تعاون مغربي فلسطيني في حقوق الإنسان    السغروشني: تكوين الشباب رهان أساسي لتحفيز التحول الرقمي بالمغرب    تعزيز التعاون يجمع المغرب وموريتانيا    استئناف موسم صيد الأخطبوط بالمغرب    فتاح العلوي: مونديال 2030 فرصة تاريخية لتحقيق نمو اقتصادي كبير    أسعار النفط تتكبد خسارة أسبوعية ب1%    حملة هندية تستهدف ترحيل آلاف المسلمين .. رمي في البحر وهدم للمنازل    "القسّام": إسرائيل تعطّل المفاوضات    الدفاع الجديدي يتعاقد مع حارس موريتانيا    فيلدا: فوز "اللبؤات" على مالي مستحق    سيدات نيجيريا إلى نصف نهائي "الكان"    سائقو النقل بالتطبيقات يطالبون بترخيص السيارات المستعملة عبر دفتر تحملات    "الأشجار المحظورة" .. الشاعر المغربي عبد السلام المَساوي ينثر سيرته أنفاسًا    أخنوش: تنظيم مشترك لكأس العالم 2030 يسرع التحول الاستراتيجي للمغرب    زيادة كبيرة في أرباح "نتفليكس" بفضل رفع أسعار الاشتراكات    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم للسيدات.. المغرب يبلغ المربع الذهبي بفوزه على مالي    لقجع:كأس إفريقيا 2025 ومونديال 2030.. مقاربة إستراتيجية للبنيات التحتية والاستثمار تقوم على الاستمرارية من أجل إرث مستدام    حادث سير إثر انقلاب سيارة تقودها سيدة مقيمة بهولندا في منحدر بالحسيمة    توقيف شخصين وحجز كميات من مخدر الشيرا        رياض مزور يكشف التحول الصناعي نحو الحياد الكربوني    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    جمعية أبناء العرائش بالمجهر تتضامن و تنتقد تغييب المنهج التشاركي في تنفيذ مشروع الشرفة الأطلسية والمنحدر الساحلي بمدينة العرائش    إشارة هاتف تقود الأمن إلى جثة الطبيبة هدى أوعنان بتازة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    390 محكوما ب"الإرهاب" بالمغرب يستفيدون من برنامج "مصالحة"    أخنوش: التنظيم المشترك لمونديال 2030 عامل تسريع لتحول استراتيجي للمغرب    البيت الأبيض يكشف: ترامب مصاب بمرض مزمن في الأوردة الدموية    بأمر من المحكمة الجنائية الدولية.. ألمانيا تعتقل ليبيا متهما بارتكاب جرائم حرب وتعذيب جنسي    اتحاديو فرنسا يرفضون إعادة إنتاج "الأزمة" داخل الاتحاد الاشتراكي    نادي الهلال السعودي يجدد عقد ياسين بونو حتى 2028    السياقة الاستعراضية خطر محدق وإزعاج مقلق لساكنة «بريستيجيا» بمدينة سلا    إحداث أزيد من 6200 مقاولة مع متم ماي الماضي بجهة الشمال    كيف يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الكتاب والأدباء والإعلاميين وصناع المحتوى..    حرب خفية على المنتجات المغربية داخل أوروبا.. والطماطم في قلب العاصفة    نجل المهدي بن بركة يؤكد تقدم التحقيق بعد ستين عاما من اختطاف والده    قاضي التحقيق يودع ثلاثة موظفين سجن عكاشة بملف سمسرة قضائية        اشتباكات بين عشائر ومقاتلين "دروز"    "أنا غني".. سجال هاشم يستعد لإشعال صيف 2025 بأغنية جديدة    مدينة تيفلت تفتتح سهرات المهرجان الثقافي الخامس بباقة موسيقية متنوعة    دراسة: الذكاء الاصطناعي يحول تخطيط القلب العادي إلى أداة فعالة لاكتشاف عيوب القلب الهيكلية        رحيل أحمد فرس.. رئيس "فيفا" يحتفي بالمسيرة الاستثنائية لأسطورة كرة القدم الإفريقية    افتتاح بهيج للمهرجان الوطني للعيطة في دورته ال23 بأسفي تحت الرعاية الملكية السامية        ترامب يهدد بمقاضاة "وول ستريت جورنال" لقولها إنّه أرسل رسالة فاحشة إلى إبستين في ال2003    جيش الاحتلال الصهيوني يواصل مجازره ضد الفلسطينيين الأبرياء    بعد تشخيص إصابة ترامب بالمرض.. ماذا نعرف عن القصور الوريدي المزمن    "مهرجان الراي للشرق" بوجدة يعود بثوب متجدد وأصوات لامعة    البيت الأبيض يعلن إصابة ترامب بمرض مزمن    وداعا أحمد فرس    دراسة تكشف العلاقة العصبية بين النوم وطنين الأذن    زمن النص القرآني والخطاب النبوي    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساطير المتطرفين .. حديث شيطان من بلقين
