نسج عبد الحفيظ العلوي علاقات مع أغلب علماء المغرب في حينه، وكانت تلك العلاقات مبنية في أساسها على مبدأ التملق والتورق حسب عبارة أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني، فكان العلماء يتعاملون مع السلطان بمنطق التملق والتزلف، وكان السلطان يعاملهم بمنطق التورق والعطاء، ويمكن أن نورد لذلك نموذج "العالم" عباس بن إبراهيم المراكشي صاحب "الإعلام بمن حل في مراكش وأغمات من الأعلام"، الذي كان يتزلف للسلطان بكل الوسائل، وخاطبه ذات قصيدة بقوله : أمولاي يا عبد الحفيظ عُبَيْدُكُم//أتاكم يُرَجّي نيل مطلب رتبة. أجِبْ مطلبي لا تُرجِعَنّي خائبا//وأنجِز فدَتكَ النفسُ سؤلي وبغيتي. وكان هذا "العالم" يتصيد الفرص ليتقرب إلى السلطان، فاستغل مناسبة عقيقة نجل السلطان، فقدم له قصيدة يمدح بأبياتها الوالد والمولود، فما كان من السلطان إلا أن دفع له في الحين جائزتها بيده1. وكان أغلب "العلماء" على هذا النموذج، لذا لم يستسغ السلطان تصرفات الشيخ سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني الناصح الغيور، الذي كان يمثل الشذوذ أمام فقهاء عصره ووجهائه، فعمل على تصفيته واغتياله حسبما بيناه في المقال الأول. أما الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني فكان منارة علمية يحق للمغرب والمغاربة أن يفخروا به، تتلمذ له علماء المشرق والمغرب، مع عزة نفس وأنفة تحُول دون أن يمرغ أنفه على أعتاب السلطان، ولم يثبت عنه أنه طلب منه شيئا من متاع الدنيا رغم وجاهته وحاجة السلطان إلى أمثاله، بل توجه إليه في عمل إنساني محض، مستشفعا طالبا منه إطلاق سراح زوج عمته الشيخ عبد الكبير الكتاني وأنجاله وأحفاده. ولما أحس الشيخ ابن جعفر باستحالة قيام عبد الحفيظ بإصلاحات تصب في صالح الوطن، وعجزه عن ذلك، شد الرحلة إلى المدينةالمنورة، وبعدها بسنتين أو ثلاث، وقّع الملك معاهدة الحماية التي بسطت بموجبها فرنسا سيطرتها على المغرب، وبعد ذلك بشهرين أو ثلاث، تنازل عبد الحفيظ عن الملك لأخيه يوسف، وتوجه إلى طنجة الدولية، وبعد مدة، رحل إلى المدينةالمنورة، فقابله الشيخ الكتاني ببرودة تنم عن سخط وعدم رضى، لكن عبد الحفيظ عمل جاهدا على إظهار توبته وندمه على ما صدر منه، وكان ملحا على ربط الصلة مع الشيخ. اغتر الشيخ بتوبة السلطان، وبنى علاقته معه على هذا الأساس، وتمتنت العلاقة بينهما حتى وصلت إلى درجة البيعة، فبعد أن كان السلطان يطلب من شيوخ العائلة الكتانية مبايعته، يأتي اليوم جاثيا على الركب ليبايع الشيخَ الكتاني بيعة روحية صوفية، فقال ما نصه : "أشهدتُ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أني ألزمتُ بيعة شيخي وأستاذي الشريف الأجلّ، العلامة الأمثل، سيدي محمد بن جعفر، بيعة أدين الله بها، وجعلته واسطة بيني وبين ربي جل شأنه، وعظمت مواهبه، والتزمت اتباع ما أمرني به ونهاني عنه، بقصد استطاعتي"، واستمرت مراسلاته مع الشيخ الكتاني، سواء من طنجة أو من مقامه بفرنسا، وقال في إحداها : "حضرة سيدي وشيخي وعمادي، ومن عليه بعد الله اعتمادي، بحر المعارف والأنوار ... فعُبيدكم يحمد الله ويشكره على ما أولاه من النعم ... وليسمح جنابكم الأكرم بإعارة بعض الإصغاء منكم لهذا العُبيد المنكسر الخاطر، الذي أسلم زمام نفسه الأمّارة إليكم في الباطن والظاهر ... وفي الختام، أقبّل الأيدي مع إهداء عاطر السلام ... واعلم سيدي أني عبدك وخديمك ..."