يتسم عالمنا بالحيوية والحراك، والسعي الدائم الدائب نحو ما يريح ويجلب السكينة والسعادة، أو، في الأقل، العيش الكريم. وهو بذلك عالم جمعي إنساني وإنْ كان التفاوت فيه بين الشمال والجنوب، محسوسا ملموسا، والهوة سحيقة، والابتزاز والتبعية واضحتين جليتين، والتعاون بينهما بيّناً وساريا. لكنه تعاون الغالب والمغلوب، المهيمن والخنوع، القائد والمريد. ومع ذلك، فالتواصل والاحتشاد، والعلاقات جميعها جسرٌ لامعدى عنه للذهاب والإياب، وتبادل المصالح والخبرات، والتجارب والدروس. فالإنسان حيوان اجتماعي مثله مثل الأنعام والبهائم والحشرات وفي طليعتها: النمل والنحل. غير أن الإنسان يزيد على البهيمة بكونه حيوانا سياسيا، وحيوانا ناطقا في أول تعريف سَنَّهُ أرسطو، وحيوانا رمزيا في ما تذهب إليه المدارس الاجتماعية واللسانية والأنثربولوجية راهناً. أما وصفه وتسميته بالحيوان، فدلالة على حياته، وحضوره في الكون، وانفعاله وتفاعله مع الأشياء والكون، وتعقلهما في الآن ذاته. فالحيوان، هنا، لغةً يعني الحياة في قوتها وبلاغتها وعنفوانها لا البهيمة والعجماوات بشكل عام. وقد زاد الابتكار والخلق والإبداع هذا الحيوان حيوانية أكثر، وحيوية أبلغ، فأضحى الاتصال والتواصل يتم بيسر وسلاسة وانسياب بفضل أحدث أدوات التكنولوجيا الناعمة الرقمية والافتراضية كالتلفزيون، والحواسيب، والأنترنت، والوسائط الاجتماعية، والهواتف الذكية المحمولة وغيرها. وبفضل اللقاءات الفعلية عبر الأسفار الجماعية، والمؤتمرات، والمهرجانات، ومآدب الأفراح والأتراح. وإذاً، هي أشياء وأمور باتت بديهية معروفة؛ إذ هي، كما أسلفت، ميسمُ عصرنا، جملة وتفصيلا، الذي صار عصرا مكثفا وممدودا في آن، ندعي معرفة ما يجري فيه معرفة يقينية لا يخفى عليها شيء بما أن العالم قرية صغيرة، مع جهلنا ما يتوارى خلفه من دقائق وحقائق يحتكرها الكبار، أصحاب الأزرار النووية، والأسرار الرهيبة التي لا تتسرب إلينا إلا بمقدار، أو بمشيئة ورغبة إنسان جبار، إنسان يخرج على العقد المبرم، يتحدى الأسوار المضروبة، ومراكز التجسس المرهوبة. في خضم هذا الموار والفوران الإنساني الكوني، وهذا الموج البشري المتلاطم صباح مساء، تصبح العزلة ملاذاً نبويا، وملجأ علويا، وفيئاً قدريا، واختيارا ملكيا. أقصد العزلة الاختيارية التي نذهب إليها بمحض إرادتنا، وطوع رغبتنا، ونتوجه إليها من صميم أفئدتنا، لأن فيها التقاطاً للأنفاس، والخلود إلى السكينة الوقتية، والغوص في قرارة الذات، وركوب التأمل سبيلا إلى معرفة ما فات، وما يجري، وما سيأتي. فالعزلة الاختيارية غير العزلة الاضطرارية التي نعيش الآن، والتي فرضتها على الإنسانية، إرغاماتٌ لم يكن في طاقتنا رغم علو كعبنا في مجال العلم والتكنولوجيا، والطب والبيولوجيا، مجابهتها ولا مواجهتها إلا بالهرب إلى أنفسنا، وملازمة بيوتنا، وتأجيل ملاقاتنا الإنسانية الدافئة من حب ومصافحة، ومعانقة، واقْتِهاء، وثرثرات لذيذة أو سخيفة، وسفر، وارتياد المرابع والمجالي والفصل ربيع. وفي هذه العزلة الإرغامية التي دفعتنا إليها الجائحة، فرصةٌ، أيضا، ذهبية، ومناسبة استثنائية لإعادة الدفء إلى الأسرة الواحدة، والتملي بلحظات يومية ماتعة مع الزوجات والأبناء والبنات، واستعادة الأيام الخوالي الجميلة، وامتطاء مركب الأحلام النشوان، والتفكير الهادئ المبرمج لحاضرنا وغدنا. واهتبال الزمنية المعلقة التي نحن فيها، في قراءة الكتب، ومشاهدة الأفلام