التمثيل عند مشيل فوكو آلية من آليات الهيمنة والإخضاع والضبط، وذلك بتمثيل الآخر وثقافته بهدف السيطرة عليه. ومن آليات التمثيل الثقافي تحقير الآخر بتنميطه والسيطرة على ممكناته بإعادة بنائه ثقافيا. والتمثيل إخضاع أيديولوجي له دوافعه وأشكاله المختلفة؛ إذ إنه لا يقتصر فقط على القوة والسيطرة بالعنف بل إن أقصى أنواع التمثيل يتم باللغة والبلاغة. ويمكن في هذا الإطار أن نستحضر أيديولوجية الاستشراق الذي لا يعني فقط دراسة الشرق بهدف فهمه، بل إنه كما يرى إدوارد سعيد تمثيل ثقافي يهدف إلى إبراز ضعف الشرق وبالتالي تأكيد سهولة اختراقه والاستيلاء عليه. وبهذا المعنى كان الاستشراق والاستفراق (دراسة العربي للإفريقي) خطابا متماسكا يستفيد من ممكنات التمثيل التي تحصن ذاته في مواجهة الآخر، وذلك بتشيئ الذات المغايرة (Chosification) باعتبارها ثقافة ملوثة ولا يربطها (في حالة الاستفراق) بها غير الجغرافيا. وإذا كان " الآخر أو الآخرون" فرد أو جماعة لا يمكن تحديدهم إلا في ضوء مرجع هو "الأنا"، فإذا حددنا هوية الأنا كان الآخر فردا أو جماعة يحكم علاقته بالأنا عامل التمايز وهو تمايز إطاره الهوية أحيانا والإجراء في أحيان أخرى" (مصلح النجار وآخرون، الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية، الأهلية، الأردن، ط1، 2008، ص 51). إذا كان الأمر كذلك فإن الفرد أو المؤسسة الرسمية لن يكون لها معنى إلا وهي تلغي الذوات الأخرى أو تدمجهم في أبنيتها. واستنادا إلى ذلك فالآخر لن يكون إلا فائضا ومستهلكا وموضوعا للاختراق والاستغلال لما يتميز به وفق الأيديولوجيا السالفة الذكر من قصور فكري وثقافي وتكنولوجي. غير أن صورة الآخر بهذا المعنى لن تكون إلا صورة في المخيال وليس الواقع إذ؛ " غالبا ما يكون المقصود بالآخر صورته، والصورة بناء في المخيال، فيها تمثل واختراع، ولأنها كذلك فهي تحيل إلى واقع بانيها أكثر مما تحيل إلى واقع الآخر" (صورة الآخر، العربي ناظرا ومنظورا إليه، تحرير الطاهر لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص، 19-20)، غير أن تضخم التمثيل وهيمنته قد يحول التمثل في الصورة إلى تمثل في الواقع يتأسس على الإلغاء الفعلي والتجاوز. ولا ينحصر التمثيل في الخطابات الأكاديمية (الغالبة أو المغلوبة) وهي تقارب الآخر، بل إنه من مكونات كل مجتمع يعيش تناقضات داخلية؛ إذ نجد التمثيل مكونا أساسا من الخطاب السياسي الذي يقوم أساسا على نسف ممكنات الآخر/ المعارض وتشييئه والتقليل من أهميته ووجوده. ونجد التمثيل حاضرا في علاقة الأفراد (في المجتمعات المقهورة) بعضهم ببعض وذلك بتبني خطابات تقلل من أهمية الآخر. ولا يقتصر التمثيل على علاقات الأفراد داخل المجتمع بل إنه يتأسس بناء على ترسبات ثقافية وأسرية وتعليمية. وكل تمثيل سواء داخل المجتمع أو السياسة أو الفضاءات التعليمية أو المجتمعية يقابله تمثيل مضاد له إمكانيات هو الآخر، وهي إمكانيات