت: "كل هذه المهام تتطلب صفات من قبيل الكرم المعرفي، الجرأة، والاستعداد للمخاطرة الفكرية. وهذه صفات نلاحظ تراجعها عالميا، لكن لا تزال هناك قلاع تقاوم، ونجيب أقصبي من هذه القلاع". وتابعت مؤكدة: "هناك من لا يزالون يقاومون، ونجيب في طليعتهم، ومعه من يوجدون على هذه المنصة، ومن هم في القاعة أيضا". وفي امتدادٍ لرؤيتها حول الدور المجتمعي للمفكر، استحضرت مزبار تحليل بيير بورديو للعلاقة بين العلوم الاجتماعية والعمل السياسي، حيث قالت: "بورديو وضّح أن العلم والالتزام لا يتعارضان، بل هما وجهان لعملة واحدة"، مضيفة أن أقصبي "يجمع بين الانضباط العلمي والتفاعل مع قضايا الشأن العام، في صورة نادرة لهذا التوازن الصعب". وأضافت أن الفعل الأكاديمي لا يكون ذا معنى إلا حين يشارك في نقد الواقع وتغييره، معتبرة أن "تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي، ثم توجيه النقد له، هو شكل من أشكال المساهمة في تحوله". وشددت على أن من يتحمل هذا المسار عليه أن يكون مستعدا للنقد والتشكيك، وأن يخرج من "منطق الراحة"، لأن "مواجهة الأفكار يعني أيضا مواجهة النقد، وهو أمر يتطلب شجاعة فكرية كبيرة". وقالت إن المجتمع لا يزال يتعامل مع النقد على أنه عداء، بينما هو في الحقيقة "شرط ضروري لإنتاج معرفة حية ومتجددة"، معتبرة أن "التطور الجماعي لا يمكن أن يتحقق دون صراع الأفكار". كما أوضحت أن ممارسة الاقتصاد بشكل مسؤول يتطلب من الباحث أن يخرج من منطقه التقني الضيق، وأن "يأخذ المسافة الكافية من المعطيات والمؤشرات الرقمية"، موضحة أن البيانات "ليست بريئة"، وأن التحليل الماكرو-اقتصادي "ليس محايدا". فكل تحليل، تقول مزبار، "يحمل تموقعا معينا، سواء كان واعيا أو غير واعٍ"، مما يفرض على الأكاديمي أن يضع معارفه دائما في سياق نقدي ومفتوح على التعدد والتفاعل. وانتقدت ما وصفته ب"الانقسام المصطنع بين خطاب أكاديمي مغلق وموجّه فقط للمختصين، وخطاب جماهيري بسيط لكنه خالٍ من العمق"، معتبرة أن هذه الثنائية، كما أوضح بورديو، خاطئة ومضللة. وأكدت أن نجيب أقصبي "كسر هذا الانقسام"، لأنه "ينتج معرفة دقيقة من داخل القواعد العلمية الصارمة، لكنه في الوقت نفسه يحرص على إيصالها إلى عموم الناس، بلغة مفهومة، ودون تنازلات منهجية". وقالت مزبار: "هذا ما يجعل منه مثقفا حقيقيا، لا يُخاطب النخبة فقط، بل يحرص على أن تصل أفكاره إلى الجميع، دون أن يطلب منهم شهادة أكاديمية لكي يفهموه". وبهذا، بحسب قولها، "يتحقق المعنى الحقيقي لمفهوم المثقف المنخرط، الذي لا يتهرب من النقد، بل يدعو إليه، ويعتبره شرطا للتطور". ولفتت إلى أن أقصبي لا يكتفي بطرح أفكاره، بل "يأخذ المخاطرة بعرضها للنقاش، ويقبل المراجعة"، مشيرة إلى أنه لا يسعى لفرض تصورات جاهزة، بل يحرص على خلق فضاءات للتفكير الجماعي. ووصفت هذه الدينامية بأنها "نادرة في الحقل الأكاديمي اليوم، لأنها تتطلب التواضع أولا، والإيمان الحقيقي بأن المعرفة ليست ملكا فرديا، بل عملية جماعية تتراكم بالنقاش والتفاعل". وأضافت أن أقصبي، في تعامله مع طلبته، لم يكن يوما "باحثا يسعى لتكوين حلقة من المريدين"، بل كان دائما "يحاول أن يوقظ الفكر النقدي لديهم، أن يدفعهم إلى مساءلة ما يُقال، حتى وإن جاء منه شخصيا"، وهو ما جعل تجربته التدريسية مختلفة وملهمة.