كان "رامي" بقامته المتوسطة ولون بشرته الذي يميل بأريحية إلى الحمرة كما تميل أشرعة العشق نحو ضفاف القلوب المتيمة .. كان مزهوا داخل المدرج وكأنه طاووس قادم من براري الشوق .. كان يبدو وسط بذلته الزرقاء كحارس أمن لا يعرف في قاموسه سوى الطاعة والانضباط .. بين الفينة والأخرى كان يمتطي على صهوة أشعاره الدفينة ويصول ويجول بنظراته الساكنة سكون ليل سيدي بوزيد ومولاي عبدالله ..في تلك اللحظة التاريخية كان رامي نكرة .. ولا أحد من أصحاب البذل الزرقاء كان يدرك أن رامي سيكتسح الحجر والشجر .. سيصبح "متيم" و"سليمان" القاعة الزرقاء التي كانت في تلك اللحظات المبكرة نكرة كرامي .. رامي .. مسك "حد لبراشوة " أيقونة منطقة "زعير" الممتدة الأطراف التي تحرس الرباط كالعساكر المرابطة .. وأريج فردوس مدينة تمارة الخضراء .. مدارة تتقاطع فيها كل سبل وطرق الخير والمحبة .. البساطة والتواضع .. الشوق الكاسح والهيام الجارف .. مثقلا بنياشين كل هذه الألوان .. كان رامي واقفا كالصنم غير قريب من الباب الخلفي للمدرج .. ملتصقا بسليم كالطيف وكأنه حارسه الخاص .. وبين الفينة والأخرى كان يسافر بعينيه عبر رحلات مكوكية بين المقاعد والصفوف وكأنه يبحث عن سر دفين أو كنز مفقود .. لكن نظراته الولهانة تعثرت بشكل غير متوقع وغير منتظر بصخرة الهيام .. وسط زحمة البذل الزرقاء .. انجذب نورس عينيه نحو حمامة حطت الرحال بالمركز قادمة إليه من سهل الشاوية ، وهي تطرح سؤالا على الأساتذة المكونين .. لم ينتبه "سليم" وقتها لا إلى الحمامة التي بسطت السؤال ولا حتى موضوع السؤال لحالة الازدحام التي كان عليها المدرج .. لكن "رامي" وبعد مرور شهور لا يزال يتذكر الحمامة وحتى موضوع السؤال .. كانت هذه الأخيرة كما يحكي رامي .. ترتدي بذلة موحدة زرقاء زرقة البحر بقميص أزرق سماوي ورابطة عنق .. بدت له وهو واقف كالعسكري كنحلة نشيطة تتنقل بأريحية وتبختر بين حقول الياسمين وشقائق النعمان ... لم يكن "سليم" لحظتها يدرك حركات وسكنات رامي وما يروج في أروقته الداخلية من همسات .. كما أنه لم يكن ليهتم بمثل هكذا أشياء وهو لم يتخلص بعد من ثقل الأصفاد وطوق الأرقام السليبة .. يحكي له "رامي" بأشواق تكاد تنفجر من عينيه كالصهير المتدفق بانسياب من فهوة البركان الثائر .. أنه كان يتلصص وقتها كالمخبر على حركاتها وخطواتها وهي تتنقل كالفراشة الوديعة بين الصفوف والمقاعد .. كانت تبدو له كطاووس عاشق قادم من براري العشق أو كفارسة ولهانة قادمة لتوها من انتصار كاسح أتى على الأخضر واليابس .. نظرات المهد كانت كافية لتربك حسابات "رامي" وأن تبت في قلعته الصامدة نسائم متناثرة من الإعجاب الجارف .. انتهت أيام الاستقبال بما لها وما عليها .. وامتطت على صهوة الرحيل كما ترحل الطيور المهاجرة هروبا من قساوة شتاء الشمال .. تاركة خلفها حكاية "رامي" الذي داعبه شيب الهيام في هذه اللحظات المبكرة .. وفي ظل صعوبة إمتطاء صهوة "الوضعيات المهنية " بعدما أشهر "الأساتذة المرشدون" سيوفهم وصعدوا الجبل وأغلقوا الأبواب والنوافذ .. إنهد بنيان "البراديغم عملي نظري عملي" .. وصاحت ديكة المجزوءات مبكرا .. إذ لم يكن من خيار سوى بداية الدروس والتركيز على الشق النظري في انتظار أن تهب رياح مرسلة تبشر بزخات وضعيات مهنية قد تأتي و قد لا تأتي ..