نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانًا رعدية مرتقبة بطنجة هذه الليلة    لفتيت يعقد اجتماعا مع رؤساء الجهات        كأس العرب.. الأردن يهزم العراق ويضرب موعدا مع السعودية في نصف النهائي    يونيسكو.. انتخاب المغرب عضوا في الهيئة التقييمية للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي    بتمويل أوروبي ب150 مليون أورو.. مشروع "سايس 3" يهدف لتأمين الري ل20 ألف هكتار وحماية المياه الجوفية    إيران تعتقل متوجة بجائزة نوبل للسلام    سمو الأميرة للا أسماء تترأس بالرباط افتتاح المؤتمر الإفريقي الأول لزراعة قوقعة الأذن للأطفال    اتحاد طنجة لكرة اليد (إناث) يستنكر حرمانه من الحصص التدريبية قبيل تصفيات كأس العرش    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    "خلف أشجار النخيل" يتوج بنمبارك            بريطانيا.. موجة إنفلونزا "غير مسبوقة" منذ جائحة (كوفيد-19)    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    ميناء العرائش .. انخفاض طفيف في حجم مفرغات الصيد البحري    مدينة الحسيمة تحتضن فعاليات الملتقى الجهوي السابع للتعاونيات الفلاحية النسائية    أسعار تذاكر كأس العالم تثير الغضب    أخنوش من مراكش: المغرب ملتزم بتعزيز التبادل الحر والاندماج الاقتصادي المستدام في إفريقيا    تكديس كتب ومخطوطات نادرة في شاحنة لجماعة تطوان وفنانون ومثقفون متخوفون على مصيرها    نورس موكادور الكاتب حسن الرموتي في ذمة الله    صادرات الصناعة التقليدية تحقق نموا    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    تيميتار 2025.. عشرون سنة من الاحتفاء بالموسيقى الأمازيغية وروح الانفتاح    "الفوتسال" المغربي السادس عالميا    هل تنجح مساعي بنعبدالله في إقناع فدرالية اليسار بالعمل المشترك ولو جزئياً؟    الملك يشيد بعلاقات المغرب وكينيا    باللهجة المصرية.. محمد الرفاعي يصدر جديده "روقان"    النيابات العامة الرباعية تحذر من تحول الساحل الإفريقي إلى "بؤرة عالمية للإرهاب"    كيوسك الجمعة | الحكومة تعد بمراجعة ساعات وظروف عمل حراس الأمن الخاص    بعد طول انتظار لتدخل الجماعة.. ساكنة دوار نواحي اقليم الحسيمة تفكّ العزلة بإمكاناتها الذاتية    11 وفاة في غزة بسبب الفيضانات والأمطار الغزيرة    مراسلون بلا حدود: سنة 2025 الأكثر دموية للصحافيين وقطاع غزة يتصدر قائمة الاستهداف    وثيقة سرية مسربة تفضح رغبة أمريكا استبعاد 4 دول عن الاتحاد الأوروبي    وليد الركراكي يوضح معايير اختيار لائحة "كان 2025"    اللائحة الرسمية للاعبي المنتخب الوطني في نهائيات الكان (المغرب-2025)    فرنسا.. تعرض خوادم البريد الإلكتروني لوزارة الداخلية لهجوم سيبراني    المصادقة على 11 مشروع مرسوم يحددون تاريخ الشروع في ممارسة اختصاصات المجموعات الصحية الترابية    حوادث النَّشْر في العلن والسِّرْ !    محاكمات "جيل زد".. ابتدائية مراكش تصدر أحكاما حبسية في حق مجموعة من القاصريين    اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية تُصادق على 21 مشروعًا بأكثر من 22 مليون درهم بعمالة المضيق الفنيدق    الإنفلونزا الموسمية تعود بقوة خلال فصل الشتاء..    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    تخفيف عقوبة طالب مغربي في تونس تفضح سوء استخدام قوانين الإرهاب    الإمارات تدعم خطة الاستجابة الإنسانية    مانشستر يونايتد يكشف عن نتائجه المالية في الربع الأول من الموسم    الدار البيضاء.. الإطاحة بعصابة "القرطة" المتخصصة في السرقة    إيلون ماسك يرغب في طرح أسهم "سبايس أكس" في البورصة    باحثون يستعرضون دينامية الاعتراف الدولي بالطرح المغربي في ندوة وطنية بجامعة ابن طفيل    إفريقيا توحّد موقفها التجاري قبل مؤتمر منظمة التجارة العالمية القادم    فيضانات تجتاح الولايات المتحدة وكندا وإجلاء آلاف السكان    اختيارات الركراكي تظفر بالمساندة    منظمة الصحة العالمية تؤكد عدم وجود صلة بين تلقي اللقاحات والإصابة بالتوحد    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التربية في علاقتها بالسير على خطى القراَن الكريم
نشر في هسبريس يوم 10 - 06 - 2019

إن الأمم عند ممارستها للتربية في البيوت وفق مناهج نهجتها، تنطلق من مجموعة من المبادئ والمعلومات التي تشكل الأرضية العامة التي يلتقي فيها حاضرها مع ماضيها لاستئناف مستقبلها؛ بيد أن هذه المعلومات قد تشوبها شوائب في بعض المجتمعات لاسيما التي لا تتمتع بدرجة عالية من شيوع المعرفة بين أبنائها، حيث يكون الأبوان أميان أحيانا أو حظهما من الثقافة التربوية ضئيلا.
