مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي يقرر توسيع العمليات العسكرية في غزة    تفاصيل إحباط تفجير حفلة ليدي غاغا    إسرائيل توافق على توزيع المساعدات    شغب الملاعب يقود أشخاصا للاعتقال بالدار البيضاء    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تزور بباكو المهرجان الدولي للسجاد بأذربيجان    أكاديمية المملكة تحتفي بآلة القانون    ولاية أمن طنجة توضح حقيقة "اختطاف الأطفال" وتوقف ناشرة الفيديو الزائف    وهبي مدرب المنتخب لأقل من 20 سنة.. "نتيجة التعادل مع نيجيريا منطقية"    توقعات أحوال الطقس اليوم الاثنين    مقبرة الرحمة بالجديدة بدون ماء.. معاناة يومية وصمت الجهات المعنية    فيديوهات خلقت جوًّا من الهلع وسط المواطنين.. أمن طنجة يوقف سيدة نشرت ادعاءات كاذبة عن اختطاف الأطفال    العثور على جثث 13 عاملا بالبيرو    طنجة.. حملات أمنية متواصلة لمكافحة الدراجات النارية المخالفة والمعدّلة    ريال مدريد ينجو من ريمونتادا سيلتا فيغو    كأس أمم إفريقيا U20 .. المغرب يتعادل مع نيجيريا    الاحتفاء بالموسيقى الكلاسيكية خلال مسابقة دولية للبيانو بمراكش    المغرب التطواني يحقق فوزًا ثمينًا على نهضة الزمامرة ويبتعد عن منطقة الخطر    اتهامات بالمحاباة والإقصاء تُفجّر جدل مباراة داخلية بمكتب الاستثمار الفلاحي للوكوس    تطوان تحتضن النسخة 16 من الأيام التجارية الجهوية لتعزيز الانفتاح والدينامية الاقتصادية بشمال المملكة    كأس إفريقيا لأقل من 20 سنة: تعادل سلبي بين المغرب ونيجيريا في قمة حذرة يحسم صدارة المجموعة الثانية مؤقتًا    طنجة تحتضن اللقاء الإقليمي التأسيسي لمنظمة النساء الاتحاديات    الدوري الألماني.. بايرن ميونخ يضمن اللقب ال34 في تاريخه بعد تعادل منافسه ليفركوزن    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    انخفاض جديد في أسعار الغازوال والبنزين في محطات الوقود    وزيرة تكشف عن مستجدات بشأن الانقطاع الكهربائي الذي عرفته إسبانيا    شركة بريطانية تطالب المغرب بتعويض ضخم بقيمة 2.2 مليار دولار    المغرب يتصدر قائمة مورّدي الأسمدة إلى الأرجنتين متفوقًا على قوى اقتصادية كبرى    تحالف مغربي-صيني يفوز بعقد إنشاء نفق السكك الفائقة السرعة في قلب العاصمة الرباط    الأميرة لالة حسناء تشارك كضيفة شرف في مهرجان السجاد الدولي بباكو... تجسيد حي للدبلوماسية الثقافية المغربية    الفن التشكلي يجمع طلاب بجامعة مولاي إسماعيل في رحلة إبداعية بمكناس    الطالبي العلمي يمثل الملك محمد السادس في حفل تنصيب بريس كلوتير أوليغي نغيما رئيسا لجمهورية الغابون (صورة)    "البيجيدي" يؤكد انخراطه إلى جانب المعارضة في ملتمس "الرقابة" ضد حكومة أخنوش    المغرب يطلق برنامجًا وطنيًا بأكثر من 100 مليون دولار للحد من ظاهرة الكلاب الضالة بطريقة إنسانية    إسبانيا: تحديد أسباب انقطاع الكهرباء يتطلب "عدة أيام"    الناخب الوطني يعلن عن تشكيلة المنتخب المغربي لأقل من 20 سنة لمواجهة نيجيريا    الشرطة البرازيلية تحبط هجوما بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا في ريو دي جانيرو    المغرب يجذب الاستثمارات الصينية: "سنتوري تاير" تتخلى عن إسبانيا وتضاعف رهانها على طنجة    مصادر جزائرية: النيجر تتراجع عن استكمال دراسات أنبوب الغاز العابر للصحراء    العداء الجزائري للإمارات تصعيد غير محسوب في زمن