احتفل المسرحيون في مختلف أرجاء العالم في 27 من شهر مارس الجاري (2019) بالذكرى 58 لليوم العالمي للمسرح، حيث كانت قد ظهرت فكرة الاحتفال بهذا اليوم على إثر مقترح قدمه رئيس المعهد الفنلندي للمسرح الناقد والشاعر والمخرج أرفي كيفيما إلى منظمة اليونسكو في شهر يونيو من عام 1961، وجرى أوّل احتفال بهذا اليوم في 27 مارس 1962 في باريس. وتمّ الاتفاق على أن تكتب إحدى الشخصيات المسرحية البارزة في العالم، بتكليف من المعهد الدولي للمسرح، رسالةً دوليةً كل عام تترجم إلى العديد من لغات الأرض، ويتمّ تعميمها على جميع مسارح العالم، وتقرأ خلال الاحتفالات بهذه المناسبة. وكان الكاتب الفرنسي المعروف جان كوكتو أول شخصية وقع عليها الاختيار لهذه الغاية. وتوالى على كتابة رسالة المسرح العديد من الشخصيات من مختلف بلدان العالم، منهم: أرثر ميلر، لورنس أوليفيه، بيتر بروك، بابلو نيرودا، موريس بيجارت، يوجين يونسكو، أدوارد ألبي، ميشيل ترمبلي، جان لوي بارو، فاتسلاف هافل، سعد الله ونوس، فيديس فنبوجاتير، فتحية العسال، أريان منوشكين، جون كوني، داريو فو، جون مالكوفيتش، وسواهم من الشخصيات المسرحية العالمية الأخرى المشهورة. واحتفاء بهذا اليوم تشارك مختلف مسارح العالم بهذه المناسبة بتنظيم العديد من الاحتفاليات، والتظاهرات الثقافية والندوات، ولقاءات حول المسرح وتاريخه، ودوره التعليمي، والريادي، والتثقيفي، والتهذيبي، والتربوي، والترفيهي في المجتمع، بتقديم عروض مسرحية في هذا اليوم تخليداً لأقدم وأعرق الفنون الإبداعية التي عرفتها البشرية منذ العصور القديمة والعهود السّاحقة في التاريخ، والتذكير بكل ما له صلة بهذا الفنّ الجماهيري الضارب في القدم، حيث أصبح هذا اللقاء السنوي موعداً مشهوداً، وتقليداً متّبعاً في مختلف أنحاء المعمور. وجوه بارزة في المسرح الإسباني وحريّ بنا بهذه المناسبة أن نلقي نظرة خاطفة على ثلاث من أبرز الشخصيات المسرحية الإسبانية في هذا العصر وهم "رامون دي فاييّى إنكلان"، و"بويرو باييّخو"، و"لويس ريّاثا"، الذين يمثلون اتجاهات مختلفة للنصّ الدرامي في المسرح الإسباني في حقب متفاوتة من تاريخنا المعاصر. يشير الناقد الإسباني "فرانسيسكو رويث رامون" إلى أن هؤلاء المسرحيين يمثلون اتجاهات مختلفة للنصّ الدرامي في المسرح الإسباني في حقب متفاوتة من تاريخنا المعاصر، على الرغم من غياب أحد أقطاب المسرح الإسباني المعاصر وهو" فيدريكو غارسيا لوركا" الذي نفذ من ثغرة نصوص "رامون ديل فاييّى انكلان" وإن كان فيما بعد قد شقّ لنفسه سبلاً تعبيرية أخرى، مميّزة ورائعة. من المعروف أنّ المسرح الإسباني يتميّز على امتداد تاريخه الطويل بالتنوّع والغنى والثراء، سواء في مواضيعه أو نصوصه أو جوهره ومضامينه. ومنذ كتّاب المسرح الإسباني الكلاسيكيين الأقطاب أمثال "فرناندو دي روخاس"، و"لوبي دي فيغا"، و"كالدرون دي لا باركا"، و"تيرسُو مولينا"، و"خوان رويث دي ألاركون"، ما فتئ المسرح الإسباني يحقق نجاحاتٍ تلو الأخرى في مختلف العصور، وقد بلغ أن قدّمت في مدريد وحدها منذ بضع سنوات في وقت واحد ما يقارب خمسين مسرحية تمثل مختلف الاتجاهات والمدارس المسرحية المتباينة. كما يعرف المسرح الإسباني نجاحات كبيرة كذلك خارج إسبانيا، خاصّة في البلدان الأوروبية وفي بلدان أمريكا اللاتينية. ثورة النّصوص التيارات الجديدة التي عرفها المسرح الغربي انطلاقا من عام 1887 في كلّ من باريس وبرلين وموسكو ولندن تعتبر انعطافا في تطوير هذا المسرح، حيث عرفت المواضيع الأساسية المتعلقة بالعروض المسرحية تطوّرات هائلة مهّدت السّبيل إلى ظهور المسرح الحديث الذي سيصبح من أبرز رجالاته "برتولت برخت"، و"أرثور أداموف"، و"جان جنيه"، و"غروتوسكي"، و"بيتر بروك"، وسواهم، الذين يعتبرون برمّتهم من الوجوه المشعّة في تاريخ تطوّر المسرح الأوروبي. هذا التيّار لا يعتمد على الصورة المسرحية بقدر ما يعنى بجوهر النصوص، هذه النقلة في عالم المسرح في إسبانيا قام بها الكاتب الإسباني "رامون ديل فاييّى إنكلان" انطلاقا من سنة 1906 حيث بدأ يتجلى الإبداع المسرحي في الورق والكتابة قبل أن يظهر على الخشبة بواسطة الإخراج المسرحي. وهناك نصّان بارزان لهذا المبدع هما "نسر المجد" و"غنائية الذئاب"، حيث بدأ مرحلة جديدة في الفن الدرامي في إسبانيا، وتغلف هذه النصوص أجواء من الظلام، والطلاسم، والموت، والدم والعنف، والقساوة وعناصر أخرى ظلت بمنأى عن النصوص المسرحية الأوروبية وعن خشبات المسارح الغربية بشكل عام. لا تحتاج نصوص "فايّيى إنكلان" سوى إلى حيّز رمزي لإبلاغها للجمهور، وتغدو كلمات شخصياته حليفة الضّوء واللون والصّوت، ولصيقة بأجسام الممثلين وحركاتهم ومواقعهم، ذلك أنّ هذه النصوص تتوفر على قوّة سحرية ليس انطلاقا من ثراء مضامينها وحسب، بل بشكلها وإطارها ووقعها وتنغيماتها، هذه النصوص هي ذات طابع اجتماعي ونفسي في آن واحد، إذ إنّ العالم الدرامي لدى الكاتب لا يقوم سوى على النطق والقراءة كما كان الشأن في النصوص الواقعية، بل إنه لصيق بالجّو الرمزي الجديد، أيّ طغيان الكلمة باعتبارها الخاتم الجديد لمسرح القرن العشرين. إن "فاييّى إنكلان" بهذا الاتجاه الجديد لم يكن كاتب نصوص وحسب، بل كان ممثلا ومخرجا مسرحيا في آن واحد داخل نصوصه نفسها، وهذا المنحى المسرحي لدى" إنكلان" ليس هروبا من الأعراف المسرحية أو نكرانا لها بقدر ما هو عودة إلى ينابيع الدراما وانغماس في معايشة الفنّ المسرحي في أجلى معانيه. إنه بهذا الاتجاه مثلما هو عليه الأمر في التراجيديا الكلاسيكية يمثل رجوع الإنسان إلى رؤاه الأولى المبكرة للعالم الحافل بالأسرار والغوامض، هذا العالم المغلف بلغز التساؤل الأبدي، وما يتراءى له في نصوصه من شخصيات غريبة تتعانق فيها الخيالات وأضغاث الأحلام باللاوعى والهذيان. إنّ رامون ديل فاييّى إنكلان باتجاهه هذا قد أعاد الاعتبار لبعض الأبطال الكلاسيكيين الذين نعرفهم، إنّ الأشكال المسرحية في نصوصه هي الحلقة الواصلة بين جيري، وبريخت، أو أرتود، وأونيسكو، أي بين المسرح الملحمي أو الحماسيّ ومسرح اللاّمعقول أو مسرح العبث. الدراما التاريخيّة إنّ رؤية العالم التي تقدّمها لنا الدراما التاريخية هي نتيجة تداخل عملية تركيب أيديولوجي للحقيقة التاريخية بواسطة الكاتب بمساعدة المتفرّج، هذا التركيب عادة ما يكمن في بنيوية رؤية الماضي عن طريق تلاقي الكاتب والمتفرج في الحاضر، وإنّ البعد القائم بين الزمنيين يغدو ملكا للسّرد التاريخي؛ ذلك أنه من أهم المميّزات الأساسية للدراما التاريخية القدرة على الربط بين الماضي والحاضر، وهنا تكمن مقدرة "بويرو باييّخو" في الوساطة التراجيدية بين الزمنيين. وخير مثال لدى الكاتب مسرحيتاه "حكاية معلم" و"الظلام الملتهب"، حيث تعتبر هاتان المسرحيتان تقصّيا مهووسا للظرف التراجيدي للإنسان كعنصر بارز من عناصر التاريخ. بل إن هذا الهاجس في تقصّي عامل الزّمن نجده في مسرحيتين أخريين للكاتب هما "الحاكم للشعب" و"الانفجار". إنّ الفرق بين الضمير المعتقدي والضمير التراجيدي لا ينحصر في تقبل الحقيقة أو تغييرها، بل على العكس من ذلك يكمن في عدم قبول انشراح المتفرّج بإجابة أو تفسير يؤدّيان إلى تلاشي الصّراع القائم، وأن الضمير التراجيدي يحّول عملية التساؤل إلى تناوش تراجيدي وذلك بتفجير السّؤال نفسه على خشبة المسرح، وبالتالي نجعل المتفرّج مشاركا بالضرورة في البحث عن الإجابة ليس على خشبة المسرح وحسب، بل في الحيّز التاريخي كذلك. والإجابة رهينة بطبيعة الحال بمقدرة وكيفية تلقيّ المتفرج للسؤال وفهمه واستيعابه. إننا إذا تأمّلنا مسرحيات "باييّخو" فسوف نجدها حافلة بهذا العنصر التساؤلي التاريخي، وهو بذلك يزيد في مضاعفة وظيفة الأعضاء السّمعية والبصرية لدى المتفرج وتنشيط السّمات الكلامية لديه فتغدو التراجيديا عنده وسيلة مفتوحة وليس مغلقة، لأنه بذلك يستبدل مفهوم القدرية بالحرية، محوّلا إيّاها إلى المحور المحرّك لنظرته التراجيدية للتاريخ، وبذلك تغدو المسافة الممتدة بين العطاء والاستقبال، أي بين الكاتب والمتلقيّ للنصّ، هي المسافة القائمة بين الضمير التراجيدي وتساؤله والضمير وجوابه؛ وبذلك تتحوّل الدراما إلى حقيقة تاريخية ويظلّ المتفرّج هو وحده باستطاعته تخطيّ الحواجز وتجاوزها في سباق التاريخ. وتجدر الاشارة في هذا المقام إلى أن "بويرو بايخو" قد عاش سنتين من عمره في مدينة العرائش بالمغرب حيث كان والده عسكريا يعمل بالجيش الإسباني هناك، مثله في ذلك مثل الكاتب المسرحي الفرنسي "جان جنيه" الذي عاش هو الآخر بهذه المدينة، بل وقد أوصى هذا الأخير بأن يدفن بها، كما دُفن بها الكاتب الإسباني-الكتلاني الكبير خوان غويتيسولو الذي عاش سنواتٍ طويلة من عمره في مدينة مراكش. التهكّم في أجلىَ مظاهره وتتميّز الرّؤية المسرحية لدى الكاتب المسرحي الإسباني" لويس رياثا" انطلاقا من مسرحيته "الحصان داخل السّور" بهالة من