نشر في هسبريس يوم 02 - 11 - 2016

كان الأمويون ثم العباسيون بحاجة لمستند شرعي يجيز لهم قتل الخصوم الفكريين، فنشط الدجاجلة من الرواة في وضع الروايات والأساطير المجيزة لقتل الخصوم بعد تكفيرهم بناء على تصريح يصدر منهم.
ومن جملة المسائل التي جعلوها مطية للتكفير والقتل: شتم الرسول صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء به أو بشيء من رموز الدين.
ولا شك أن فعل أي من ذلك جريمة قبيحة عند الله.
لكن القتل عقوبة شديدة لا تؤخذ إلا من القرآن الكريم، والتكفير حكم قاس لا يصار إليه بسهولة ويسر.
إن المتظاهرين بالإسلام الذين يسخرون من المقدسات أو يشتمون النبي الأمين ، منافقون في تسمية القرآن كما أوضحنا في مقال غير هذا.
والمنافق يعامل على أنه مسلم فلا يحكم عليه بالكفر والردة إلا أن يعلن عنهما صراحة.
وسواء كان المستهزئ بالمقدسات منافقا أو كافرا، فإن القرآن يدعو للصبر على أذاه والإعراض عنه أو وعظه بالقول البليغ.
وليس فيه أمر بقتله ولو تلميحا.
ولما خلا كتاب الله وسيرة نبيه الصحيحة من مثال وحيد على القتل لمجرد الاستهزاء بالرموز الدينية، فإن علماءنا متمسكون بالموضوعات والمناكير والواهيات من الروايات.
ويعتبر حديث الرجل من بلقين أحدها، فما قصته ؟ وما مدى صحته ؟
حديث الرجل من بلقين:
قال ابن حزم في كتاب "المحلى بالآثار" (12/ 437):
حَدَّثَنَا حُمَامٌ نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ نا أَبُو مُحَمَّدٍ حَبِيبٌ الْبُخَارِيُّ - هُوَ صَاحِبُ أَبِي ثَوْرٍ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ - نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ يَقُولُ: " دَخَلْت عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لِي: أَتَعْرِفُ حَدِيثًا مُسْنَدًا فِيمَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَيُقْتَلُ؟ قُلْت: نَعَمْ، فَذَكَرْت لَهُ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ " رَجُلٍ " مِنْ بُلْقِينَ قَالَ «كَانَ رَجُلٌ يَشْتُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يَكْفِينِي عَدُوًّا لِي؟ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَنَا فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: لَيْسَ هَذَا مُسْنَدًا، هُوَ عَنْ رَجُلٍ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ وَهُوَ اسْمُهُ، قَدْ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ؟ قَالَ: فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ؟»
قَالَ ابن حزم: هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ عَبْد الرَّزَّاقِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْرُوفٌ اسْمُهُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ " رَجُلٌ " مِنْ بُلْقِينَ.
فَصَحَّ بِهَذَا كُفْرُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُعَادِي مُسْلِمًا قَالَ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] .