التحولات الجيوسياسية    استشهاد 16 فلسطينيا بينهم أطفال ونساء في قصف إسرائيلي جديد على غزة    معهد الموسيقى بتمارة يطلق الدورة السادسة لملتقى "أوتار"    بريطانيا تطلق رسمياً لقاح جديد واعد ضد السرطان    "الأونروا": الحصار الإسرائيلي الشامل يدفع غزة نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة    توقيف 17 شخصا على خلفية أعمال شغب بمحيط مباراة الوداد والجيش الملكي    علماء يطورون طلاء للأسنان يحمي من التسوس    المنتدى الدولي للبرلمانيين الشباب الاشتراكيين يعبر عن دعمه للوحدة الترابية للمغرب    نجم الراب "50 سنت" يغني في الرباط    من المثقف البروليتاري إلى الكأسمالي !    الداخلة.. أخنوش: حزب التجمع الوطني للأحرار ملتزم بتسريع تنزيل الأوراش الملكية وترسيخ أسس الدولة الاجتماعية    الشرطة البريطانية تعتقل خمسة أشخاص بينهم أربعة إيرانيين بشبهة التحضير لهجوم إرهابي    الجمعية المغربية لطب الأسرة تعقد مؤتمرها العاشر في دكار    دراسة: الشخير الليلي المتكرر قد يكون إنذارا مبكرا لارتفاع ضغط الدم ومشاكل القلب    مقتضيات قانونية تحظر القتل غير المبرر للحيوانات الضالة في المغرب    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل تدبير إنسي ومنصف للاختلاف الثقافي في المغرب .. كتاب «الهيمنة والاختلاف في تدبير التنوع الثقافي» لأحمد بوكوس

إن هذه الاختيارات التي اجتهد بوكوس في صياغتها وتحديدها، استجابت لجملة أسئلة حملها منذ ما يقرب من أربعين سنة من التفكير والبحث في الأبعاد «العلمية» و»الإيديولوجية» للمسألة اللغوية والثقافية في المغرب، ولاسيما من زاوية «مقاومة» النزوعات الهيمنية للثقافة «الرسمية»، وإبراز مختلف تجليات المحلي والهامش والمستبعد واللامفكر فيه.
يتعلق الأمر في كتاب «الهيمنة والاختلاف، في تدبير التنوع الثقافي» لأحمد بوكوس، بفهم الرهانات المختلفة التي تستدعيها ما يسميه « الإشكالية الثقافية بالمغرب المعاصر»، وذلك من خلال دراسة «المظاهر البارزة للوضعية الرمزية». ومن أجل تحقيق هذه الغاية قام الباحث باقتراح معمار مُفكّر فيه لكتابه يستند فيه إلى منهج ينعته ب « المنحى الوصفي والتحليلي»، وينطلق من مسلمات تتمثل في اعتباره أن «الحقل الثقافي المغربي يتسم بتعددية منابعه ومكوناته وتجلياته، وكذا بتنوع الخطابات والأصوات التي تعكسه في صورة منظومات فكرية تمثل الانتماءات المجتمعية والتموقعات الثقافية والإيديولوجية للنخبة الفكرية والإبداعية» (ص 9). كما أنه، فضلا عن ذلك، يستنير بمرجعيات نظرية، يُشَغلها في معمعة الوصف والتحليل والفهم ويحيل عليها بوضوح، من قبيل الاعتماد على العُدّة المنهجية والمعرفية ل»بيير بورديو» في تحليله لإشكالية اقتصاد الموارد الرمزية والسوق الرمزية والرأسمال الرمزي والهيمنة في عملية إبرازه للأبعاد الأنثروبولوجية لمفهوم الثقافة، أو استلهامه ل»ميشال فوكو» في استعمالاته للتشكيلات والممارسات الخطابية، وأيضا لعدد كبير من المفكرين والباحثين الآخرين، أجانب ومغاربة.
غير أن هذه الاختيارات التي اجتهد بوكوس في صياغتها وتحديدها، استجابت لجملة أسئلة حملها منذ ما يقرب من أربعين سنة من التفكير والبحث في الأبعاد «العلمية» و»الإيديولوجية» للمسألة اللغوية والثقافية في المغرب، ولاسيما من زاوية «مقاومة» النزوعات الهيمنية للثقافة «الرسمية»، وإبراز مختلف تجليات المحلي والهامش والمستبعد واللامفكر فيه.