السّخرية والترف والتهكّم في أجلى مظهره في المسرح الغربي الحديث، إن الكاتب بدل أن يتقبّل مختلف الأشكال التجريبية للمسرح الجديد المنتشر بين ضفّتي المحيط، أي بين أوروبا وأمريكا، يلجأ إلى صنع أسلوب مسرحي جديد خاص به. إنّ قارئ نصوصه، وهو يأتي مباشرة بعد موجة العبث، لكي يتسنّى له فهم ما يقرأ، لا بد له أن يقيم عددا من الوسائط أو الصّلات بين النصّ والعرض نظرا لتكاثف الرموز عنده وتداخلها، وتفجيره لعنصر الأنا لهويّة الممثل والمتفرّج في آن واحد. إلاّ أنّ هذا الكاتب المسرحي، الثالث بعد الكاتبين آنفي الذكر، يرى أن المسرح الإسباني لم يكتب من طرف الكتاب المسرحيين الرّسميين، بل من طرف الشعراء، ويضرب مثالا لذلك ب"فيدريكو غارسيا لوركا"، و"رفائيل البرتي"، حيث بذّ هذان الشاعران، في نظره، بعض الكتاب المسرحيين الإسبان الآخرين مثل "خاثنطو بينابينطي" و"كارلوس أرنيشيس". الأندلس والمسرح الإسباني تجدر الإشارة في ختام هذا العجالة إلى أنّ المسرح الإسباني على امتداد العصور قد استقي غير قليل من مضامينه وموضوعاته من التراث العربي والحضارة الإسلامية في الأندلس، كما يشهد بذلك معظم الدّارسين والمستعربين الإسبان وغير الإسبان على حدّ سواء. حيث حفلت العديد من الأعمال المسرحية الإسبانية القديمة منها والمعاصرة بالإشارات الواضحة إلى المظاهر الحضارية والثقافية والإشادة بها، وإبراز مواقف الشّهامة والشجاعة والنّبل والكرم والأنفة عند المسلمين، وتتجلّى مظاهر هذا التأثير منذ القرون الوسطى وفي العصر الذهبي للمسرح الإسباني، أي منذ عصر الرومانسيين القدامى إلى المجدّدين من المسرحييّن الإسبان في القرن العشرين. ومن أبرز الكتّاب الإسبان في هذا المجال –على سبيل المثال وليس الحصر-"فرانسيسكو فيّا إسبيسا" (من مواليد مدينة ألمرية 1877 وتوفي في مدريد 1936). ولقد شكّلت المواضيع العربيّة والإسلامية في الأندلس في أعماله عنصراً أساسياً لإبداعاته الأدبية والمسرحية على اختلافها. وقد حقق هذا الكاتب الإسباني نجاحات باهرة بأعماله هذه داخل إسبانيا وفي بلدان أمريكا اللاتينية، كما ترجم بعضها إلى اللغة العربية، إلاّ أنّ بعض هذه الأعمال لم تسلم من معاول التهجمّ والهدم من طرف بعض النقاد المتزمّتين، في حين إنّ نقاداً آخرين أنصفوه وجعلوه في طليعة المُمهّدين والمُبشّرين للمعاصرة والتجديد والحداثة في الأدب الإسباني وفي أمريكا الجنوبية. من أعمال هذا الكاتب الإبداعية المعروفة في هذا الصّدد مسرحيته "قصر اللؤلؤ" (1911) التي نقلها إلى اللغة العربية أستاذي في كليّة الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة الدكتور لطفي عبد البديع، ومسرحيته "بني أميّة" (1913)، و"باحة الريّاحين" (1908)، و"عبد الرّحمن الأخير" (1909)، و"انتقام عائشة" (1911)، وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى. * كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوطا (كولومبيا)