باتَت التعاونيّات الفلاحية، التي تستحوذ على 66.7 % من النسيج التعاوني في المغرب، عنصرا مهمّا في إدماج المرأة المغربية في النسيج الاقتصادي، خاصّة المرأة القاطنة في العالم القروي، وبفضلها أضحت شريحة مُعتبَرة من النساء يتمتّعنَ بدخْلٍ مالي، يُساعدهنّ على توفير حاجياتهن، وحاجيات أسرهنّ، ومن ثمَّ التمتّعُ بالاستقلالية المالية. استقلالية "في العالم القروي توجد نساء فقيرات بحاجة إلى العمل للمساهمة في إعالة أُسَرهنّ، فحتى لو كان الزوجُ يشتغل، فإنَّ دخله قد لا يكفي لإعالة الأسرة، في ظلّ ارتفاع تكاليف المعيشة"، تقول جميلة أوهنانة، رئيسة جمعية "النور"، نواحي مدينة مكناس، والتي وضعتْ ملفّا لتأسيس تعاونية، ويشتغلُ معها حاليا في الجمعية 20 امرأة في صناعة الكسكس، وتربية النحل. ولا ينحصرُ الدور الذي باتت تلعبه التعاونيات الفلاحية في توفير دخْلٍ لنساء العالم القروي، وإدماجهن في النسيج الاقتصادي، بل هناك ما هوَ أهمّ، "تمتّعهنّ بالاستقلالية المالية وعدمُ تبعيّتهنّ لأزواجهن"، يقول عبد الرحمان بوفيم، مسيّر تعاونية "أفولكي" بأيت بعمران، ويُضيف أنَّ "هذه الاستقلالية المالية للنساء تدفعهنّ إلى تشجيع بناتهنّ على الدراسة". ويقول العربي العدوني، رئيس تعاونية "البرانص"، بدائرة تايناست نواحي مدينة تازة، انطلاقا من التجربة التي اكتسبها في هذا المجال، إنَّ نساء العالم القروي اللواتي يشتغلْنَ حقّقن استقلالية، وأصبحَ لهنّ قرار داخلَ أسرهنّ، لافتا إلى أنَّ بداية انخراط النساء في التعاونيات لم تكن سهلة، بسبب عدم ثقتهنّ في أنفسهن. "في البداية لم تكن المرأة تثق في نفسها، وبعد أن بدأت تشتغل، وفهِمت العمل التعاوني، وبدأت تشارك في المعارض، وتلتقي مع الناس، واستفادت من دَورات تكوينية على مستوى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والغرف الفلاحية، والمديرية الإقليمية للفلاحة، بدأت تكسب الثقة في نفسها، وبدأت في التطور والاقتراح، وأضحتْ فاعلة"، يقول العدوني. هجرة من المدينة وإذا كانت التعاونيات الفلاحية قدْ مكّنت نساء العالم القروي من قناةٍ لكسْبِ دخْلٍ، ففي منطقة أيت بعمران، وهيَ واحدة من المناطق المغربية الرائدة في مجال التعاونيات، خاصّة بعد الشروع في استغلال الصبّار، أضحت هذه التعاونيات تجذبُ النساء القاطنات في الحواضر، ليشتغلنَ في العالم القروي، خاصّة في فترات العُطل. "هناك عائلات بأكملها تقوم ب"هجرة معاكسة"، وتعودُ إلى القرية خلالَ فترات معيّنة من السنة، للعمل في صناعة منتجات الصبّار، الذي أصبح يُباعُ بثمن مهمّ، وأضحى موردَ رزق مهمّ لكثير من العائلات، بعدما كانَ في فترة من الفترات بلا قيمة"، يقول عبد الرحمان بوفيم بنوع من الاعتزاز، مضيفا: "هناك عائلات تجني ما بين 40 و50 ألف درهم، ثمّ تعود إلى المدينة". ويستطردُ المتحدّث ذاته بأنَّ الحركية التي خلقتْها التعاونيات في المنطقة جعلت العالم القروي قِبْلة "للهجرة المعاكسة"، من المدينة إلى القرية، بعدما كان مصدّرا للهجرة، وإنْ كانتِ الأسَرُ تعودُ إلى المُدن، لكون ظروف الاستقرار النهائي غير متوفرة، بسبب ضعف البنية التحتية في العالم القروي، مضيفا: "ما جنوْهُ في القرية هو باشْ كايْزيّنو حياتهم في المدينة". التعاونيات الفلاحية لا تجذبُ النساء القاطنات في المدن للعمل في العالم القروي فقط، كما هو الحال في أيت بعمران، بلْ تجذبُ، أيضا، النساء ذوات شهادات التعليم العالي؛ ففي التعاونية التي يسيّرها محمد العدوني 60 بالمائة من النساء اللواتي يعملن بها متمدرسات، ومنهنّ واحدة مجازة في القانون. وفي تعاونية أخرى بالمنطقة -حسب العدوني- تشتغلُ 9 نساء، خمْسٌ منهن مجازات. صعوبات البداية وُلوج المرأة القاطنة في العالم القروي إلى العمل في التعاونيات لم يكن يسيرا في البداية، في ظلِّ محيط تسودُ فيه "ثقافة الممانعة"، حسبَ وصْف العدوني، ويشرح ذلك بالقول: "الناس لا يتقبّلون بسهولة أيّ فكرة جديدة، إذ تكون هناك ممانعة في تقبّلها، ونحن نحاول تفكيك هذه الثقافة". لكنْ يبدو أنّ هذه "الممانعة" يتفاوتُ ثقلها من منطقة إلى أخرى، ففي أيت بعمران لا تجدُ المرأة صعوبة في العمل في التعاونيات، حسب عبد الرحمان بوفيم، الذي أوضحَ أنّ التعاونيات نزعتْ من تفكير المجتمع المحلي فكرة أنّ "النساء لا يُنتجن". وتقول جميلة أوهنان إنَّ ثمّة ميزةً أخرى تتمتّعُ بها التعاونيات الفلاحية، وهيَ أنها توفّر للمرأة القاطنة في العالم القروي عملا في فضاء لائق، وفي جوٍّ يضمن لها كرامتها، موضحة أن "المرأة تحاول أن تهرب من العمل بثمن بخس في البيوت، وفي الضيعات الفلاحية، وهي تفضل أن تكون مستورة ومشتغلة في تعاونية، عوض العمل مع الرجال وسط الضيعات الفلاحية". "ورغم من أنَّ التعاونيات الفلاحية استطاعت إدماج شريحة من النساء القاطنات في العالم القروي في النسيج الاقتصادي، إلا أننا لم نبلغ السقف الذي نطمح إليه"، يقول العربي العدوني، مُعدّدا جُملة من الأسباب التي يرى أنّها لازالت تُعيق هذا الإدماج، وعلى رأسها الأميّة، وموضحا أنّ النساء غير المتعلمات، وإنْ كنّ مُنتِجات، شأنهنّ شأن النساء المتعلمات، إلا أنّهن يجدْن صعوبة على مستوى تقييم وتثمين المنتوج، في مرحلة ما بعد الإنتاج. وإذا كانت التعاونيات الفلاحية تمثّل مصدر دخْل بالنسبة لنساء العالم القروي، فإنّها، أيضا، حدّتْ من "سطوة" الوُسطاء على أرباح المنتجين، وكان هذا الهدف واحدا من الأهداف التي دفعتْ إلى تأسيس تعاونيات في أيت بعمران. ويوضّح بوفيم قائلا: "لقد اكتشفنا أنّ المستفيد الأكبر من منتجات المنطقة هم الوسطاء، فَعسل الدغموس، المعروف بجودته، كان يباع ب100 درهم للكيلوغرام من طرف المنتجين الصغار، ويذهب به الوسيط إلى الدارالبيضاء، ويبيعه ب350 