كما تعاني كثير من الأسر في مجتمعاتنا من كثرة الانشغالات ويغيب وعيهم عن كثير من القيم التي تشكل جوهر حياتهم، إذ أصبح الإنسان الحديث أشبه بمخلوق عجيب، ينمو الجسم منه على نحو سريع ومتكامل، دون أن تنمو أخلاقه وقدراته العقلية، إلى أن أصبح يتخبط في حالة من التجمد والتقهقر والتراجع التربوي الخطير.
فنعتقد أنه آن الأوان كي نثير اهتمام جماهير الأمة نحو قضية التربية، ولفت الانتباه لقيمتها ومدى أثرها على الفرد والمجتمع، حيث أوحى لنا ما نمر به في الوقت الراهن بسؤال في غاية الأهمية ألا وهو: أي جيل نريد بنائه مستقبلا؟ ، فالكل يسعى إلى النهوض بتربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة حسنة، وبث روح الإصلاح فيهم وإشعارهم بمسؤوليتهم تجاه القيام بالدعوة إلى الله أو لتكوينهم بعقل مثقف مؤهل للتعامل الحضاري. لهذا " فقضية التربية في علاقتها بالسير على خطى القراَن الكريم تربية الطفل أنموذجا''، هي قضية تتمحور حول كيفية تربية الأبناء وفق ما أوصى به الله في كتابه العزيز وطبقه السلف في معاملاتهم،
بيد أن مصطلح التربية لا يخضع لتعريف محدد، بسبب تعقد العملية التربوية من جانب، وتأثرها بالعادات والتقاليد والقيم والأديان والأعراق من جهة أخرى، زيادة على كونها عملية متطورة متغيرة بتغير الزمان والمكان.
وحقيقة لا يخرج مصطلح التربية عن كونها تنمية الجوانب المختلفة لشخصية الإنسان عن طريق التعليم والتدريب والتثقيف والممارسة لغرض إعداد الإنسان الصالح لعمارة الأرض وتحقيق معنى الاستخلاف فيها[1]. وقد زاد عن ذلك الأستاذ امحمد عليلوش بقوله: إن التربية هي مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه، وتعني في الوقت نفسه التجدد المستمر.....فهي عملية نمو وليست لها غاية إلا المزيد من النمو[2].
نستنتج أن مفهوم التربية شامل يهدف إلى تنمية الفرد وتطويره، كونها عمل متجدد متطور من إنسان راشد لصالح إنسان قاصر، وإعداده إعدادا سليما ليندمج في محيطه.
علاوة على ذلك نجد القدامى من علماء الأمة تناولوا مصطلح التربية بألفاظ منها التنشئة ويقصد بها التربية والرعاية منذ الصغر، والإصلاح ضد الإفساد أي التغيير إلى الأفضل، والتأديب أو الأدب أي التحلي بالمحامد من الصفات والطباع والتخلي عن القبائح، فمصطلح الأدب والتأديب وثيق الصلة بمصطلح التربية، حيث كان يسمى المربي أو المعلم مؤدبا والتعليم تأديبا.