مباشرة تقوم أساسا على رد الفعل/ الصراع المباشر أو على التعويض إن كانت آليات التمثيل مهيمنة بشكل يعطل ممكنات التفكير لدى الطرف المقابل. ويمكن أن نستحضر مثالا من الشعر العربي بحيث نجد أن ما يميز التمثيل المضاد عند عنترة بن شداد مثلا لا يتعدى التخفيف من السواد وليس تفكيك التمثيل المقابل بتبني التمثيل المضاد؛ " إذا تمكن عنترة من التخلص من عبوديته بفروسيته وفحولته الشعرية، فإن التخلص من سواد الجلد ليس متاحا ولا هو من الممكنات، فهي خصلة لصيقة به، قد تنوب عنه حين ينادونه بالأسود" (نادر كاظم: تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي في العصر الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004، ص 10). إذا كان التمثيل هيمنة وضبطا فإن التمثيل المضاد مقاومة رافضة للواقع والصورة الثقافية المهيمنة، غير أن التمثيل إذا آرتبط بالمؤسسة الرسمية فإنه يسخر إمكانيات لا يمكن أن تكون متاحة في الغالب للفرد، لأن هذا الأخير محكوم بطقوس المؤسسة وضوابطها، وعليه تبعا لذلك أن يخضع لسيرورة التنميط والوعي المتاح. وفي هذا السياق لا بد أن ينسخ من ذاته نموذجين، الأول ظاهر يحترم الضوابط السابقة ويخضع لها والثاني يرفض تلك الضوابط غير أنه يؤجل رفضه ويستبطنه إلى أن يتحرر مبدئيا من قيود المؤسسة التي ينتمي إليها ومن خطاباتها التمثيلية. من تجليات التمثيل المؤسساتي أن الخطاب السياسي "لا يصف العالم بل ينشئه ويغيره. ومن بين الأدوات التييستخدمها رجل السياسة في إنشاء العالم وتغييره عمليات تمثيل representation الذات والآخرين والأحداث في الصدارة. تتعدد الأدوات التي تستخدم في إنتاج التمثيلات، منها أدوات تركيبية مثل الضمائر، ومعنوية مثل النعوت والصفات، وعلاماتية مثل الحركات الإشارية، وحجاجية مثل نوع الحجج ومصادرها.. بهدف الحصول على السلطة أو تبرير حيازتها والتحكم فيها والاستئثار بممارستها أو مقاومتها.." (عماد عبد اللطيف، إطار مقترح لتحليل الخطاب التراثي، مجلة الخطاب الجزائرية، ص20). والتمثيل لا يبقى أسير المؤسسة الرسمية مقتصرا عليها، بل إن هذه الأخيرة تشيع ثقافته بين أفراد المجتمع من خلال مناهجها التعليمية والثقافية والدينية والسياسية والإعلامية، وتبعا لذلك فإن الفرد الذي سيتحرر من قيود التمثيل الرسمية التي كان ينتمي إليها فإنه سيواجه بالمقابل تمثيلا ثقافيا مشاعا داخل المجتمع وهو الأمر الذي سيؤدي به إلى أن يدخل في صراع مع أنماط أخرى من التمثيل متمثلة أساسا في سلوك الأفراد والمؤسسات الممثلة للمؤسسة الرسمية وسلوك الإعلام الهائج والعقليات الخرافية/ التقليدية المشاعة والمتحكمة في المجتمع. يعني ذلك أن التمثيل بقدر ما هو ثقافة متحكمة، مهيمنة، مبادرة فإنها ثقافة تقوم كذلك على التأجيل؛ إذ إنها تعمل على تأجيل ممكنات التعايش والوطنية والبناء المشترك. وعندما يهيمن التمثيل باعتباره ثقافة مقيدة فإنه يشيع ثقافات تقوم على المراوغة