فصح بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ، أَوْ سَبَّ مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ، أَوْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهِ، أَوْ سَبَّ آيَةً مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ اسْتَهْزَأَ بِهَا، وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا، وَالْقُرْآنُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، لَهُ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ، وَبِهَذَا نَقُولُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. انتهى
وفي طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 149): وَقد روى البيهقي هَذَا الحَدِيث فى سنَنه من حَدِيث معمر هَكَذَا، وَهُوَ إِسْنَاد صَحِيح.
واحتج به كل المصنفين في قتل شاتم الرسول ، وآخرهم العلامة عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله.
وقد اغتروا بما ورد عن الإمام علي بن المديني، ثم بتصحيح ابن حزم رحمهما الله.
والحق أنه خبر مختلق مصنوع وضعه ذاك الشيطان من بلقين ، ربما تزلّفا للأمير الأموي عروة بن محمد.
نفي صحة القصة عن الإمام ابن المديني:
يعاب على ابن حزم المتشدد في أحاديث الأحكام اليسيرة، تلميحه التدليسي بصحة قصة علي بن المديني مع "الخليفة" العباسي ، فإنه صحح الحديث الذي يعلم أنه موجود في مصنف عبد الرزاق ، فيفهم القارئ أنه صحح قصة ابن المديني مع السلطان أيضا.
وليس كذلك.
فقد ذكر الحافظ ابن حجر ما قاله ابن حزم ثم قال في "الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 446) : محمد بن سهل ما عرفته، وفي طبقته محمد بن سهل العطار، رماه الدارقطنيّ بالوضع. اه
وبحثت أنا عن ترجمة محمد بن سهل هذا فما اهتديت إليه.
والظاهر أنه العطار الوضاع ، وهو المسئول عن وضع القصة مستغلا وجود الحديث في مصنف عبد الرزاق ، إذ محال أن يفتخر إمام كابن المديني بهدية السلطان لما في ذلك من تشكيك في مروءته ، ومحال أيضا أن يقول عن الشيطان من بلقين: بِهَذَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ وَهُوَ اسْمُهُ، قَدْ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعَهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ؟ قَالَ: فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ؟» .
فالرجل مجهول، وغير صحابي كما سيأتي، ومثل ذلك لا يخفى على ابن المديني رحمه الله.
ومما يؤكد تصرف الوضاع في الخبر ، أن المصنف وغيره يتحدث عن امرأة كانت تشتم رسول الله بينما تذكر رواية المجهول أو الوضاع أن الأمر يتعلق برجل .
تناقض ابن حزم وتلاعبه غفر الله له:
من مهالك العلماء أنهم يصححون ما يوافق أفكارهم ومعتقداتهم أحيانا ، ويضعفون ما يخالفها أحيانا.
وهذا ما وقع فيه ابن حزم هنا .
فقد صحح حديث الرجل من بلقين ، وادعى أنه صحابي معروف مشهور ضاربا مذهبه عرض الحائط ، إذ أنه يرى أن جهالة الصحابي قادحة في الخبر .
وبخصوص الرجل من بلقين ، فإن ابن حزم كان له موقف مضاد منه في موضع آخر وحديث آخر.
قال في "المحلى بالآثار" (5/404) ، أي قبل قصة ابن المديني بمجلدات : وَمَوَّهُوا بِخَبَرٍ سَاقِطٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَغْنَمِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى السَّهْمُ يَأْخُذُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ جَنْبِهِ فَلَيْسَ أَحَقَّ مِنْ أَخِيهِ بِهِ» . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى أَصَدَقَ فِي ادِّعَائِهِ الصُّحْبَةَ أَمْ لَا؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ الْخُمُسَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الْغَنِيمَةَ بِلَا خِلَافٍ، فَالسَّلَبُ مَضْمُومٌ إلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ. اه
فانظر كيف يشكك في صحبة الرجل ويحكم عليه بالجهالة على مذهبه، ففي " بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام " (2/ 605) لابن القطان الفاسي تعقيبا على صاحب "الأحكام الوسطى": ثمَّ رد عَلَيْهِ هُوَ بِأَن قَالَ: كَذَا قَالَ فِي القيني، وَعبد الله بن شَقِيق أدْرك أَبَا هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَغَيرهم. انْتهى قَوْله.