وانطلقت ناعورة الدروس في الدوران صباح مساء بإيقاعات سريعة داخل مضمار القاعة الزرقاء .. لكن الصدف شاءت أن يكون نورس رامي وجها لوجه أمام حمامة الشاوية التي داعبت مرايا عواطفه المحنطة في يوم الاستقبال .. وكأن الشوق يتعقبه "زنقة زنقة ".." بيت بيت" .."دار دار" .. يوميات رامي داخل المركز أبانت أنه مدارة ممتدة الأطراف تتقاطع فيها كل طرق الشاعرية والشوق والخلق والإبداع .. وكل سبل الحكمة والوقار والثبات .. وكل مسالك العفوية والتواصل والجرأة الكاسحة ..من عالم الصمت أبى إلا أن يزحف بخطوات جريئة نحو التألق والتميز .. لقد سرق الضوء ولفت الأنظار داخل القاعة الزرقاء بعفوية وجرأة فاقت وتجاوزت الحدود .. في إحدى عروض مادة دعم التكوين الأساس تاريخ ، لم يتردد سليم وهو يتناول الكلمة من تقديم "رامي " أمام المجموعة باسم "الشاعر المبجل" وكان ذلك اعترافا منه بشخصية رامي وما تزخر به من شاعرية وتلقائية ليس لها حد ولا نظير...لكن هذا "الشاعر المبجل" أبى إلا أن يتحول إلى "السلطان سليمان " .. وحكاية هذا اللقب جاءت في إحدى عروض نفس المادة ، لما طلب من "رامي" قراءة نص تاريخي عبارة عن مقتطف رسالة لأحد السلاطين العثمانيين .. لم يتردد "رامي" في استغلال هذه الفرصة السانحة .. وقام بقراءة النص .. بصوت شاعري جميل أثار انتباه وإعجاب الجميع بدون استثناء .. ومن يومها .. أصبح "رامي " يرتدي رداء "السلطان" .. السلطان سليمان .. ورغم هذا التحول ، لم تتغير أحاسيسه الدفينة نحو"حمامة الشاوية " القادمة من إحدى البلدات الراقدة في صمت بين بيادر سهل الشاوية حيث يتقاطع عبق التاريخ بأريج الجغرافيا .. إنها الأستاذة المتدربة "رانيا" .. شابة دخلت في عقدها الثالث .. بلون بشرتها البيضاء وقامتها الطويلة وبنيتها القوية توحي أنها شاوية حتى النخاع .. إبتسامتها التي لا تفارق شفتيها ونظراتها العميقة وتقاسيم وجهها الصارمة ..تعكس بين ثناياها شخصية متفردة مهووسة بالإثارة ميالة إلى حب الظهور .. إلى درجة تعطي انطباعا للناظر أنها أقرب للخشونة من الليونة وللصلابة من الرقة .. لكنها بالنسبة لسليمان ،فقد كانت بمثابة قصيدة شوق تحمل بين طياتها كل أبيات الجاذبية وكل قوافي الإعجاب .. كلما نظرت إليها داخل الفصل إلا ورأيتها غارقة في واد من الضحك بطريقة لم يكن "سليم" يجد لها وصفا ولا تفسيرا .. لكنها سرعان ما تتخلص من مخالب الضحك بطريقة انسيابية كلما نظر إليها الأستاذ المكون فتبدو أكثر ثباتا وانضباطا وإصغاء .. وفي إحدى المجموعات الخلفية كان يجلس سليم محفوفا بالسلطان سليمان .. حافظا على نفس المجموعة التي لم تستقرعلى حال وكأنها مزار كل من حل فيه إلا وارتحل دون سابق إعلان .. كان رامي يبدو دوما غارقا في صمت وكأنه شيخ قبيلة .. وبين الفينة والأخرى يسافر بنظراته نحو ضفاف "رانيا" .. وكلما التقت العين بالعين .. إلا ويبادلها التحية عن بعد بابتسامة عريضة تخفي وراءها أكثر