القرار الذي اتخذه المغرب بالعودة إلى الحضن الإفريقي من بوابة الاتحاد الذي حل محل منظمة الوحدة الإفريقية ، يجمع الكل على أنه قرار تاريخي واستراتيجي ويعبر عن حدق وجرأة سياسية غير مسبوقة. لكن ما الذي حمل المغرب على أن يخطو هذه الخطوة رغم وجود بعض الاشكالات التي يمكن أن تحول أو تشوش على الأهداف التي رسمها المغرب ويصبو إلى تحقيقها من هذه العودة. والسؤال المطروح في هذه الشأن هل المغرب استطاع أن يؤمن الضمانات اللازمة لكي تكون عودته مثمرة؟ ولكي يتسنى لنا أن نقترب من أجوبة عن الأسئلة المطروحة، فإنه لابد من البحث في الحيثيات التي جعلت المغرب يتخذ هذا القرار الجريء، وهل الظروف وصلت إلى درجة من النضج حتى نؤمن لأنفسنا ما يكفي من الضمانات. من ذلك، نشير إلى بعضها ونحاول أن نجملها في ما يلي: 1 إن الوضعية الراهنة وما قبلها التي سجل فيها غياب المغرب عن هذا المحفل الإفريقي لا يمكن أن تكون إلا مجالا مؤمنا لخصوم وحدتنا الترابية الذين استغلوا، وما زالوا ، سياسة الكرسي الفارغ التي اتبعتها بلادنا إلى أن استطاعوا أن يمرروا مشاريعهم العدائية على مسمع ومرأى أصدقاء المغرب في هذا المحفل. إذن هذا الغياب، وإن استمر، لا يمكن له إلا أن يشجع الأطراف المعادية على المضي في مخططاتها المناوئة، ولربما قد تزداد انعكاساتها أكثر خطورة على ما هو عليه الحال. فإن عدنا، والعود قد يكون، أحمد فإننا قد نسجل بذلك حضورا وازنا، و ليس لدينا في الأصل ما نخشى عليه من جراء هذه العودة ما دام الغياب ليس في صالحنا، ولربما العكس هو الذي قد يحدث من خلال تواجد قوي وفعال ورصد دقيق لما يروج في كواليس الاتحاد الإفريقي والتصدي له في الوقت المناسب لوأد تلك المخططات في مهدها، ولإيقاف النزيف ووقف خطر مواصلة الهيمنة على هذا المحفل الإفريقي من قبل شرذمة من الدول التي باتت معزولة . وهذا ما ينبغي أن يحفزنا على أن تكون عودتنا ضرورية اليوم قبل الغد، وأن تكون كذلك عودة معززة بخارطة طريق محبوكة. 2 عودة المغرب إلى هذا المحفل الإفريقي كانت بطلب، بل بإلحاح من الدول الصديقة في هذا الاتحاد ومن دول أخرى أعربت عن رغبتها في أن تلتحق بلادنا بهذا الركب. هذا الأمر فيه من الدلالات والرسائل وجب على المغرب أن يلتقطها ويتعامل معها بإيجابية. فالدول الصديقة، وإن كانت مناصرة لقضية وحدتنا الترابية ، قد لا تسعفها الظروف ولا تطاوعها موازين القوى دائما حتى تحل محل المغرب في مواجهة كل شاردة وواردة، بقدر ما هي في أمس الحاجة لكي تكون معززة الجانب بتواجد مغربي يشكل قاطرة للمواجهة. وبالفعل، قد أعربت الدول الصديقة عن هذا التوجه ونصحت المغرب باتباعه وبجدواه من أجل تخليص المنظمة من هيمنة المعسكر الآخر. 3 الظروف والملابسات التي أقحم فيها الكيان الوهمي بداخل منظمة الوحدة الإفريقية كانت تحت تأثير الصراعات التقليدية بين معسكري الشرق والغرب والتي دفعت فيها القارة الإفريقية الثمن الباهض في استقرارها وأمنها . أما اليوم وبعد مرور ما يزيد عن ربع قرن يبدو أن معظم الدول الإفريقية أخذت تتخلص من الاصطفاف العقائدي والأيديولوجي، وبدأت تنزع إلى حد ما نحو الاستقلالية. هذا التحول انتهى من خلال المشهد الذي نحن نعاينه إلى فرز مجموعة من الدول بداخل المحفل الإفريقي التي تسمى اليوم بمجموعة أصدقاء المغرب، وهي المجموعة التي تسترشد بقيم العدالة والحرية . كما ترى هذه المجموعة أن المغرب بات يمثل نقطة ارتكاز ليس فحسب من أجل الدفع بقضيته الوطنية، وإنما في المعادلة الإفريقية ككل والتي برهن فيها المغرب أن لديه دور حيوي في مختلف المجالات الأمنية والدينية والاقتصادية على أساس شراكة حقيقية قوامها "رابح