وَمَا درى أَن أَبَا مُحَمَّد بن حزم لَا يقبل حَدِيث من لَا يعرف، سَوَاء ادّعى لنَفسِهِ الثِّقَة أَو الصُّحْبَة، مَا لم يخبرنا تَابِعِيّ ثِقَة بِصُحْبَتِهِ، فَحِينَئِذٍ نقبل نَقله، وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا قد بدأنا بِهِ من قَوْله فِي حَدِيث قد شهد التَّابِعِيّ لراويه / بالصحبة: هَذَا مُرْسل. ه
ثم قال ابن القطان في (5/ 752) : وَذكر حَدِيث رجل من بلقين ورد على ابْن حزم فِيهِ، وَذَلِكَ مِنْهُ نقص، بل يَنْبَغِي أَن يُضعفهُ. اه
وقد سبقنا الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (2/446) للتنبيه على تناقض ابن حزم في الرجل من بلقين .
فكن على حذر من تلبيسات العلماء وتناقضاتهم ومزاجيتهم، فلهم في ذلك القدح المعلى، غفر الله لنا ولهم.
الرواية المحفوظة:
الرواية التي ذكرها ابن حزم محرفة بواسطة محمد بن سهل المجهول أو الوضاع ، وهذا ما قاله الإمام عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه 5/307/9705 هو: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ. . . أَوْ قَالَ: أَلْفَيْنِ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟» فَخَرَجَ إِلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَتَلَهَا.
وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (6/3162) من طريق عبد الرزاق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوَّتِي، فَخَرَجَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَتَلَهَا».
هذه هي الرواية الثابتة عن عبد الرزاق رحمه الله، وفيها المرأة وليس الرجل.
والشيطان البلقيني لم يدّع هنا الصحبة، بل أرسل الخبر.
ورواية عبد الرزاق شاذة، لأنه كان يقع في الأوهام أحيانا.
والمحفوظ هو ما رواه الأئمة: أحمد بن حنبل وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وأبو عبيد، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقَيْنِ: أَنَّ «امْرَأَةً سَبَّتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ».
مصادرها: الأموال للقاسم بن سلام (ص: 233 ح 483) ، وأحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل ح731 و ح732 ، والسنن الكبرى للبيهقي (8/352) .
وهذه الرواية على ضعفها كما يأتي، لا تذكر النبي عليه السلام، وكل ما فيها أن الشيطان البلقيني أدرك خالد بن الوليد أيام الخلافة الراشدة، فعلم أنه قتل امرأة شتمت النبي الحبيب.
ولو صحت لما كانت حجة، لأن فعل الصحابي لا حجة شرعية فيه ما لم يستند إلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله.
ولا نعلم أن الخليفة الصديق أقرّ خالدا على قتل المرأة على فرض صحة القصة.
فلا مجال للزعم بأنه ليس متفردا بهذا القرار، وليس من الضروري أن يعلم الخليفة أسرار وتفاصيل الغزوات.
البلقيني دجّال مجهول:
بناء على قصة علي بن المديني، ترجم المؤلفون في الصحابة الرجل من بلقين ضمنهم، كابن منده وأبي نعيم وابن الأثير.
أما ابن حجر فإنه أورده في القسم الرابع من الإصابة، وهو خاص بالمختلف في صحبتهم.
وتقدمت تبرئة الإمام ابن المديني من نسبة البلقيني للصحابة.
وتقدم ما قاله ابن حزم وابن القطان من تجهيل له.
فما مستند من جعله صحابيا ؟
الأول: القصة المكذوبة على ابن المديني.
الثاني: ورود رواية تفيد أنه لقي النبي عليه السلام، وهي:
روى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ عبد الله بن شقيق، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَلْقَيْنَ قَالَ: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بوادي القرى فقلت: يا رسول الله، بم أمرت، قال: " أمرت أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ".
فقلت: يا رسول الله، ما هؤلاء؟ قال: " المغضوب عليهم "، يعني: اليهود.