، هذه مقتطفات من رسالة مؤرخة في 21 صفر 1332 ه. من خلال ما سبق، يتبين لنا الآتي : أولا : من عظيم المفارقات، أن عباسا المراكشي وصف نفسه ب"عُبَيْد" الملك، والملك وصف نفسه ب"عُبيد" الشيخ الكتاني، وهذه المفارقة تبين بجلاء الفرق بين العالم الراغب والعالم المرغوب فيه. ثانيا : يتعامل السلاطين مع المثقف/العالم الزائف وقت الرخاء، لأنه يغرقهم في المدح والثناء، أما المثقف/العالم الحقيقي فيزعجهم بالنصح والإرشاد، لذا يعرضون عنه ويضيقون عليه، ولا يتعاملون معه إلا اضطرارا، حيث يلجأون إليه وقت الشدة، لعلمهم أن شرعيتهم الحقيقية لا يكتسبونها إلا منه. إلا أن السؤال الذي يثار في هذه النازلة، هو لماذا ارتمى السلطان بهذه الطريقة في أحضان الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني ؟ ولماذا لم يبحث عن مرجعية علمية وصوفية أخرى ؟ لعل دهاء السلطان هداه إلى الارتباط بهذا الشيخ، لأنه لما كان طالبا السلطة راغبا في صولجانها، تقرب إلى الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني لكسب الشرعية، ولما فقد تلك السلطة ونُبِذ مجتمعيا حاول التقرب من عالم آخر من العائلة ذاتها في محاولة لبناء شرعية جديدة. والمسوغ الثاني، هو الإفراط في التنكيل بالكتاني الشهيد، حيث أمر عبد الحفيظ بجلده بالسياط على مرأى ومسمع من أبيه وإخوته وأبنائه، هذا التعامل السادي يشكل نقطة سوداء بارزة في عهد سلطنته، ولمحوه من الذاكرة الجماعية للمغاربة، ارتأى أن يتعامل بإيجابية مفرطة مع عَلَم من أعلام الأسرة الكتانية ذاتها، وهو ابن خال الشهيد، وكأنه يتعامل مع الأسرة الكتانية وعموم المغاربة بمنطق الناسخ والمنسوخ. ولترسيخ الصورة الإيجابية، لم يقتصر في تعامله مع الشيخ على مستوى الكلام فقط، بل كان يكرمه ويغدق عليه العطايا، وقد أورد في رسالته السابقة أنه بعث إليه عن طريق بنك [أنجل أجبش] المصري إكراما قدره مائة لويز على التمام من غير نقص2. وبما أن المغاربة لم يكن بوسعهم الاطلاع من كثب على علاقة السلطان السابق بالشيخ، لإقامة هذا الأخير بالمدينةالمنورة، فإن السلطان كان يبحث بجِدّ عن شيخ في المغرب، يستغل علاقته به لتسويق نفسه بصورة التائب النادم على ما فات، فلم يجد بدا من التعلق بالشيخ سيدي محمد بن الصديق الغماري بطنجة، فهل سيفلح في تحقيق المراد ؟ هذا ما سنحاول إبرازه في المقال القادم بإذن الله. 1 كناشة عباس بن إبراهيم المراكشي : 381. 2 السيرة الببليوغرافية للمولى عبد الحفيظ، للدكتور عبد المجيد خيالي : 238. [email protected]