العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    الجزائر تنسحب من البطولة العربية لكرة اليد    المالية العمومية: النشرة الشهرية للخزينة العامة للمملكة في خمس نقاط رئيسية    الوكالة الوطنية للمياه والغابات: "القط الأنمر" الذي رصد في إحدى الغابات بطنجة من الأصناف المهددة بالانقراض    تتويج المغربي إلياس حجري بلقب القارىء العالمي لتلاوة القرآن الكريم    مكناس .. تتويج 12 زيت زيتون من أربع جهات برسم النسخة 14 للمباراة الوطنية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    المغرب يصدر 2905 تراخيص لزراعة وإنتاج القنب الهندي إلى غاية أبريل الجاري    بحر طنجة يلفظ جثة شاب غرق خلال محاولته التسلل إلى عبارة مسافرين نحو أوروبا    غدا تنطلق أشغال المؤتمر الثامن عشر لحزب الاستقلال    الفروع ترفع رقم معاملات "اتصالات المغرب"    مطار مراكش المنارة الدولي .. ارتفاع حركة النقل الجوي خلال الربع الأول    ارتفاع أرباح اتصالات المغرب إلى 1.52 مليار درهم (+0.5%) بنهاية الربع الأول 2024    تظاهرات تدعم غزة تغزو جامعات أمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    سيمو السدراتي يعلن الاعتزال    المعرض المحلي للكتاب يجذب جمهور العرائش    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    14 ألف مواطن إسباني يقيمون بالمغرب    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر منحة الصبر في دفع محنة فيروس كورونا
نشر في هسبريس يوم 04 - 06 - 2020

لعل من نافلة القول التذكير بأن الصبر ذُكر في القرآن الكريم نيف وتسعون مرة، عدا مشتقاته البالغة أكثر من مائة موضع. والقصد بيان كيفية توظيف هذه المنحة في دفع محنة وباء فيروس كورونا 19 الفتاك الذي روع العالم بأسره.
ومنذ ظهوره في مدينة وُوهان الصينية أواخر سنة 2019 انتشر بعد ذلك على وجه السرعة في 188 دولة انتشار النار في الهشيم، فأزهق الآلاف من الأرواح، وبث الرعب في الملايين، لاسيما المصابين والمخالطين "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" واستمر على طول ستة أشهر متصلة وما زال، فقد كشفت جامعة هوبكنز الأمريكية الإحصائيات العالمية لهذا الوباء في تقرير مذهل نُشر صباح اليوم الأربعاء 3 يونيو 2020، أن عدد المصابين بفيروس كورونا وصل إلى 6.4 مليون مصاب حول العالم، وأكثر من 380 ألف من المتوفين.
وقد حشر كثير من الناس أنفسهم مع المتخصصين لتفكيك ألغاز هذا الوباء، فيحللون ويُنَظرون، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ولم يقتصروا على ما ينفعهم من التزام آداب الخروج، والامتثال للحجر الصحي، فراحوا يسألون عن حقيقة أصل هذا الوباء، هل هو سلاح بيولوجي ؟ أو وباء إلهي ؟ وما إن كان حقيقة أو خيالاً ؟ وهل سبب استحداثه كان صراعا اقتصاديا بين الكبار في العلن ؟ أم تخطيط بينهم لتأسيس عالم جديد في السر، ترجع أصوله إلى قطب واحد وإيديولوجية متحدة، تذوب في وسطها هويات باقي الحضارات الأخرى ؟ وهذه التأويلات المثارة حول الأسئلة المذكورة لا تعدو الإجابة عنها أن تكون رجما بالغيب، وهذا الميدان له رجاله قادرون على الخوض فيه.
ومبنى الكلام في هذه المقالة متجه نحو الوسائل المعينة على الصبر في ظل الحجر الصحي الذي بقي فيه المغاربة حوالي ثلاثة أشهر، وأصيب فيهم بهذا الوباء 7910 وفقا لتصريح وزارة الصحة الصادر يوم الأربعاء 03 يونيو 2020 وكان السبب في هذا الارتفاع مخالفة فترات الحجر الصحي، وتجاوز تمديد الحركة، والاستخفاف بآداب المخالطة، أو ما يعرف بالتباعد الاجتماعي مما نتج عنه كثرة المخالطين، وارتفاع الحالات الإيجابية، فوجب على المواطنين أن يتسلحوا بالصبر وقوة التحمل، والتحلي بالسكينة والرحمة، وأن يُوَطّنوا أنفسهم على منحة الصبر حتى تكون بحكم كثرة الممارسة كالغزيرة لهم.