قلت: من هؤلاء؟ قال: " الضالين "، يعني: النصارى.
قلت: فلمن المغنم يا رسول الله؟ قال: " لله سهم، ولهؤلاء أربعة أسهم ".
قلت: فهل أحد أحق به من أحد؟ قال: " لا، حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه فليس بأحق به من أحد ".
المصادر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/352) ، وأسد الغابة ط العلمية (6/391)
وروى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ بُدَيْلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بُلْقِينَ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: " هَؤُلَاءِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ "، وَأَشَارَ إِلَى الْيَهُودِ " قَالَ: فَمَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: " هَؤُلَاءِ الضَّالُّونَ " (3) يَعْنِي النَّصَارَى، قَالَ: وَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: اسْتُشْهِدَ مَوْلَاكَ، أَوْ قَالَ: غُلَامُكَ فُلَانٌ، قَالَ: " بَلْ يُجَرُّ إِلَى النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا ".
المصادر: مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/242) ، ومسند أحمد ط الرسالة (33/460) و(34/ 339)
وبين الروايتين اضطراب من جهتي المتن والسند.
فرواية حماد تصرّح أن الرجل من بلقين هو الذي حدّث عبد الله بن شقيق، أما رواية معمر بن راشد فواضحة في أن صحابيا مبهما أخبر ابن شقيق بحوار دار بين رسول الله ورجل من بلقين.
وكلا الروايتين تفيد صحبته.
والصواب أن الرجل من بلقين تابعي يروي قصة يزعم فيها أنها جرت لصحابي من قومه مع رسول الله، فاضطرب بديل بن ميسرة الراوي عن عبد الله بن شقيق، وصار يحذف البلقيني الثاني ويجعل القصة للبلقيني الأول، وهذا البرهان:
روى جماعة قالوا: حدثنا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَلْقَيْنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَ أُمِرْتَ؟ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ» قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكَ؟ قَالَ: «الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى» ، قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْمَالِ؟ قَالَ: «لِلَّهِ خُمْسُهُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِهَؤُلَاءِ» يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: فَهَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: «لَا وَلَوْ أَشْرَعْتَ سَهْمًا مِنْ جَيْبِكَ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ»
المصادر:
سنن سعيد بن منصور (2/ 298 ح 2680 ) ، والسنة للمروزي (ص: 49 ح 156 ) وشعب الإيمان (6/171) .
وهذا ما صححه الإمام أبو زرعة الرازي:
جاء في علل الحديث لابن أبي حاتم (3/352) : وَرَوَاهُ وُهَيبُ بْنُ خَالِدٍ، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بْنِ شَقيق، عَنْ رجُلٍ مِنْ بَلْقَيْنِ، عَنْ رجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ؛ قال: أتيتُ النبيَّ (ص) ... قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هَذَا أصَحُّ.
والنتيجة:
شيخ عروة بن محمد ليس صحابيا، وهو تابعي مجهول، فيكون في السند علّتان قبيحتان:
الأولى: جهالة الرجل من بلقين ، ولعله شيطان دجال.
والثانية: انقطاع السند، حيث سقط منه راو واحد أو راويان.
وحديث مثل هذا ، لا يحتج به أحد في الدماء إلا أن يكون مجنونا أو جاهلا بحقيقته.
احتمال ضعيف :
قد يجد الساذج في عالم الباحث عند الدارقطني في العلل الواردة في الأحاديث النبوية (12/432) :
وسئل عن حديث يروى عن عطية، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: {الله الذي خلقكم من ضعف} ، فقال: {من ضعف} .
فَقَالَ: يَرْوِيهِ الْأَعْمَشُ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَوَاهُ زَائِدَةُ، عن الأعمش، عن عطية، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وخالفه أبو عبيدة بن معن، فرواه عن الأعمش، عن رجل من بلقين، عن عطية، عن ابن عمر، موقوفا.
ورفعه محفوظ عن عطية، عن ابن عمر.
وقول أبي عبيدة بن معن أشبه بالصواب من قول زائدة.