ويمكن القول دون مواربة إن التربية عنصر فعّال وأساس في المجتمع، وهذا ما يؤكده
سيد قطب إذ يقول: ''إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن، وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانا في النفس حين تستمع لها وتنصت أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والطمأنينة والراحة والنقلة البعيدة الواعية المستنيرة مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه''[3].
وبدهي أن تكون قيمة التربية لا يستهان بها، وهي من القيم التي اهتم بها القران الكريم اهتماما بالغا وخصها بالذكر في سورة لقمان بقوله عز وجل :''وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)''.
حيث نكتشف أن وصايا لقمان هي وصايا حافلة بالخير، فهو أبصر بالحقيقة وأحق بها من كثير غير، إذ لخص الحق الخالد في منهج وجيز وأخذ به ابنه، وتركه تراثا نبيلا، ومن حكمة لقمان أن أولى وصاياه لابنه في شكل نصحه ووعظه له تمثلت في معرفة الله الواحد، وأعقبت الوصية للوالدين عقيدة التوحيد لأنهما سر الوجود بعد الله، والغريب أن الحضارة العالمية المعاصرة لا تكترث للأبوين، وتودعهما في شيخوختهما بعض الملاجئ[4]، ومن موعظته لابنه الأمر بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على المصائب، إلى أن يقول له واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير، والموعظة كلها باقة من العقائد الجليلة والأخلاق الكريمة، وقد ذكرها القراَن لننتفع بما فيها من حكمة، إذ الحكمة ضالة المؤمن[5].
ومن المعلوم أن التربية على نهج لقمان الحكيم ركزت على جانب التوحيد، نظرا لكونه واجب على الخلق اتجاه خالقهم، فقد وطن في منهجه التربوي مسألة التربية على معرفة الله الواحد الأحد، حيث دعا ابنه لتوحيد الله واجتناب الشرك به فقال ''يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم''، فهو نهي واضح عن الشرك وتحذير من فقد الإيمان، فقد شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله '' إنه ليس بذلك، ألم تسمع إلى قول لقمان: '' يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم'' فالشرك ظلم عظيم يحبط به عمل الإنسان مهما فعل ومهما قدم من خير، لقوله تعالى: '' ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون''[6].
ولا شك يخامرنا في أن الآية الكريمة دلت على أن الشرك ظلم عظيم وقد بين ذلك في آيات أخرى كقوله:'' وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ''[7]، و قد ثبت في الصحيح عن النبيﷺ أنه فسر الظلم في قوله تعالى''الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ''[8]. بأنه الشرك وبين ذلك بقوله لنا[9]:'' إن الشرك لظلم عظيم''.
ثم أعقب الشرك الوصية للوالدين: إذ انطلق لقمان عليه السلام يعب من بحر الكلمات، فوصى ولده بوالديه ليكون بارا بهما وهو أبوه، والقراَن يلتقط الخيط من لقمان لئلا تكون هذه مجرد موعظة أو نصيحة بل أمرا شرعيا يجب إطاعته ''وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ''، فلقمان الذي أتاه الله الحكمة وفضله بها لا يقدم نفسه في الوصية، بل يقدم الأم التي تحملت المشاق في الحمل والوضع والولادة والرضاع وتألمت في الفطام أكثر من تألم الطفل الصغير ذاته، فلقمان يتابع المنهج القرآني في جعل البر بالوالدين عقِب النهي عن الشرك كما قال تعالى ''وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا''[10]، فالشكر الأول لله المنعم وبعده للوالدين كقيمة التكريم لهما؛ فقرن شكرهما بشكر الله، ومن عظم هذه الوصايا أنها شملت كل أب وأم حتى ولو كانا مشركين وذلك بالقول والمصاحبة بالمعروف لهما، وعدم طاعتهما في أمر المعصية إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولم يتجاوز أن رسخ رقابة الله تعالى في ضمير ابنه من خلال منهجه التربوي السوي، فيعود لقمان ثانية لتعميق روح الإيمان و التوحيد في قلب ولده فيقول مناديا له بما يحبه الأبناء من الآباء: يا بني فيسمع الابن وينصت فيقول لقمان: '' يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ'' فبذلك أثبت لله العلم المطلق والقدرة المطلقة في كلماته الحكيمة، فهي وصية إذا قرت في عقل الإنسان ووجدانه سيخشى أن يفسد في الأرض.