والكذب والنفاق والصراع والتعويض والانتحار الرمزي والمادي، والاستكانة إلى اليومي والإحباط والتذمر وبالتالي الهروب من الواقع بإبدالات تعويضية مقاومة تعد تمثيلا مضادا هي الأخرى. وعندما تشيع داخل المجتمع هذه الثقافة باعتبارها تمثيلات تعويضية فإن ثقافة التمثيل المضاد باعتبارها ثقافة للحوار وليس الهيمنة، والمؤسسة على النقد البناء لن يكون لها مكان داخل بنية مجتمعية مقهورة. ومرد ذلك إلى أن التمثيل الرسمي والمجتمعي المشاع يبعد آليات التمثيل الثقافي المضاد الذي يتأسس على النقد والاختلاف، لأن هذا الأخير يشكل بدوره في التمثل المشترك هيمنة جديدة وعبودية نازحة إلى تجريد الفكر المنمط من وثوقيته واستكانته وخموله. لن تكون بدائل التمثيل المضاد تبعا للمسوغات السابق ذكرها إلا آليات للصراع ورجع للصدى ومحاولة لتخريب اليقين. مهما يكن وأمام هيمنة التمثيل الثقافي يبقى رهان الفرد أن يبحث عن منافذ للتخلص من تلك الأيديولوجيات القاتلة التي تدمر النفس وذلك باعتماد آليات تفكيكية مضادة ولو تعويضية/ انهزامية كما سبقت الإشارة. ولن تكون لهذه العقلية تبعا لذلك التي عاشت النمطية والتسلط والقهر القدرة على التفكير والتحليل إن لم تقم مسافة مع التمثيل المضاد المؤسس على التعويض والتنميط على حد سواء. ويبقى ذلك الرهان ثقافة مؤجلة لطالما أن بيئة الاختلاف والإيمان به وشروط تحققه يتطلب استعدادا ثقافيا يتأسس على المكاشفة ونقد الذات. ولأن نسق الصراع يبقى مطلبا ملحا لزعماء الأيديولوجيات فإن تحقق هذا النسق يتطلب هو الاخر تأصيل ممارسة مغرضة ومؤسسات متسلطة وفي المقابل نسج خطاب وردي لا يعترف الا بالجمال والكمال.. يحارب،شكليا، ما يبدو من سلوكات وهو الذي عمل على خلقها ورسم صورتها. وهذا التناقض في التفكير لا يعكس تخلفا في التأمل والتمثل بل يترجم في العمق مقدرة عالية على تأصيل التزييف وتجذيره. وإذا كان مطلب الفرد هو توفير بيئة تساعد على النمو فإن تحقيق هذا الشرط مبدئيا يشكل تهديدا للطرف المعاند / الممثل المضاد، تهديدا لمكانته وهيمنته ووجوده. لن يكون الآحتواء، تبعا لذلك، بما هو تمثيل ثقافي وهيمنة سلطوية مؤسسة على الإلغاء، في حال الانشقاق الثقافي إلا اختراع ممكنات معرفية يتطلبها السياق المعرفي والمجتمعي العام لإعادة ضبط كل إمكانيات التمثيل المضاد أو الانشقاق الثقافي المزعوم كما تراه المؤسسة الرسمية، وبالتالي إعادة احتوائه بدمجه في أبنيتها القاتلة. لهذا نرى كيف تحول التمثيل المضاد إلى جزء من المؤسسة كما نلاحظ في سياق التعويض المادي الذي قد يتلقاه مناضل من سنوات التعذيب وهو تعويض ينسف آليات التمثيل المضاد والانشقاق الثقافي ويفقد تبعا لذلك إيمانه الكلي بممكناته وآفاقه، لأن التمثيل كرس فيه هذه الثقافة ولأنه فرد معزول من بنية مجتمعية شاملة لا تعيش إلا داخل بيئة احتوائية ثقافية تلغي كل الممكنات الثقافية، إلا البلاغية منها التي تتأسس على المراوغة والالتباس.