وقد أصرَّ، أحمد بوكوس، على إعادة صوغ هذه الأسئلة حتى ولو كان ذلك في سياق المستجدات المعيارية الجديدة التي أتى بها دستور 2011 بخصوص الإقرار بواقع التنوع الثقافي. كما أنه، من جهة أخرى، لا يكف يتساءل عن حقيقة وجود دراسة مستوفية للوضعية الثقافية بالمغرب تكمن من توصيف أهم الظواهر وتحليلها قطاعيًا وشموليًا وعن شروط بناء «مخطط استراتيجي قائم على نتائج الدراسة يتوخى تقوية القطاعات الناجعة وإصلاح مكامن الضعف في القطاعات الأخرى، والآيلة للنكوص بفعل المنافسة الشرسة التي تفرضها العولمة الجارفة، ثم هل للدولة والمؤسسات إطار قانوني يوفر الآليات القانونية الكفيلة بإقرار الحقوق الثقافية وضمان شروط التمتع بها وحماية حقوق أهل الفكر والإبداع». (ص11) .
نحن، إذن، بإزاء مؤلف مُفكر فيه، بدرجات متفاوتة، من حيث أسئلته ومنهجه ومرجعياته النظرية ومنطلقاته الفكرية من أجل مواجهة «إشكالية الهيمنة والاختلاف الرمزيين داخل الحقل الثقافي للمغرب المعاصر» (ص12). وللخوض في معمعة هذه المواجهة يقترح الأستاذ بوكوس فرضية ويقوم باختيار تحليلي يتمثلان في اعتبار؛ أولا أن المجتمع المغربي، في بنائه الحالي، انخرط في سيرورة تدبير متقدم لإشكالية الهيمنة والاختلاف الرمزيين، على أساس مقتضيات دستور 2011، على الرغم من ثقل النظام الرمزي الموروث؛ وثانيا، اعتماد تحليل متن مُكوَّن من مجموعة عينات من «الثقافة الشعبية» و»الثقافة العالِمة» عبر مقاربة دلالية لهذين المفهومين؛ ثم ثالثا عرض ومناقشة أسس السياسة الثقافية المعتمدة ومدى نجاعتها في إغناء المشروع المجتمعي الديمقراطي المنشود» (ص 12) .
وهكذا ضمَّن الأستاذ بوكوس كتابه جملة قضايا ومفاهيم لها علاقة قرابة نظرية أو سياسية حتى، مع مسألة الهيمنة والاختلاف والتنوع الثقافي، من قبيل المركز والهامش والمنافسة الرمزية، والتثاقف، والسلطة الرمزية والمقاومة والعنف الرمزي والثقافة المضادة والما بين الثقافي والتفاعل الثقافي الخ… ولذلك وجد نفسه مطالبًا بتحديدات مفاهيمية تتعلق بالهوية والثقافة والخطاب وسوق الثروات (أو الخيرات) الرمزية والهيمنة الرمزية والاختلاف الرمزي والرأسمال الرمزي الخ … وذلك لتسهيل عملية إنجاز ما أسماه «مقاربة أركيولوجية للمعرفة»، وتقديم تحليل للمظهر العام لِما يمكن تسميته ب «الحقل الخطابي الثقافي» (ص17).
ليس الأمر هينا، كما يمكن أن يبدو لمن لا يدرك صعوبات التفكير في حقل ثقافي في منتهى التشابك أو التعقد، أو لمن يستعمل البحث في «البنيات التحتية الرمزية» للتعبيرات الثقافية سواء عن طريق العربية الفصحى أو العربية المغربية الدارجة أو الأمازيغية، أو في اختبار الوظائف الثقافية والقيمة التبادلية لهذه التعبيرات في السوق الوطنية للثروات اللامادية، ولاسيما ما يتعلق فيها بثقافة الهامش.