والرجل الذي لم يسمه هو فضيل بن مرزوق، والله أعلم. انتهى
فيقول: فضيل بن مرزوق ثقة ، وهو الرجل من بلقين ، فكيف تحكم على حديثه بالوضع ؟
والجواب من وجهين:
الأول: عروة بن محمد السعدي ليس من الرواة عن فضيل بن مرزوق، وهو أعلى طبقة منه، فلا يكون شيخه البلقيني هو فضيل .
الثاني: فضيل بن مرزوق ليس تابعيا ، فهو من أتباع التابعين.
فإن سلمنا أنه شيخ عروة بن محمد ، فالسند معضل سقط منه اثنان ، أحدهما شيخ فضيل الذي يجب أن يكون من التابعين ، وفيهم الدجالون والمتروكون .
فيبقى الحديث ضعيفا جدا مهما لفّ ودار المخالف .
عروة بن محمد ضعيف:
عُرْوَة بْن مُحَمَّد بْن عَطِيَّة السعدي الأمير الراوي عن الرجل من بلقين ضعيف ، فهو علة إضافية تؤكد بطلان الأسطورة.
فعروة لم يوثقه غير ابن حبان الذي أورده في الثقات (7/287) لكنه قال عنه: يخطئ، وَكَانَ من خِيَار النَّاس، ولي الْيمن عشْرين سنة.
لذلك قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب (ص: 389) : مقبول ه
أي أنه ضعيف يقبل في المتابعات والشواهد، ولا يحتج به إذا انفرد بخبر كخرافته عن الشيطان البلقيني.
وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/51) للشيخ الألباني : عروة بن محمد وأبوه هما عندي مجهولا الحال، ولم يوثقهما غير ابن حبان على قاعدته!
قلت: بل نبه ابن حبان على ضعفه.
الخرافة مسروقة من حديث:
كان الرواة الدجالون يجدون حديثا صحيحا أو ضعيفا ، فيسرقون مضمونه ويضعون له إسنادا غير الإسناد المشهور به قصد الاستكثار أو الشهرة.
وهذا ما فعله هنا الرجل البلقيني، فإنه تناهى إلى سمعه حديث حسن، فتصرف فيه سندا ومتنا .
والحديث المحفوظ هو ما رواه الإمام عبد الرزاق الصنعاني في المصنف (5/236) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَبَارَزَهُ الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَبَهُ.
وفي الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 148) لابن تيمية :
قال الأموي سعد بن يحيى بن سعيد في مغازيه: حدثنا أبي قال: أخبرني عبد الملك بن جريج عن عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رجلا من المشركين شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكفيني عدوي؟ " فقام الزبير بن العوام فقال: أنا فبارزه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، ولا أحسبه إلا في خيبر.
وشيخ ابن جريج المبهم عند عبد الرزاق هو مقاتل بن حيان، فقد رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (8/45) من طريق إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ , عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي» فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَبَارَزْهُ فَقَتَلَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَبَهُ ".
وهذه الرواية صريحة في أن المشرك شتم النبي صلى الله عليه وسلم في حالة حرب ومواجهة، فكان دمه حلالا لعدوانه لا لسبّه ، فانتدب الفارس الزبير بن العوام لمبارزته كما كان يجري في الحروب التقليدية.
فلا يجوز الاحتجاج به على قتل شاتم الرسول في غير ساحة الحرب.
خلاصة البحث:
حديث قتل المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم مكذوب محرف مسروق، وعلته ضعف عروة بن محمد السعدي، وجهالة شيخه البلقيني الذي قد يكون دجالا شيطانا، ثم انقطاع السند بعده.
وقد ظهر أن الخرافة مسروقة من حديث ثابت لا حجة فيه .
وتبين أن السادة العلماء، الذين احتجوا في الدماء بأسطورة قتل امرأة سبّت النبي صلى الله عليه وسلم، مجازفون مقلدون غير مجتهدين في المسألة، ولا محققين للمرويات التي يستندون إليها.
رحمهم الله وغفر لهم.
https://www.facebook.com/mohamed.azrak.3


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.