ومن هنا يتبين مدى شدة مسيس حاجتنا إلى توظيف روح الصبر وحسن تنزيله على واقعنا، لأن كثيرا من الناس يتغافل عنه، ويتجاهله آخرون، فناسب أن نبين أربع مبادئ أساسية وأصول كونية لها عميق الصلة بتطبيق الصبر وإرغام النفس عليه، لأنها بمجموعها تطرد اليأس وتصفي المزاج، وتعتدل المزاج، وتسكن الغضب، فهي عند التحقيق قواعد اجتماعية في حسن تدبير الحياة العامة .
الأصل في الحياة الابتلاء والتكليف:
يجب أن يُعلم أن متقلبات مجاري الحياة ليست كلها على نسق واحد؛ وليس فيها ما تشتهيه الأنفس فقط كما يظن كثيرون؛ بل إنها ابتلاء وتكليف، عامرة بالفتن والشدائد، ومحفوفة بالمخاطر والمتاعب، ومن اعتقد أن الحياة كذلك؛ سيهون عليه أمر وباء كورونا الذي تراجع خطره والحمد لله بعد انصرام شهر ماي، وقل فتكه، ولم يعد مرعبا كما كان، وباتت أيامه معدودة.
وما أحوجنا اليوم لغذاء الأرواح، وقوت القلوب لدواء النفوس، ولا يكون ذلك إلا بالدخول عن طواعية إلى بستان قصص الأنبياء لنقطف منها ثمارا يانعة في كيفية الصبر، وقوة التحمل، ونستلهم منها عبرا عظيمة ودلائل جليلة لتكون نبراسا لنا، وقدوة لأفعالنا، بطرق ميسرة قابلة للتطبيق على مختلف تصرفاتنا اليومية تنزيلا وتنظيرا.
إن من تأمل حياة الأنبياء ومشاق دعوتهم كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسيدنا أيوب، ويعقوب وولده يوسف، وأولي العزم من الرسل؛ سيعلم أن أصل الدعوة إلى الله ليس طريقا مفروشة بالأزهار، ويكفيك في ذلك ما عاناه سيدنا نوح لما دعا قومه لعبادة الله 950 سنة متواصلة، فكانت النتيجة على لسان القرآن: "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون" فأنت ترى أن أهل الإيمان أشد تعرضا للمحن من غيرهم "وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا من المجرمين" وهكذا كانت دعوة الأنبياء والرسل في أقوامهم تعترضها أشواك، ممزوجة بتصرفات أخرى كالاتهام بالكذب والاستهزاء والسخرية: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا..".
وتأمل أخي المسلم حال أولئك الأنبياء المرسلين والمؤيدين من الله لما صبروا على ما كُذِّبوا، وقارن حالهم يومئذ بحال ضيقك وهمك، بل وفزعك في حجرك الصحي، وستعلم أن الأيام تتغير ولا تستقر على حال، ورحم الله ابن مسعود لما قال: "لكل فرحة ترحة". والقصد من مجموع ما ذكر أن نتَّعظ بحال الأنبياء، ونتأمل قوة صبرهم في دعوتهم، ونتأدب بآداب السلف الصالح، ونجعلها طاقة روحية في نفوسنا، مع توظيفها بطرق تربوية قابلة للتطبيق على مختلف أفراد أسرتنا المعاصرة.
اعلموا -أرشدنا الله وإياكم إلى الصواب- أن الحياة دار بلاء، وإذا علمت هذه الحقيقة الوجودية؛ فافهم مقاصد مقاديرها، وتأمل مرامي قدَرِها، وتدبر أبعاد مآلاتها، فإن تبصرك لتلك الأسرار يعين على صبرك، وتقوي عزيمتك في ملازمة دارك، فسارع إذن إلى تطبيق شعار واقع دولتك: "بقا فدارك" باعتباره وسيلة لتحقق مراد متوقع مقولة أخرى "حمي بلادك" باعتبارها غاية، وانتظر ولا تيأس، ولو اطلعت على الغيب لوجدت ما فعل ربك خيرا، وهوِّن على نفسك قليلا حتى يأتي الله بالفرج، وعند الصباح يحمد القوم السرى كما جاء في المثل العربي.
اختلاط اللذائذ بالآلام سنة كونية:
إن أهم ما يعين على اكتساب الصبر؛ اعتبار هذا التمازج بين الأمور الحميدة والذميمة من المسلمات المقطوع بها، ومن السنن الكونية المصاحبة لحياتنا، وصدق ابن سيرين لما قال: "ما كان ضحك قط؛ إلا كان من بعده بكاء" فلا توجد حياة حلوة خالصة لا يشوبها ألم، ولا حزن متصل إلا وخالطه فرح، ولا اجتماع إلا وأعقبه فراق، ولا أمان إلا ودخله رعب وهلع كما هو الشأن في حالنا اليوم مع فيروس كورونا المستجد كوفيد 19.