ويلاحظ أحمد بوكوس في سياق استكشافه لهذه البنيات التحتية الرمزية للثقافة المغربية أن المجتمع المغربي تأسس أو شهد «ثنائية ثقافية قطبية» مُمثلة في التعايش المتوازي لثقافة النخبة وثقافة الخاصة من جهة، وثقافة العامة من جهة أخرى، «ينتمي القطب الأول إلى السلطة الرمزية، أي سلطة النفوذ، وسلطة الجدارة والإيهام والقدرة المؤسسة على تشكيل رؤية العالم وشرعنة الخطاب المهيمن وتسمى أيضا ثقافة عالِمة، كلاسيكية ونخبوية. أما القطب الثاني فيتجلى في «الثقافة غير العالِمة» وهي الثقافة المُنتجة والمستهلكة في إطار الفضاءات الاجتماعية الهامشية، والتي تُنعت بالفلكلور أو الثقافة الشعبية أو المعيشية وهي ثقافة «مهيمن عليها» تحتل أسفل السلم في تراتبية سوق الثروات الرمزية» (ص24).
ويعتبر بوكوس أن النمط الأول «معروف إلى حد ما»، في حين أن الثاني «فمجهول في الغالب الأعم، باستثناء نزر قليل من المأثور الشفهي العربي الدارج (الملحون، الزجل..)، أما تعبيرات التراث الامازيغي فلم تنل حظها من العناية علما أنها تتضمن كنوزا من الأشعار والحكايات والخرافات والأمثال والأقوال المأثورة والفنون القروية … الخ. كما أن الإنتاج الفكري الأمازيغي الذي وصلنا يقتصر على بعض النصوص المكتوبة التي تتمحور خاصة حول مسائل العقيدة والفقه والتصوف» (ص 33).
وإن عمل بوكوس على التسليم بوجود «ثنائية ثقافية قطبية» فإنه مع ذلك يُدخل قسطًا من النسبية على هذه القطبية بحكم أن التشبث بها، في كل الحالات، لا يتطابق مع الديناميات الموجهة للتبادل الرمزي؛ إذ يرى أن ثنائية «الثقافة العالِمة» المرتبطة بالسلطة، والثقافة الشعبية المرتبطة بالهوامش، واقع وارد بشكل عام، لكن التسليم به كتصور كلي قد يسقط المرء في رؤية اختزالية. ذلك أن التنوع يخترق هذه الثنائية بأشكال وطرق متفاوتة التأثير والحضور في «الثقافة العالِمة» وفي «الثقافة الشعبية»، لا سيما وأن الباحث يقر بأن «السوق الثقافية المغربية سوق غير متجانسة، كما هو الحال بالنسبة لسائر الثقافات عبر العالم» (ص63). فضلا عن أن ما ينعت «بثقافة المركز بحكم تضمنها للثقافة الأجنبية، فإنها تعتمد في داخلها على اختيارات فكرية وثقافية متناقضة، وصراعات حتى ولو تمت على صعيد البنيات المركزية فقد يكون للهامش أو للهوامش حضور في أبجديات هذا الصراع.. وهو ما ينطبق أيضا على ما يسمى «ثقافة الهامش» التي تحيل على الثقافة العامية بلسانيها الأمازيغي والدارج» (ص43). تختزن هذه الثقافة في مكوناتها ولغاتها مؤثرات لا حصر لها انتقلت عبر قنوات ووسائط متنوعة الأشكال أكان مصدرها الثقافة العامية تقليدية كانت أم حداثية؛ فضلا عن الصراع المعلن أو المتستر ما بين النزعات التراثية وتلك التي تدعو إلى توطين مقتضيات الحداثة. من هنا كان لزاما إدخال بعض النسبية على هذه الثنائية القطبية.
وانطلاقا من تحاليل مستفيضة لمختلف تمظهرات إشكالية «الهيمنة والاختلاف» يلاحظ بوكوس أن «الحقل الفكري والثقافي شهد تطورًا عميقًا منذ النصف الثاني من القرن العشرين من حيث انتماءات النخب ومرجعيات الرؤية وآليات الاشتغال» (ص73). تتمثل تجليات هذا التطور في خلخلة بعض المواقف خصوصا منها ذات النزوعات الأصولية والتقليدية، أو تلك التي تتبرم من هيمنة الفكر «العروبي»، ومنها من يدعو إلى الانفتاح أكثر على ثقافات العالم، فضلا عن بروز نخبة جديدة تدعو إلى النهوض بالأمازيغية.