فالإتيان بهذه الأشياء كناية عن التمكن منها، وهو أيضا كناية رمزية عن العلم بها، لأن الإتيان بأدق الأجسام من أقصى الأمكنة وأعمقها وأصلبها لا يكون إلا عن علم بكونها في ذلك المكان وعام بوسائل استخراجها[11] .
بالإضافة لما سبق فالتربية إن لم تعالج الجانب الأخلاقي لن تحقق لنا الثمار المنتظرة منها، لهذا أكد لقمان الحكيم على الالتزام بالتربية في علاقتها بالشق الأخلاقي، إذ وظف فيها النهي عن التكبر امتثالا لقوله تعالى: ''َلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ''، معناه لا تتكبر على الناس، ففي الآية نهي عن التكبر عن الناس، والصعر الميل، والمتكبر يميل وجهه عن الناس معرضا عنهم، والصعر الميل أصله داء يصيب البعير يلوي منه العنق، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خذه عن الناس تكبرا، وقد تقدم هذا في سورة الأعراف الآية 13: ''مَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ''فهو تحذير من الكبر لكثرة عواقبه السيئة وتبيانا لحسن التواضع وثناء الله على المتواضعين[12].
وقوله: ''وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ'' وقد تقدم تفسيرها في سورة بني إسرائيل في الكلام عن قوله تعالى: ''وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ''[13]. نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية، وقوله ''مرحا'' مصدر منكر، وقد أوضح الله تعالى ذلك في سورة لقمان في قوله ''َلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ'' وفي قوله تعالى: '' وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ''[14] وإطلاق المرح على مشي الإنسان متبخترا مشي المتكبرين، والآية تبين أن المتكبر المختال ضعيف عاجز محصور بين جمادين، الأرض تحته ولن يخترقها ولن يقطعها بمشيه ، والجبال الشامخة فوقه ولن يبلغ طوله طولها[15].
ثم تلاها تأكيده على النهي عن رفع الأصوات: وقوله تعالى: ''وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ''.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأن لا يمشي مختالا ولا متكبرا ونحو هذا مما ليس في قصد، وغض الصوت أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي تلك هي التي بعدت عن الغض وهي أنكر الأصوات، فكذلك كل ما بعد عن الغض من أصوات البشر فهو في طريقتك، وقد قال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق، لأن أذم الأصوات جهير بالصوت، ومن هنا خلق الجاهلية، فنهى الله عنه[16].
وخلاصة القول إنه لن يتغير الفرد ولا الأمة ولن ينصلح حالها إلا إذا دخل القرآن بقوته المزلزلة إلى ذات الإنسان، وتم التعامل معه باعتباره الوسيلة المتفردة للتربية.
هوامش
[1] محاضرات في أصول التربية الإسلامية، ص:32
[2] التربية والتعليم من أجل التنمية، منشورات مجلة علوم التربية، ط2007،ص:17
[3] في ظلال القراَن لسيد قطب، دار إحياء التراث العربي، بيروتلبنان، ط:5، ج:3، ص:1425/1426
[4] نحو تفسير موضوعي لسور القراَن الكريم لمحمد الغزالي، دار الشروق القاهرة، ط:11، ص: 317
[5] نحو تفسير موضوعي لسور القراَن الكريم لمحمد الغزالي، ص: 318
[6] سورة الأنعام، الآية: 11
[7] سورة يونس، الآية :106
[8] سورة الأنعام، الآية: 82
[9] أضواء البيان في إيضاح القراَن بالقراَن لمحمد الأمين الشنقيطي، إشراف:بكر بن عبد الله أبو زيد، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع ،ج:6، ص: 548-549
[10] سورة الإسراء، الآية: 23
[11] التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، ج:21، ص:163
[12] أضواء البيان في إيضاح القراَن بالقراَن لمحمد الأمين الشنقيطي، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد ،دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع ج:6، ص:549
[13] الإسراء 37
[14]الفرقان 63
[15] أضواء البيان في إيضاح القراَن بالقراَن لمحمد الأمين الشنقيطي، إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد ،دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع ج:3، ص:432
[16]المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي، تحقيق المجلس العلمي بمكناس وتارودانت، دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الرباط- المغرب سنة: 1975م/1395ه،ج:13 ،ص: 18
*طالبة بماستر مشاريع الفقه الحضاري في المدرسة المغربية الأندلسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.