السينمائية الجيدة الرفيعة، وغيرها. إن الجائحة، سواء أكانت كوفيد 19 أم غيرها، تعتبر نقمة لا ريب، ولكن طيَّ كل نقمة نعمة كما يقول المثل. على أن العزلة الجديرة بالمديح، هي العزلة الاختيارية، عزلة الأنبياء والمتصوفة والشعراء، والفلاسفة والقديسين. فلا فكر عاليا محولا ولا متحولا، ولا رسالة سامية مغيرة لنواميس الكون ومتغيرة معها، إلا إذا انبجس من " كهف " العزلة.. من أعماقها وبواطنها سواء أكان الكهف غار" حراء" مع نبينا العظيم، أو كان الكفف جبلا نائيا، وديرا قصيا، وصحراء قائظة مترامية، أو عمقا أنويا ذاتيا يفيض، في الوحدة، بالحكمة والأقاويل الأثيرة، والأمثال الجليلة، والفكر الثاقب الذي له ما بعده حين يصير ويَتَصيَّر إبدالا وتحوُّلاً ثقافيا وحضاريا يغير وجه العالم، ويرفع الإنسانية درجة أخرى في سلم الفتح والمجد والرفاهية. "إننا إذا فقدنا قدرتنا على العزلة، على أن نكون وحدنا مع أنفسنا، تقول الفيلسوفة والشاعرة الألمانية / الأمريكية حنَّا أَرَنْتْ، فإننا نفقد قدرتنا المباشرة على التفكير، ونخاطر بأن نحاصر من الحشود." يعتزل المعتزل لخوفه من المطابقة، وتوجسه من الموقف المشترك المسطح، والضحالة التي يسقطنا فيها انفعال جماعي غير محسوب، واندفاع سيلي منفلت، وتصفيق جماهيري حماسي وحاد، تصفيق يصفه البعض بالبلاهة والتقليد. ومن ثمَّ، فالجدة، والبكارة المعرفية: بكارة الرأي والموقف، والإبداع، تأتي وتنبثق من العزلة، من الاستبطان، من النجاح في الإبقاء على تلك المسافة الثمينة بين العجلة والتُّؤَدة، بين التصفيق والنظر، بين الانفعال وتقدير أبعاد اللحظة المثلى الماثلة، والشرط الإنساني الخاص. كل الخوف من أن يتنازل الإنسان عن خصوصيته الفردية، عن اختلافه، ويضيع في عمومية الجموع. فالتشابه للرمال فيما يقول درويش. المماثلة والمشابهة هي صورتنا الفيزيائية والمورفولوجية، أي ما يتبدى ويظهر. أما الخصوصية والاختلاف والفردانية، فهي صورتنا الجوانية، داخلنا، عمقنا، قرارتنا الجينالوجية، جذورنا الثقافية والجينية والنفسية والعصبية. لهذا، اختلف الأنبياء والمفكرون والفلاسفة والشعراء والمتصوفة في ما كتبوا ويكتبون، وفي ما قَطّروه ويقطرونه من دم وحبر وروح وميتافيزيقا. فلولا الوحدة مع النفس، والعزلة عن الناس، ما تهيأ لهم ذلك، وما تهيأ للبشرية أن تعتاش وتتعيَّش ماديا ومعنويا، جسميا وروحيا على ثمار وفواكه ونفائس أولئك الذين اختاروا أن ينعزلوا ليفيدوا الكون في وجوده وموجوده. ألم تُلْهِم أفكار الفلاسفة، وأشعار الشعراء، وموسيقى الموسيقيين، وقادة الرأي والفكر، الجموعَ البشرية هنا وهناك، الخروجَ للمطالبة بحقوقها، وفي مقدمتها الكرامة والعدل والمساواة والحرية؟. قد يتخلف المفكر والشاعر والفيلسوف في الانضمام والانخراط الميداني، والصدع معها بلسان واحد بما يحررها من قيودها، وخوفها، وتذبذبها. ولكن أفكارهم ورؤاهم ومواقفهم حاضرة وملهمة. علماً أن أنبياء ومفكرين اعتزلوا ليكتبوا ويأتوا بالجديد، وانخرطوا بعدئذ في معمعان الحشود من أجل حاضر كريم، وغد إنساني عظيم. فالعزلة، إذاً، لا تعني بناء الأسوار، أو الانحشار بعيدا في قعر الكهوف، وأحشاء الغابات، بل تعني العون على استنفار مخزون الأعماق، واستغلال الكنز الخبيء الذي ينطوي عليه الإنسان ليعود إلى الناس، إلى الاجتماع، برؤى صافية، وإرادة ضافية، ورغبة في التقييم والتقويم، ووضع القاطرة على السكة الوجودية الصحيحة.