درهما، بالجملة، وهذا يعني أنَّ الربح يذهب إلى جيب الوسطاء. وحاليا، يستفيد المنتجون الصغار من الأرباح بفضل التعاونيات". ويُبْرِزُ تزايدُ عدد التعاونيات دوْرَها الكبيرَ في توفير فرص الشغل للنساء القاطنات في العالم القروي، ففي دائرة تايناست بإقليم تازة، حيث توجد تعاونية "البرانص" التي يسيّرها العربي العدوني، والتي تشغّل 9 نساء وأربعة رجال، في مجال تربية الأرانب وتربية النحل وتثمين المنتجات الفلاحية، جرى إنشاء 20 تعاونية أخرى. وفي سنة 2012 جرى تأسيس اتّحاد إقليمي يضمّ 13 تعاونية، من بينها تعاونيّتان تشتغل بها النساء بنسبة مائة بالمائة. "البيو".. قوة التعاونيات لعلَّ ما يميّز منتجات التعاونيات الفلاحية هيَ أنّها بيولوجية خالية من الموادّ الحافظة، أو ما يعرف بال"BIO"، وهيَ منتجات باتَ الإقبال عليها في تزايد. أسامة، واحدٌ من الذينَ يفضّلون اقتناء منتجات التعاونيات، بجميع أنواعها، إذْ لا يعودُ من معرضٍ حيثُ تَعرض التعاونيات منتجاتها دونَ أنْ يقتني حاجياته منها. بالنسبة لأسامة، فإنَّه رغم الطفرة التي يعرفها قطاع التصنيع، وكذا قطاع التصدير والاستيراد، وما توفّره للمستهلك المغربي من عرض مُغرٍ يجمع بين الوفرة في المنتج والثمن المناسب، إلا أن لها مضاعفات مستقبلية على الصحة والسلامة الجسدية للمستهلك، نظرا لاحتواء معظم هاته المنتجات على مواد حافظة وأخرى كيماوية. ولتفادي هذه المضاعفات، يقول أسامة: "عزمت على وضع مخطط لمستقبل صحتي، يُستهل باختياري للأمثل والأجود من المنتجات الغذائية؛ ولعل المنتجات "البيو" إحدى المنافذ الأساسية لإشباع حاجتي من التغذية، وكذا في معظم أنشطتي اليومية، كالاستحمام بالصابون الطبيعي المستخلص من الورد أو الكبريت أو الغاسول...". ويستطرد أسامة بأنَّ إقباله على اقتناء منتجات التعاونيات الفلاحية لا يرمي من ورائه إلى حماية صحته فحسب، "بل هي دورة حياة أساهم من خلالها في الحفاظ على صحتي، إلى جانب مساهمتي في إنعاش التعاونيات والجمعيات المشتغلة في قطاع الاقتصاد التضامني والاجتماعي، والذي يأوي مئات إن لم أقل آلاف الأسر المغربية"، حسب تعبيره. وعلى الرّغم من الإقبال المتزايد على هذه المُنتجات، إلا أنَّ العربي العدوني يرى أنّه لا يُمكن لأيّ تعاونيّة أن تدّعي أنَّ منتجاتها طبيعية مائة بالمائة (بيو)، لأنّ ذلك -يردف المتحدث- يقتضي إخضاع هذه المنتجات لتحاليل مخبرية، لتأكيد مدى استجابتها لمجموعة من الشروط المفروض أن تتوفّر في منتجات ال"BIO". التسويق.."