وبعلاقة بالأمازيغية يسجل أحمد بوكوس أن نخبة من المثقفين والباحثين انكبوا على دراسة ما يسميه ب « الهامش الناطق بالأمازيغية»، حيث جعلوا من «اللغة والثقافة الشعبية» مجالا للتفكير والبحث، كما استثمر البعض منهم رأسمالها الرمزي في مختلف تعبيرات الإبداع، مما سمح بإدراج هذه المسألة في قلب جدلية الهيمنة والاختلاف والمقاومة في الثقافة المغربية المعاصرة. وهي جدلية ليست بسيطة كما قد يبدو لتيار واسع ممن لا يدركون صعوبات و»رهانات» تدبير التنوع الثقافي. غير أن أحمد بوكوس أسس لمنطق هذه الجدلية اعتمادا على نظرة مزدوجة ومتكاملة المكونات؛ واحدة ذات طبيعة معيارية براغماتية بل «ومؤسسية» حتى تعي تفاصيل النزاع بين القانون والواقع، أو بين التدبير السياسي والمؤسسي وبين المعطيات المجتمعية والثقافية العينية وكيفيات التعبير عنها من طرف فئات ونخب تتقدم إلى المجال العام باعتبارها تملك «الحق في أن تكون لها حقوق» بتعبير «حنة أراندت». ويقر بوكوس في هذا السياق بأن العقدين الأخيرين شهدا مسلسل «اعتراف فرضته الدينامية التي تنشط جدلية أقطاب معادلة: الهيمنة الاختلاف والمقاومة» (ص108)؛ وأما البعد الثاني لهذه النظرة التي بلورها أحمد بوكوس في هذا الكتاب، فهو بُعد من طبيعة نقدية؛ إذ إن معمار هذا المؤلف الذي أسسه صاحبه على منهج واضح، ومنطلقات تشخيصية، ومرجعيات نظرية مُعلنة، يجعل من النقد شرطًا أوليًا لعملية التفكير في موضوع «الهيمنة والاختلاف».
ففي إطار استعراض لما يفضل بوكوس تسميته «رهانات التنوع الثقافي» التي كثفها في التراث والحداثة والتغيير والديمقراطية والتنمية، تظهر للقارئ أهمية الاختيار الدلالي لمصطلح «الرهانات» في مواجهة الموضوعات المطروحة في السياق الفكري والثقافي المغربي. ولكشف خلفيات ومضامين وأبعاد هذه الرهانات لا يتردد أحمد بوكوس في تعبئة ما يملك من عُدَّة نقدية لتشخيص وتفكيك الخطاب التراثي الذي يمثله ثالوت: «الأصولية والسلفية والأمازيغانية» (كما يقول في الصفحة 185). فهو يلاحظ أن «حقل الأمازيغية يهيمن عليه الطرح الهوياتي مع استحضار قوي للبُعد التاريخي. فالخطاب الأمازيغي يضع الماضي البعيد منبعًا للتراث، على اعتبار أنه يقوم على فكرة الأسبقية التاريخية والعهد السالف ودوام الثقافة عبر التاريخ»(ص184). وإضافة إلى هذه الحمولة التراثية يعتبر بوكوس أن الخطاب الأمازيغي أنتج جملة مفارقات، من ضمنها أنه يستحضر الأمازيغية في إطار النوستالجيا والميتولوجيا والأسطورية، شأنها في ذلك شأن سائر الخطابات التي تسعى إلى الشرعية التاريخية. وتقوم النوستالجيا المتخيلة والميتولوجيا الأمازيغية على المسلمة التالية: «الثقافة الامازيغية موسومة جوهريا بقيم الحرية والديمقراطية والتضامن والاستقامة مما يبوؤها مكانة متميزة بين الشعوب.. وتوضح هذه العناصر من الميتولوجيا كيف يقوم الخطاب التراثي الأمازيغي على مسوغات متمركزة على الذات، تتمثل في المبالغة في تثمين العنصر الأمازيغي في تقويم الهوية الثقافية المغربية عبر بناء ميتولوجيا ارتكاسية تظهر فيها الأمازيغية باعتبارها منظومة مثالية. هكذا تتحول الأمازيغية إلى مُطلق مُمجد في تصور مشروع سوسيو ثقافي بديل» (ص186).