من علامة استفهام.. ولا تتردد هي الأخرى في مبادلته بنفس التحية وربما بأحسن منها .. يوما بعد يوم وحصة بعد حصة .. تغير حال "رامي" كما تتغير ألوان السماء بعد أن صار "السلطان سليمان " و" الشاعر المبجل " .. فعلت فيه خمرة العشق فعلتها .. وأضحى كمجنون ليلى .. يتسكع كل ليلة بين الأروقة والممرات .. يتغزل في النافورة المهجورة .. يخاطب شجرتي التوت الباسقتين .. يطلب ود النخلة الصامدة وشجرة الزيتون المحتشمة .. لا يزال يتذكر " سليم " في إحدى حصص دعم التكوين الأساس في مادة الجغرافيا ، لما أصابت نوبة " الشوق " السلطان سليمان داخل القبة الزرقاء .. أخد يوجه رسائل "سلطانية " إلى "رانيا" عبر وساطة "الدفتردار" الأستاذ "أحمد" .. كان منتشيا ومزهوا وهو يكتب بأنامله "كلمات مودة " إلى رانيا .. ملفوفة برسائل مشفرة دفينة وحده يفهم عمقها وفحواها .. وكانت "رانيا" ترد على كلماته بمداد من الرقة والنشوة والحبور والبسمة لا تفارق محياها .. فجأة انصاع " سليمان " إلى سلطة الشوق وانحنى أمام سحر "العشق" .. ونهض كالبطل الهمام إلى السبورة نزولا عند طلبات الزملاء من أجل البوح ببعض الكلمات الشعربة .. وقد كان "سليم" واحدا من الذين أججوا قريحة " سليمان " ودفعوه إلى النهوض إلى السبورة والوقوف أمام الجميع .. خيمت وقتها على "سليمان " شجاعة لا توازيها شجاعة وعفوية لا تضاهيها عفوية .. لم يفوت " تلك الفرصة التي قلما تجود بها يوميات الهوى ..كان يبدو كشاعر تأخر به الزمان .."كعنترة بن شداد" في أيامه أو "امرؤ القيس" في زمانه ...وخاطب "رانيا" أمام الملأ بكلمات انحنى أمامها الجميع ضحكا وبهجة وحبورا .. " كفاك صمتا .. إن صمتك يحيرني .. يرعبني .. يطرح أكثر من تساؤل في ثنايا نفسي .. بل صمتك يعذبني .. يقلقني .. وأكاد أنغمس في بحر هيامك .. كفاك صمتا .. إن صمتك يجعلني تائها .. كفاك صمتا أي رانيا .. كفاكم صمتا جميعا .." كفاك صمتا .. أخرجت أشواق " سليمان" إلى العلن .. حاملة أكثر من رسالة إلى " رانيا" التي تحولت منذ تلك اللحظة إلى "هيام" كما تحول "رامي" إلى "سليمان" .. ومن يومها .. أضحى "سليمان" رجلا آخر .. يتنفس تحت الماء .. عشقا وشوقا وهياما .. وأصبحت "رانيا" أو "هيام" ذاك الطيف الذي يلازمه في كل لحظة وحين .. يتذكرها كلما مر أمام النافورة الزرقاء .. كلما توقف لحظات أمام شجرتي التوت الباسقتين .. أصبحت صورتها تطارده كالأحلام الكاسحة .. كالهواجس .. كلما تحدث عنها وهو يقبل كأس شاي منعنع داخل الغرفة .. كلما كان مبتهجا مسرورا مفتخرا بها .. بعد أن هاجرتها الحمائم والنسائم .. خاصة بعد أن جمعهما لواء البحث الإجرائي .. في غفلة من الجميع .. حينها كانت حكاية "سليمان '' و"هيام'' موضوع الساعة .. تتردد في السر والعلن .. يحركها سؤال دفين يفرض نفسه بكل إلحاح .. "سليمان" و"هيام" .. أية تقاطعات بينهما ؟ هل هو عشق وهيام ؟ أم هو حلم عابر عبور السحاب ؟ أم هي حكاية للنسيان ؟ *أستاذ التاريخ و الجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي (المحمدية) ، باحث في القانون وقضايا التربية و التكوين. [email protected]