رابح". ولعل ما شعرت به هذه المجموعة من تزايد في حجمها وفي نفوذها، ارتأت من المناسب أن يحتل المغرب مكانته الطبيعية داخل المنظومة الإفريقية ليتعزز دور المجموعة من حيث التأثير والفعالية والتحكم في المسارات لكي لا تنزلق إلى السياقات غير الطبيعية التي من شأنها أن تضر بمصالح القارة. وفي هذا السياق ينبغي فهم مطالبة 28 دولة أي ما يزيد عن نصف الأعضاء بعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي. هذا العدد الآخذ في التزايد يوحي بآفاق واعدة في ما يخص مستقبل قضيتنا الوطنية. بل أن انضمام بعض الدول إلى هذه المجموعة بعد سحب اعترافها من الكيان الوهمي يحمل دلالات وإشارات قوية على وجود إمكانيات لتغيير قواعد اللعبة واختراق معسكر الخصم في المربعات التي كان يعتقد أنها محصنة. 4 لنجهر بقول الحقيقة ومن دون مركب نقص ولا شماتة، وهي أن الشقيقة الجزائر تمر بظرفية أقل ما يقال فيها انشغال حكامها بأجندة داخلية يحتل فيها الصراع على السلطة الصدارة مما يجعل الرؤية غامضة لما يمكن أن تؤول إليه تلك التطورات الداخلية المريبة. فهذا الصراع الجاري على قدم وساق على خلفية من هو وريث السلطة لمرحلة ما بعد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقه، فهل سيؤول الأمر إلى معسكر أخيه سعيد بوتفليقة وأنصاره من جبهة التحرير الوطنية أم إلى الحرس القديم للمؤسسة العسكرية التي ظلت لما يزيد عن خمسين عاما وهي تتحكم في دواليب السلطة. المعركة بين المعسكرين كما هي حاليا معركة كسر العظام. فكل واحد منهما يحاول أن يزج بغريمه في مسلسل الفضائح لينتهي به من وراء القضبان وإيداعه في السجن، وهو حال بعض الجنرالات المهددة بهذا المصير وفي أحسن الأحوال الانتهاء بإقالتهم من مناصبهم ليخلو المكان إلى غيرهم من الضباط الموالين لمعسكر الرئيس الحالي. الأجندة الداخلية كذلك حبلى وتتوجع بأزمة اقتصادية حادة مردها إلى الانهيار الحاد في أسعار البترول أفضى إلى نقص في احتياطي الجزائر من العملة الصعبة مما بات من المتعذر شراء السلم الاجتماعي، بل أن الجزائر أجبرت على اللجوء إلى سياسات التقشف. وإذا كان الشعب يعاني من وطأة غلاء المعيشة بسبب هذا التقشف ، فالوضع لم يعد يحتمل أن تصرف أموال الشعب، كما كان من قبل، في شراء الذمم من أجل قضية وهمية لا تعني الشعب الجزائري في شيء. في تقديري تعد هذه الوضعية أشد ارتباكا من العشرية السوداء التي عرفها الأشقاء الجزائريون. ولذلك، في فهمي البسيط ينبغي توظيف هذه الظرفية للدفع بقضيتنا الوطنية. وهناك من المؤشرات ما يشجع على ذلك، فدبلوماسية ملك استطاعت بنورها المتوهج أن تضيء على القارة السوداء وتكتسب مصداقية تتجاوز الأصدقاء لتخترق آفاقا أخرى اعتقد الحكام الجزائريون أنها ستبقى دائما مجالهم المحفوظ. كل هذه المكاسب والاختراقات في أدغال إفريقيا تمت في ظل ما يعانيه النظام الجزائري من تلف في الدماغ ومن خرف وارتجاج طال دواليب السلطة بسبب جنرالات رفضوا العودة إلى الثكنات وعدم التخلي عن بقرتهم الجزائرية الحلوب وتجفيفها إلى حد امتصاص الدماء. ما أشرنا إليه من ظروف وملابسات تهيأت ليقدم فيها المغرب على قراره بالعودة إلى البيت الإفريقي قد تكون بالفعل مشجعة ومساعدة على توفير بيئة للاشتغال. لكن كيفية الاشتغال وعلى أي أساس فذلك هو مربط الفرس. إن عودتنا إلى الاتحاد الإفريقي ما هي إلا وسيلة وليست غاية في حد ذاتها. وهذه الغاية ما هو سقفها السياسي؟ سقفها الأعلى هو طرد الكيان الوهمي من هذا المنتظم الإفريقي وأدناه هو تجميد عضويته. وبين هذا وذاك محاصرة أعداء الوحدة الترابية ومواجهة كل المخططات المناوئة في عقر هذا البيت الإفريقي. فيما يتعلق بالطرد أو التجميد، الظاهر أن الأمر يستدعي مقاربة قانونية لتبيان الموقف. فبالعودة إلى ميثاق الاتحاد الإفريقي نجد أن واضعيه، في فترة غياب المغرب عن المنظمة، تعمدوا أن يضعوا ذلك الميثاق على مقاسات الكيانات التي يدافعون عنها. وأحبكوا بنوده بشكل مدروس منها ألا وجود لبند يتحدث عن الانضمام وعن الشروط القانونية كما هي متعارف عليها في القانون الدولي، التي ينبغي توافرها في الكيان الراغب في الانضمام. وفيما يتعلق بتعليق العضوية نجد البند 30 من الميثاق يحصرها في حالة واحدة وهو أنه في حالة حدوث انقلاب على الشرعية في دولة عضو فإنه يتم تعليق عضويتها ولا يعترف بالحكومة التي انبثقت عن ذلك الانقلاب. هذا البند لم يحترم وقد لعبت الجزائر دورا في خرقه وعدم احترامه في حالة افريقية لا يسمح المقام بذكرها، مما يشير إلى أن قواعد اللعبة في الاتحاد الإفريقي تحكمها موازين القوى أكثر من الاعتبارات القانونية. ولأن الأمر كذلك، يخشى في يوم من الأيام أن تحجز "بوكو حرام" المتطرفة مقعدا لها في الاتحاد الإفريقي على غرار ما حصل مع جبهة البوليساريو. لكن إذا كان الطرد أو تعليق العضوية موصدة أبوابه، فما العمل إذن؟ فهل العودة إلى الاتحاد ستكون مجانية وبدون نتائج، وهذا أمر مرفوض وغير مقبول. فالمغرب حينما قرر العودة ، عليه أن يتمالك نفسه وأن يكون له نفس طويل، فالمعركة ليست بالهينة وهي ضارية مع الخصوم لكنها ليست مستحيلة. ففي رأيي المتواضع يجب على الدبلوماسية المغربية أن تكون في مستوى الحدث وقراءة الأحداث والنصوص والتعبئة الكاملة لمعركة شرسة قد تتطلب وقتا للوصول إلى المبتغى. وهذا المبتغى أو السقف السياسي كما أسلفت الذكر يجب الوصول إليه من ميثاق الاتحاد نفسه أي من خلال اللجوء إلى المادة 31 التي تتحدث عن إمكانية تعديل الميثاق، وهو التعديل الذي لن يتحقق إلا بتوافق الدول الأعضاء، وإذا تعذر فبأغلبية ثلثي هذه الدول. فميثاق الاتحاد ليس بكتاب منزل. والمغرب الذي يحظى اليوم بمساندة 28 دولة عضو قادر في المستقبل أن يجمع من حوله أغلبية الثلثين ليدعو إلى تعديل الميثاق بالشكل الذي يمكنه من طرد الكيان الوهمي أو تعليق عضويته حتى لا ينعث الاتحاد بأنه طرف في هذا النزاع المفتعل وحتى يتمكن أيضا من أن يكون له موطئ قدم في المسار الأممي، وهو الدور الذي يسعى إليه لكن مشكلته كونه لا يقف على الحياد من قضية التف حولها التفافا ليتبناها بهتانا. ولكي تكون هذه الدبلوماسية في مستوى الحدث ينبغي أن تكون حاضرة في عين المكان أي في أديس بابا مقر الاتحاد الإفريقي. هذا الحضور يجب أن يختار له سفير من طينة السفراء الكبار المشهود لهم بالمراس والاحترافية من طينة السفير المندوب الدائم الزميل والصديق عمر هلال لدى الأممالمتحدة بنيويورك الذي اثبت باحترافية وشراسة وحدق سياسي أنه الرجل المناسب في المكان المناسب. نحن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الذي لا يشق له غبار لكنه يجب أن يكون في أديس بابا. ونرى في الوزير المنتدب السيد ناصر بوريطة الرجل المؤهل والجامع للمواصفات المطلوبة من مراس ويقظة وتتبع للملفات كي ياخذ مكانه الطبيعي والملائم في اثيوبيا. فالمصلحة العليا للوطن فوق المنصب حتى ولو كان وزاريا . وعلى السيد ناصر بوريطة أن يظهر لنا "حنة إديه" في كواليس أديس بابا وأفاعيها عوض أن يظل في مكاتب الرباط وأرائكها حاضنا البيت لغيره . فدوره اكبر من ذاك الذي أريد له أن يظل فيه بعد أن حظي بثقة أعلى سلطة. فهل الوطنية بلغت فيه أشدها ليعلن أنه مستعد أم أن المنصب له احكامه وعنده ينتهي الكلام؟ * دبلوماسي سابق حاليا مزارع [email protected]