ها أنا أعود من جديد إلى الكتابة بعد انقطاع دام أكثر من سنة، لا أدري كيف حصل ذلك؟ فجأة رأسي الذي عهدته دوما ممتلئا بالأفكار والمواضيع المختلفة وجدته أضحى أشبه بوعاء فارغ، كجمجمة متحللة لم يتبق منها إلا إطارها العظمي وفي وسطه الخواء، حتى أناملي التي كانت تمسك القلم بخفة ونشاط وهمة ها هي ساكنة متكاسلة وخاملة وكأنها أصابع ميتة لا يتدفق الدم في عروقها حياة وإبداعا. لا أتذكر بالضبط اليوم الأول الذي توقفت فيه عن الكتابة، ظننت في البداية أنها مسألة وقت فقط وسأعود قريبا لسابق نشاطي وحيويتي، وكأنها مجرد استراحة محارب عائد لا محالة لاستكمال معركته المقدسة، وها قد مرت علي شهور عقيمة ظلت فيها أوراق دفاتري عذراء لم يلوث سواد المداد بياضها الناصع. أي تفسير منطقي لهذا الجفاء؟ وهل ملكة الكتابة قابلة للفتور والذوبان كشمعة الضريح تظل متقدة تقاوم في صمت ظلمة الليل احتراقا حتى تنطفئ فجأة وإلى الأبد؟ فهل سمعت يوما عن شمعة عادة لطبيعتها الأولى بعد أن نضب فتيلها وتهاوت قطرات على الأرض؟ كدت أن اقتنع باني انتهيت ككاتب، قبل أن يهمس في أدني صديق عندما كنت أهم بمغادرة المقهى: ما بال الجن الذي يسكنك قد توقف عن الابداع؟ ظننته ساعتها يمزح كعادته، فلم أبال بما قال واكتفيت بضحكة ساخرة ثم انصرفت. لكني وجدتني طول الطريق أفكر بالجن الذي يسكن عادة الشعراء والأدباء، ألم يكن لإمرؤ القيس قرين من الجن حتى إنه قال: "تخيرني الجن أشعارها**فما شئت من شعرهن اصطفيت"؟ وقال شاعر آخر: "إني وكل شاعر من البشر**شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"؟ بدأ يساورني الشك بالفعل، فهل هذا العجز في الكتابة يتحمل مسؤوليته الجني الكسول القابع في أعماقي؟ شعرت بمتعة لذيذة بداخلي بعدما تخلصت من عقدة العجز وقلة الحيلة، ألست أنتمي إلى أمة تعشق أن ترمي بفشلها على الآخرين؟ وها أنا أجد من أرمي إليه بمسؤولية ضعفي ونضوب كلماتي وأفكاري. وهل من الممكن أن يصدق القراء ويستوعبوا أن شح الكتابة الذي أعانيه يتحمله غيري، وحتى لو أن "غيري" هذا جنيّ وليس إنسيا؟ لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك طويلا حين تذكرت كيف أن الشعب استوعب وآمن بأن الخسارة التي لحقت منتخبه الأول كانت بسبب أرضية الملعب السيئة، وكأن المنتخب المنافس كان يلعب فوق أرضية مغايرة، من آمن بأن الانهزام في الكرة قد يكون بسبب الجماد "أرضية الملعب" لن يتردد أبدا في الاعتقاد بأن انهزامي في الكتابة بسبب الجن! لكن قبل أن أطلب من جمهوري وقرائي الإقرار والإيمان بهذه الحقيقة، يجب عليّ أنا أولا الايمان بها يقينا لا شكا، لولا أن نيوتن لم يكن مقتنعا تماما بقوة جاذبية تفاحته إلى الأرض لما استطاع أن يُقنع بذلك الآخرين. كيف يمكنني إذاً التأكد من فرضية أن الجنيّ الذي يسكنني هو سبب نكستي وكسوفي الأدبي؟ فالمسألة التي بين يدي لا تدخل في إطار العلوم التجريبية كحال تفاحة نيوتن للاستدلال والخروج بنظريات منطقية لا جدال فيها. فجأة تمثلت صورة الحاج عبد الرحمان أمام عيني، بلحيته الطويلة البيضاء وعمامته السوداء ونظراته الثاقبة، حتى يُخيل إليك أنه يخترقك بعينيه ليصل إلى أبعد نقطة في أعماقك المظلمة، كان يقصده الكثير من الشخصيات المعروفة، يُقال إن له قدرة خارقة في محاورة الجن، رغم أن الرجل يسكن بجانبي لا أتذكر أننا تحدثنا مرة، كنت أتحاشاه قدر المستطاع، وعندما كنا نلتقي وجها لوجه أغض من بصري وأمشي مهرولا. أنا الذي كنت أخشى مجرد الاقتراب منه ها أنا الآن أقف عند عتبة داره أدق الجرس، لأجد نفسي في أقل من ثانية وجها لوجه أمام الرجل. ابتسم في وجهي، وبينما كنت أتلعثم محاولا أن أبرر له سبب قدومي، باغتني بسؤال نزل عليّ كالصاعقة: هل علمتَ بموت قرينك الجني الذي كان يسكنك؟ لقد عمّر طويلا، كان شاعرا وأديبا فحلا، عاشر عنترة ابن شداد، طرفة ابن العبد وزهير ابن ابي سلمى... ما هذا النحس! قريني الذي عاش آلاف الأعوام حاملا حقيبته ودواوينه وكتبه متنقلا من جسد إلى آخر، لا يمت إلا الآن في زمني وتاريخي؟ ليتركني لهذا الكساد والقحط الأدبي الذي لحقني بموته. وبينما كنت منصرفا، قال لي الشيخ عبد الرحمان وكأنه يواسيني في مصيبتي: لا تحزن يا ولدي قد يكون قرينك الجديد أحسن وأفضل من القديم. فقلت متعجبا ومندهشا: ألم تقل إن قريني مات؟ نعم مات، لكنك من ضمن التركة التي خلفها وراءه، وسوف يرِثُك أحد من أبنائه الكثر، ما عليك الآن سوى الانتظار حتى تنتهي عملية نقل التركة إلى الورثة. ها أنا أنتظر إلى من سيؤول إليه أمري، وإن كنت في الحقيقة متفائلا، فالمرحوم كان هرما في الأدب والشعر وليس مستبعدا أن تكون ذريته أيضا على منوال والدهم، أدباء وشعراء وكتاب، فصرت متحفزا ومستعجلا أيضا أن يتم نقل المتروك بسرعة أكثر! وإن كنت أخشى أن يسكنني جنيّ من حفدة المرحوم من جيل الأدباء الجدد ممن ينادون بالحداثة في القصيدة العربية، حتى جعلوها مسخا، سيكون موقفي غريبا عندما أصير مثلهم، أكتب "قصائد" أقرب إلى كلمات متقاطعة وأنا الذي كنت أخوض معارك أدبية ضارية من أجل الحفاظ على هوية وأصالة القصيدة العربية. انتظرت شهورا أخرى دون أن أشعر بأي تغيير فما زلت مضربا عن الكتابة إلى غاية ذاك الصباح حيث حدث ما لم أكن أتوقعه بالمرة. استيقظت مع الفجر، لبست بدلتي الرياضية وخرجت أركض وأركض، لم أشرب قهوتي كالمعتاد ولا دخنت نصف علبة السجائر ككل صباح، بل اكتفيت بعصير برتقال طبيعي وقضمت تفاحة خضراء، صار اهتمامي كله منصبا حول المسابقات الرياضية ودوريات الكرة العالمية، حتى عندما أجلس أمام التلفاز أجدني أبحث عن ترددات محطات لم أكن أشاهدها من قبل، أصبحت مهووسا بمسابقات الفرميلا1 للسيارات، أخذت عضوية أكثر من نادي رياضي وانتخبت رئيسا شرفيا لفرع نادي عالمي لتسلق الجبال في مدينتي التي لا أثر للجبال في تضاريسها المنبسطة. كان واضحا أن قريني الجديد لا علاقة له بالأدب والشعر؛ فهو جن رياضي بامتياز، بت مسرورا وفخورا بلياقتي البدنية التي اكتسبتها من كثرة التمارين والممارسات الرياضية المختلفة. شعرت كم كنت محظوظا حين تخلصت من ذاك الجني المثقف والكاتب، أصلا من صار يقرأ ما يكتبه الشعراء؟ حتى عندما شاركت في مسابقة أدبية نظمتها وزارة الثقافة، حضر في المسابقة كل من المال والسياسة والصفقات وغاب الأدب والثقافة والشعر، من الصعب أن تكون كاتبا أو روائيا في زمن صارت فيه القراءة بضاعة منبوذة وغير مرغوب فيها، حتى جداري في فيسبوك، أصدقائي الكثر يتفاعلون بكرم مع صوري التي أضعها ولا يتفاعلون مع كتاباتي وقصصي... فهل هناك مسخ أكثر من هذا؟ إنه زمن الصورة والفتوشوب. ما هذا الخمول والكسل الذي نزل عليّ فجأة؟ ها أنا أعود من جديد إلى قهوتي وأدخن بمتعة وشراهة علبة سجائر كاملة، ما أحلى النوم ودفء هذا الفراش، كيف كانت تطاوعني نفسي أن أتركه وأخرج للبرد والصقيع لكي أركد تحت زخات المطر؟ شعرت كم كنت ظالما لجسدي وأنا أتحسس بألم مفاصيلي المتعبة جراء التمارين الرياضية القاسية. انقطعت فجأة عن الرياضة كما انقطعت في زمن مضى عن الكتابة. سمعت طرقا خفيفا على الباب، عانقني الشيخ عبد الرحمان، جاء لكي يعزيني في وفاة الجن الذي كان يسكنني، لقد سقط وهو يتسلق أعلى قمة في جبال الهيمالايا فمات، يا له من جنيّ متهور، ما بها جبال الأطلس أو الريف ليتسلقها؟ هل كان من الضروري أن يركب غروره محاولا تحطيم الرقم القياسي في تسلق الجبال، ألم يكن يستطيع أن يصبر حتى يحل فصل الصيف بدل مغامرة الصعود نحو أعلى قمة في الهيمالايا أثناء عواصف الرياح والثلوج؟ ها أنا من جديد أنتظر إلى من سيؤول إليه أمري... لم أنتظر كثيرا هذه المرة، فلعل مسطرة نقل المتروك للورثة مرت بسلاسة ويسر خلافا للمرة السابقة، هكذا وجدتني ذات مساء أتنقل بين مكاتب الأحزاب السياسية للاطلاع على برامجها وشروط الانخراط فيها، اكتشفت أنني خطيب مفوه وأجيد فن السياسة، لم أكن أجد حرجا أبدا في عقد تحالفات مع من كنت بالأمس أعتبرهم خونة الوطن، مادام ذلك يخدم مصلحتي وطموحي، السياسة علمتني أن أحب نفسي، فكنت أحارب الأصدقاء قبل الأعداء لأظل أنا المتربع على الكرسي الوثير. شعرت بأن الحظ بجانبي عندما مات ذاك الجنيّ الفقير، تذكرت بأسى كيف كنت أجري أميالا عديدة، أو ألعب مباريات في الملاكمة، أو أتسلق جبالا وعرة، وأعرض نفسي للخطر من أجل ميدالية هزيلة من الذهب المغشوش، وها أنا الآن أراكم ثروة كبيرة مقابل إمضاء بسيط أسفل الورقة، مانحا رخصة بناء أو رخصة فتح طريق... رغم نجاحي السياسي المبهر كنت أعيش رعبا وقلقا في داخلي، ينكد عليّ سعادتي وفرحي، هذا الخوف جعلني أتسلل ذات ليلة ظلماء صوب عنواني القديم وأطرق باب جاري الشيخ عبد الرحمان: ما الذي فكرك بنا سعادة الرئيس إني خائف شيخ عبد الرحمان، أخشى أن أستيقظ يوما وأجد الجني القابع بداخلي قد تعرض لحادث لا قدر الله، ألا أخبرته بأن ينتبه لنفسه ولصحته، وأن يبتعد عن أي مغامرة متهورة، لقد أدمنته كما أدمنت الكراسي الوثيرة والسلطة، أخشى شيخ عبد الرحمان أن يستقيل هذا الجني من السياسة، ويتفرغ لكتابة مذكراته كما يفعل بعض السياسيين الأجانب. ضحك الشيخ عبد الرحمان كثيرا وقال: لا تخف سيادة الرئيس، السياسيون العرب من الإنس أو الجن لا يستقيلون أبدا، ويمارسون هواية آمنة جدا بعيدة عن الحوادث: تسلق المناصب، ويورثونها أبناءهم * كاتب مغربي مقيم بهولندا