ألاحظ صعوبة الحديث في "الدين" بين المغاربة، وسرعان ما يتحول النقاش إلى جدال ونزاع ويتفرق الجمع. المغربي يؤمن بثلاث ديانات سماوية فقط، وبأن كتب الديانتين السابقتين محرفة، وبأن أتباعها على ضلال وليسوا من المؤمنين. أما بالنسبة إلى الديانات الأخرى، مثل البوذية والزردشتية والبهائية، فلا يعترف المغربي بأنها سماوية. فكيف لنا أن نحقق التعايش والسلم والسلام مع هذه الأحكام التي تضع حاجزاً سميكاً بين أتباع مختلف الديانات؟ أما بالنسبة إلى الذين لا دين لهم أو الملحدين، فالمسألة أخطر باعتبارهم كفاراً! أيُّ تعايش نسعى إلى تحقيقه بهذه القناعات؟ كيف يمكن تحقيق الحوار بين الأديان بصدق والأحكام المسبقة حاضرة في كل نَفَس؟ أما إذا لم تكن من الدين نفسه فكل أفكارك ضالة قبل أن تنطق بها. أما إذا استطعت أن تعبر عنها، فالنزاع لا ريب فيه وتنزل عليك اتهامات وازدراء زعزعة العقيدة والعدوان ضد دينهم، كما ستدل على ذلك التعليقات الآتية لهذا التحليل! فهل الأهم هو الدين الذي ننتمي إليه أم "الدين" كَ"عملية جوهرية" موجودة في جميع الأديان، وبذلك نصبح جميعنا ننتمي إلى "العملية" نفسها أو "الدين"؟ وللتوضيح، "الدين" مثل "القانون" كعملية جوهرية ويجب علينا احترامه بالرغم من اختلاف القوانين حسب اختلاف الدول! حاولت أن أحلل هذا السلوك وهذه القناعات الراسخة، وتوصلت إلى بعض أهم الأسباب الموجودة في التربية المغربية: 1 - مفهوم "اللهم انصرنا على أعدائنا وشتت شملهم": نرسخ في ذهن الطفل أن هناك أعداء يستهدفون تشتيت دينه، وكل ما يفهمه الطفل هو أن هؤلاء الأعداء هم كفار وينتمون إلى ديانات أخرى، ومن هؤلاء الأعداء من هم بداخل دينه. ولهذا، تجد هذا الطفل دائماً على حذر، وكل من خالفه الرأي في الدين يراه عدواً متلبساً يخدم أعداء دينه! فكيف له أن يتسامح ويتعايش مع الآخرين وهو مطلوبٌ منه نصر دينه؟ فهل ينصر دينه بالتعايش وخدمة الإنسانية أم بالعداوة والبغضاء مع المؤمنين بديانات أخرى؟ 2- مفهوم "آخر الديانات" لقد رُسخ في ذهن الطفل على أن دينه هو آخر الديانات، وكل دين يأتي من بعده فهو باطل، بدون أن نعلمه مع الأسف بأن كل دين يدعي بأنه آخر الديانات! ولهذا، مثلاً المؤمنون اليهود رفضوا المسيحية كديانة سماوية، وكلاهما رفضا من بعد ذلك الإسلام كدين سماوي، كما رُفضت البهائية من بعد ذلك من المؤمنين بهذه الديانات بأنها رسالة سماوية. فهل المهم هو أن نعتبر ديننا آخر الديانات أم أن نؤمن بأن لكل دين مصداقيته الشرعية مع المؤمنين به، ونعلم الطفل احترام مفهوم "المؤمن" بدون أحكام مسبقة؟ 3- مفهوم" الدين" يتلقى الطفل، سواء في المنزل أو في فضاءات أخرى، على أن الدين هو مجموعة من الطقوس يجب القيام بها والابتعاد عن المحرمات حتى يكون له مكان في الجنة، كما يُرسخ في ذهنه أن دينه هو الحق وكل الأديان الأخرى على غلط. ومن ثم، ينشأ الطفل على هذا المفهوم للدِّين، حيث إنه يصاب بنكسة قلبية لما يطلع أن هناك مغاربة من ديانات أخرى وتراه يرفض وجودهم ويحتقر معتقدهم. وهذا من أسباب الحواجز للتعايش مع كل الأديان الأخرى. نتساءل، إذاً، هل "الدِّين" أتى لِيُوحد البشرية أم ليُفرقها؟ ما فائدة الدين إذا زرع التفرقة بين البشر؟ هل الدين هو مجرد طقوس أم "قوة" أو "عملية" تَبعث في كل إنسان روح الوحدة والسلام والمحبة وسلوك وفلسفة وأعمال لخدمة الإنسانية؟ فما هو المعنى الحقيقي لِ"الدّين" كعملية جوهرية؟ 4- مفهوم "المؤمن" يُرسخ في ذهن الطفل بأن المؤمن هو الذي ينتمي إلى دينه بالضبط، والذي ينتمي إلى غيره فهو كافر ضارباً عرض الحائط إيمان هذا الشخص ومستهزئاً بدينه وطقوسه. وهذا جدار في بناء الحوار بين الأديان بمعنى الكلمة! لكل دين مؤمنون به، ومفهوم "المؤمن" لا ينطبق على دين واحد فقط.. وإذا قام كل دين على اعتبار غير المؤمنين به كفار، فسنصبح تبعا لذلك كلنا "مؤمنون وكفار" في آن واحد! كل دين يعتبر دينه الحق! هل نحصر، إذاً، مفهوم "المؤمن" على كل من يؤمن بدينه والكل مؤمن أم فقط على الذي يؤمن بديننا وكل فرد منا "مؤمن بالنسبة إلى دينه وكافر بالنسبة إلى الأديان الأخرى" في الوقت نفسه؟ ولا داعي أن تعلقوا بِ"قال الله في ...." لأن لكل كتابٍ شرعيته مع مؤمنيه فقط! 5- غياب دراسة معظم الديانات مع الأسف الشديد، التربية لا تهتم باطلاع الطفل على مختلف الديانات بما يخص تاريخها وطقوسها والمؤمنين بها؛ لأن جهلها يخلق الأحكام المسبقة ويجعلها كشبه منعدمة وكل ما يطلع عليه الطفل خارج إطار التربية على هذه الديانات يكون عبر الشفهي وغير نابع من مصدر صحيح ومستهدفاً تشويه الدين الآخر! فدراسة الديانات تسمح للطفل بالتعرف عليها والاقتراب منها ثقافياً والتعايش مع المؤمنين بكل واحدة منها. 6- غياب مفهوم" الاحترام" الكل يرى غياب الاحترام في مجتمعنا وفي كل المجالات والميادين. ومع الأسف، لا أحد يحترم الآخر، سواء في الشارع أو عند البقال أو في الإدارات أو بين الجيران أو بين الأزواج والإخوة. ولهذا، لا نرى في التربية الدينية مبدأ احترام الإنسان، سواء من الدين نفسه أم لا واحترام جميع المعتقدات وأنها مسألة شخصية محضة وأن الأهم هو خدمة الإنسانية! 7- غياب مفهوم "حرية العقيدة" بطبيعة الحال، يتلقى الطفل التربية الدينية من دين آبائه.. وهذا شيء حسن بدون شك. فهل هذه التربية تحث الطفل على الحرية بطرح كل تساؤلاته المحرجة مثل "كيف شكل الله؟" أو "ما الدليل على أن الله هو الذي بعث هذا الدين؟" أو تسمح له بأن يعبر عن اعتقاده مثل "أنا لا أعتقد أن لله وجودا" أو عن أفكاره مثل "أنا لا أتفق مع كلام هذا الفقيه"؟ وإذا فعل هذا فهل لا ينزل عليه المربي بالسخط؟ ولهذا، ينشئ الطفل جاهلاً مفهوم "الحرية" في التفكير وفي التعبير برأيه، وبطبيعة الحال في اختيار المعتقد! 8- العنف والقمع التربية المغربية، مع الأسف الشديد، مبنية غلى العنف والقمع وعدم التشجيع وشحن الطفل منذ صغره بهذه القوى الهدامة. ولهذا، تجد أن كل العلاقات مبنية على هذا الأسلوب الذي يتسرب إلى الحقل الديني، حيث ينعدم التسامح بسهولة، وبالخصوص إذا كانت العقيدة مختلفة مع الآخر. نرى إذاً أن للتربية الدينية والتربية بصفة عامة دوراً كبيراً في تلقين مفهوم "الدين" والتعايش. وإذا لم تتطور التربية وتواكب حداثة الفكر، فإن مفهوم "الدين" و"المؤمن" لن يتطور أبداً تاركةً الفضاء الفارغ لترسيخ التعصب والتطرف وانعدام السلم والسلام في المجتمع الإنساني. *طبيب ومحلل نفساني