جرأة إبداعية وإدانة لظاهرة سرقة الترجمة في المغرب كشفها الأديب عبد السلام الطويل في كتابه "أنحاء الفقدان"، الصادر مؤخرا عن دار النشر "سليكي" بطنجة. يشتغل عبد السلام الطويل بتواضع ودقة منذ سنوات طويلة، وله عدة إصدارات في مجال القصة والفلسفة والترجمة. وحول الترجمة تدور اليوم هاته المغامرة الفريدة من نوعها التي يتحدث عنها كتابه الجديد. "أنحاء الفقدان" هو ترجمة لكتاب "المحاضرات" للأديب العالمي الأعمى ذي البصيرة الأدبية الثاقبة: الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وقد ترجم عن الفرنسية، (النسخة الصادرة عن دار النشر "كاليمار"). بأدب الأديب وبسخرية لاذعة يكشف الطويل بالتفاصيل السرقة التي قام بها مترجم مغربي، سرق منه نص "المحاضرات" وقام بنشره في جريدة "العلم" منذ 17 سنة، قبل أن يتدخل مدير الجريدة، الأديب الراحل عبد الجبار السحيمي، ليوقف صدوره بعد أن بلغه خبر السرقة. واليوم يقدم الطويل ترجمة راقية وسلسة القراءة؛ وهو الأمر الأصعب في الترجمة..يترجم بعربية مبدعة الرصانة، وهو دقيق ووفي في ترجمته إلى حد كبير، إلى درجة أنه يصر على وضع كل كلمة مضافة بالعربية إلى النص الفرنسي بين معقوفتين، وإن كان ذلك يعيق تسلسل القراءة، كما أن بعض الأخطاء المطبعية تشوش على المجهود المبذول. إن الهدف الأسمى من الترجمة هو ألا نحس بها؛ أي أن نحس، قدر الممكن، وكأننا أمام نص كتب بالعربية وليس منقولا عن لغة أخرى. وهذا ما نجح فيه الطويل إلى حد بعيد، عكس الكثير من الترجمات التي تعرفها الساحة الأدبية والإعلامية، والتي تجعلك تتوقف عن قراءتها منذ الجمل الأولى. في هاته "المحاضرات" يتحدث بورخيس، القاص والمثقف الموسوعي، عند مواضيع أدبية بخلفية فلسفية عميقة، من خلال تناوله لقصص ألف ليلة وليلة والرواية البوليسية، أو لقضايا المسيحية والخلود..عن الخلود مثلا يقول بورخيس: "إني أؤمن بالخلود، ليس الخلود الشخصي، بل الخلود الكوني، سنستمر في الخلود في ما وراء موتنا الجسدي، ستبقى ذكرانا".. وعن الرواية البوليسية التي استلهم أسلوبها في الكثير من قصصه يقول بتواضع: "حاولت بدوري الكتابة في هذا الجنس، ولست فخورا جدا بالنتيجة، لأنني وضعته في عالم حاشد بالرموز قد لا يليق به. كتبت "الموت والبوصلة" وبعض الحكايات البوليسية مع "بيوي كاسيريس" الذي كتب قصصا تتفوق بكثير على قصصي". ويمكن الاطلاع على نماذج مذهلة من القصص البوليسية لبورخيس في الترجمة الجميلة التي قام بها إبراهيم الخطيب في قصص "المرايا والمتاهات"، الصادرة عن دار النشر توبقال سنة 1987. أكثر من ثلث الكتاب يخصصه الطويل لواقعة السرقة وتفاصيلها، ويثيرها في مقدمة ويصف حيثياتها، ويقدم بالحجة والبرهان أمثلة عنها، ثم يتناول النظريات الأساسية للترجمة وفلسفتها. وفي هاته المقدمة أيضا، وبعيدا عن بورخيس، اختار الكاتب أن يتوقف عند علاقة المثقف بالسلطة، من خلال مسارات كتاب كبار مثل ابن خلدون وميلتون، ومواقفهم الشهيرة مع أو ضد مشاركة المثقف في السلطة؛ وهي مواقف تبقى متباينة عبر التاريخ من قضية فلسفية أساسية هي: هل "الإنسان حيوان سياسي" أم لا؟. وفي السياق المغربي يستحضر الكاتب مشاركة بعض المثقفين في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، مثل محمد الأشعري، وتجربتهم في تدبير شؤون وزارة الثقافة بالمغرب، كما يثير مسار مثقفين آخرين وموقع ودور اتحاد كتاب المغرب. وتبقى رؤية عبد السلام الطويل عموما نقدية من مسألة المشاركة وقرب المثقف من السلطة.. ويبدو أنه يولي أهمية خاصة لهذه المسألة إلى درجة إدراجها في غلاف الكتاب، وإلى درجة تسميته "محكيات" عوض "ترجمات". يكشف لنا مسار الأديب عبد السلام الطويل قدرة كبيرة على المواظبة والاستمرارية الأدبية بعزة نفس نادرة؛ وذلك على مدى سنين طويلة.. إنه يكشف عن أديب ثابت على المبدأ إلى درجة الصوفية كما يقول الكاتب والإعلامي شكري البكري. وتطرح واقعة هذه السرقة قضية أساسية في مشهدنا الأدبي والإعلامي والتربوي، وهي أننا مازلنا لم نحسم مع مشكل الأخلاقيات (هل يمكن حلها ولو نسبيا؟) حتى نركز على واقع الترجمة ونبحث في نجاحاتها وإخفاقاتها كإحدى بوابات التقدم والحداثة، وحتى نبحث في الترجمات الرائعة لعبد الله العروي عندما يترجم مثلا "تأملات في تاريخ الرومان" لمونتسكيو أو ترجمات عبد السلام بنعبد العالي أو محمد سبيلا. يقال إن "الترجمة خيانة"، وهي في المغرب سرقة أحيانا. لكن بورخيس له نظرية فريدة وبعيدة الدلالة في هذا الباب تقول: "إن النص الأصلي هو المطالب بالوفاء للترجمة المقترحة". سارق ترجمة عبد السلام الطويل اسمه: ع ح. هكذا يرمز إليه الكاتب، ولكنه سيعرف نفسه بالتأكيد من خلال حكاية هذا الكتاب. وقد يعتذر عما فعل؛ لأن الاعتذار يبقى من شيم الكبار. وقد يأتي الاعتذار بعد 17 سنة على الخطأ؟ من يدري؟