لا يخصص أحمد بوكوس في كتابه نقده للخطاب التراثي الأمازيغي لأنه يوجهه لكل الخطابات التراثية المهيمنة أو تلك التي تنزع إلى الهيمنة، ومنها النزعات الأصولية. غير أنه يلاحظ أن الخطاب الأمازيغي، في الآونة الأخيرة، يحاول أن يؤسس لثقافة جديدة «تضع الأمازيغية في قلب الحداثة « (ص186). وفي هذا السياق يستعرض المؤلف أهم النصوص النظرية التي أنتجها المفكرون المغاربة حول موضوع الحداثة، حيث ركز بشكل أساسي، على كتابات العروي والجابري والخطيبي والمنجرة وأومليل. وجمع في أسلوب عرضه لهذه النصوص ما بين التقدير الفكري العالي لإنتاجات هؤلاء المفكرين وبين المطلب النقدي لما يستحق المساءلة والمحاججة في كتاباتهم، ولا سيما بخصوص المسألة الثقافية والمثقف. فأحمد بوكوس يرى أن «الخطاب الحداثي» يُسند للمثقف مهمة اجتماعية وسياسية لا تتلاءم وقدرته الذاتية الفعلية وموقعه الواقعي في المجتمع، «بل إن هذا الخطاب يتميز بكونه يتضمن شحنة درامية مأساوية تتجلى في عجز المثقف على تغيير الواقع. لذلك يمثل الخطاب الحداثي عند المثقف منتوجًا فكريًا خارج التاريخ، ومفصولا عن الواقع المحيط به، وبالتالي فان بناءاته التنظيرية مرسومة انطلاقا من معرفة مبتورة عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع»(ص216-217) . ومع ذلك يؤكد بوكوس على أن «النخبة الحداثية وهي واعية بتهميشها، وبالحاجة الملحة للخروج من ذلك التهميش، تولي اهتماما لافتا للمسألة الثقافية من أجل ترسيخ المسار الديمقراطي، ومن أجل مقاومة الفكر السلفي عبر النقد الجذري للأسس الثقافية للتقليد والتقليدانية» (ص217).
وعلى الرغم من التبرم النقدي من خطاب الحداثة وإبراز مكامن النقص التي تلتصق بمن ينتجه أو يدافع عنه، أو بسبب محدودية القدرة على الفعل في الواقع، فإن الأستاذ بوكوس يجد نفسه في قلب هذه الإشكالية وهو يفكر في ثنائية الهيمنة والاختلاف في تدبير التنوع الثقافي. لأنه لا يمكن لمثقف حصيف مثله يدعو إلى الديمقراطية بمعناها الحاضن للاختلافات، والمؤمن بالحقوق كافة أن لا يتموقع داخل الفكر العصري. ولذلك يقترح شرطًا تأسيسيًا يتمثل في ما يسميه بالعقلنة؛ حيث يؤكد على أنه «حين تتماهى العقلنة بالحداثة فلا مناص من الإقرار بأولوية الفكر العقلاني مقابل الفكر الخرافي أو أسبقية النسبي مقابل المطلق»، بل يضيف مطلبا لا يقل أهمية في مسار الفعل في المجتمع يتمثل في بناء «تدبير إنسي ومُنصف لتناقضات ثنائية الهيمنة والاختلاف»، يستند إلى منطق «براجماتي» تقترن فيه «العدالة والأخلاقيات بالعقلانية الاقتصادية».(ص278).
هذه بعض القضايا التي بدت لي تستحق الإبراز في كتاب «الهيمنة والاختلاف»، علما بأن مضامينه والموضوعات التي عالجها المؤلف تتجاوز بكثير هذه الأفكار التي أتيت على استعراضها. ومن المؤكد أن القضايا المركزية التي يعالجها أحمد بوكوس من قبيل الهيمنة والاختلاف والهامش والخطاب التراثي والمقاومة، وبالطريقة العميقة والحصيفة التي قام بها، تفتح شهية المناقشة الفكرية والاستمرار في تعميق النظر في أبعادها وشروط توطينها في نسيج فكري مغربي يتعرض لالتباسات غير مسبوقة بسبب سطوة الاعتبارات الإيديولوجية المتنوعة النزعات والأوهام والأهداف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.