أبُ" العوائق أوّلُ سبب ينزلقُ على ألسنة أصحاب التعاونيات الذين سألتْهم هسبريس عنْ العوائق التي تُثبّط وصولَ منتجاتهم إلى المستهلك، هو التسويق. وعن ذلك تقول رشيدة، المشتغلة مع جميعة "النور" بمكناس: "الدولة تدعم الجمعيات والتعاونيات في مرحلة الإنتاج، لكنْ عليها أنْ تُواكبها في مرحلة ما بعد الإنتاج، وذلك بمساعدتها على تسويق المنتجات"، مضيفة أنّ عددا من الجمعيات والتعاونيّات تتوقّف بسبب صعوبة التسويق. من جهتها قالت جميلة أوهنانة إنّ أصعب مشكل تواجهه الجمعيات والتعاونيات هو التسويق، وتضربُ مثلا بجمعيتها قائلة: "نحن نتلقى دعما من طرف مخطط المغرب الأخضر لإنتاج النحل، لكن إذا لم يتم تسويق هذا المنتج الذي تنتجه النساء المشتغلات في الجمعية في المعارض، فكيفَ يُمكن لنا أن نقوم بتسويقه؟"، لافتة إلى أنّ الجمعيات والتعاونيات تجدُ صعوبة في المشاركة في المعارض.. "عْندنا كلشي بالوجهيَّات، لا كاتعرف شي حدّ راك داخل، ما عندك حدّ راك ما داخلش"، تقول المتحدثة. ويَعتبر عبد الرحمان بوفيم أنَّ منتجات التعاونيات الفلاحية عليْها إقبال كبير من طرف المستهلكين، ويؤكّد ذلك حجم مبيعاتها في المعارض، لكنّ المشكل يكمن في شبكات التوزيع، التي اعتبرها "الحلقة المفقودة في سلسلة إنتاج التعاونيات". وزاد المتحدث أنَّ إنشاء شبكات لتوزيع منتجات التعاونيات على الصعيد الوطني لن يُساهم فقط في تسويق هذه المنتجات، بل سيخلق فرص شغل أخرى للمشتغلين في التوزيع. في المقابل، يرى العربي العدوني أنَّ التسويق لا يطرحُ مشكلا حقيقيا بالنسبة للتعاونيات، ويَعتبرُ أنَّ العائق الأكبرَ أمام تسويق منتجاتها يكمن في ضُعف تأهيل هذه المنتجات لتكون قابلة للتسويق بشكل فعّال، ويضربُ مثلا بإنتاج العسل، قائلا: "حين نتحدث عن إنتاج العسل، فإنّ السؤال الذي ينبغي طرحه هو هل هذا العسل يستجيب للشروط الصحية؟ فهو منتج باهظ الثمن، والذي سيشتريه هو في الغالب له دخْل جيّد، وهذه الفئة لها ثقافة الاستهلاك، وتبحث عن الجودة، ومدى احترام المُنتج للشروط الصحية". وتابع العدوني بأنَّ أغلب المنتجين لا يستجيبون لهذه الشروط والمعايير، وهو ما يعرقل تسويق المنتج، لافتا إلى أنَّ الدولة انتبهت، نسبيا، إلى هذا العائق، وشرعت في تأهيل التعاونيات، لتجاوزه. "حين سيُحلّ هذا المشكل فلن يظل هناك أيّ عائق لتسويق منتجات التعاونيات"، يقول العدوني. من ناحية أخرى، أجمعَ مسيّرو التعاونيات الذين استطلعنا آراءهم على أنَّ المعارض الفلاحية، وعلى رأسها المعرض الدولي للفلاحة بمكناس، تُعتبرُ البوّابة الأولى والأكبر لتسويق منتجاتهم. "المشاركة في المعرض الدولي للفلاحة بمكناس شيء مهم جدا بالنسبة للتعاونيات والجمعيات، هناك يتم التعريف بمنتجاتنا، وترويجها، وعقد الصفقات مع الشركات الكبرى، أو ربط علاقة مع الزبناء الكبار"، تقول جميلة أوهنانة. من جهته قالَ عبد الرحمان بوفيم، الذي دأب على المشاركة في المعرض الدولي للفلاحة بمكناس، والذي ستنطلق فعاليّات دورته الحادية عشرة يوم 27 أبريل الجاري، إنّ تعاونية "أفولكي" التي يسيّرها تبيع نصفَ مبيعاتها السنوية في معرض مكناس، مضيفا: "هُو أكبر فُرصة تتاح لنا في السنة لبيع منتجاتنا، وهو عيد الفلاحين".