ومن غريب المصادفات أن يختلط الفرح بالحزن وتمتزج المضرة بالمنفعة وقت انتشار فيروس كورونا نفسه، فقد أعلنت وزارة الصحة في المغرب يوم الأربعاء 03 يونيو أن نسبة التعافي بلغت 83,98 في المائة، وحالات الشفاء التام وصلت إلى 6643 في المجموع، فيفرح الناس بارتفاع هذه النسبة، بينما نسبة الوفيات وصلت إلى 2,60 في المائة ب 206 حالة وفاة، فيحزن الناس لهم، فيدعون لهم بالمغفرة والثواب، في حين تبقى 1061 حالة تتلقى العلاج نسأل الله لها الشفاء العاجل آمين، وهكذا تمتزج اللذات بالآلام، والأفراح بالأحزان، والموت مع الحياة.
ويجب أن يؤمن الإنسان بالقدر خيره وشره، ويَعلم علم اليقين أن ذاك مسلك قرآني في التدبير، ومنهج رباني في تسيير قوانين الكون، فدونك قول الله سبحانه في مفتتح سورة العنكبوت: "احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" وقوله سبحانه: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" فدل ظاهر الآيتين على اختبار الخالق للمخلوق في الدنيا بملذاتها ومساوئها على الجملة، فلا يجب مناقضة هذا الأصل، ولا ترك حبل عنان هوى النفس مطلقة، لأنه من صميم مقتضيات الإيمان، ومستلزمات قواعد التوحيد، وتحقق ذلك لا يكون إلا بالصبر، وما لا يتم الواجب به فهو واجب، ولعل هذا ما جعل بعض العلماء يرفع من درجة الصبر ويعده واجبا كما فعل ابن القيم في كتابه: "مدارج السالكين" وقبله شيخه أبو العباس ابن تيمية الحراني.
فتذكر أيها القارئ لما كنت تصلي التراويح العام الماضي 1440 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتُسافر مع أهلك في عطلة الصيف، وتُرَوّح على نفسك ساعات مع أهلك وتصاحب زملاءك في المتنزهات، وإذا تذكرت ذلك؛ فاعلم أنه لا تدوم لك تلك الحال، ودَوَام الحال من المحال كما يقال. فتيقن أنه سيأتي يوم لن تصلي فيه التراويح جماعة، ولن تسافر مع أهلك، فحَسِّن اعتقادك بالله، وارض بقدره في أرضه متى نزل فيها بلاء، أو وقعت بها جائحة، وتلك الأيام نداولها بين الناس، واصبر على ما أصابك، فإن الصبر صعب جداً، ولذلك قيل قديما: أمرّ من الصبر للدلالة على شقاوته.
فإذا وقر كل هذا في قلب الإنسان وسرى اعتقاده إلى قلبه؛ فإنه ستهون عليه الشدائد، ولا يخشى من تبعات فيروس كورونا، لأنه محصن بحسن قصد نيته، وقوة إيمانه، وسلامة اعتقاده. خلافا للفئة الأخرى التي تنشر الرعب بين أفراد المجتمع، وتشوش على ضعفاء العقول، ومن دونهم ممن قل إيمانهم وضعُف وازعهم الديني؛ فإن أولئك سرعان ما تدب إليهم الأحزان والهموم مصحوبة بالوساوس والكوابيس فيصابون بأزمات نفسية، عادة ما تؤدي إلى أمراض مزمنة حادة تنتهي في الغالب إلى اختلالات واضطرابات عقلية، أو الموت المفاجئ، أو الانتحار، وكلها طرق شيطانية، فارغة من روح الإيمان، وإيمان القلب فيصبح المرض شبحا، والدواء داء، فانغمست تلك الفئة في نسج خيالات متعددة، وبناء تصورات سفسطائية، يغذيها شدة الخوف، فسلكت بهم تلك التأويلات طرائق قددا، ولم يعلموا جميعا أنهم متجهون في النهاية إلى الفناء، ومهرولون نحو الهلاك، وسيدخلون كلهم بغتة وهم لا يشعرون طائعين غير مكرهين، من باب واحد اسمه: "الموت البطيء".
اقتناص الأجر والثواب من الفتن والبلايا:
يخطئ من يظن أن إلزام الدولة الأفراد بالبقاء في منازلهم طيلة الحجر الصحي عقوبة لهم، وضيقا عليهم، وتغريرا بهم، وانتقاما منهم، ولم يعلموا أن مكوثهم فيها مع انتشار هذا الوباء فيه صلاح حالهم، وانتظام معاشهم.
وقد تناسلت من رحم مختلف المنصات الرقمية والمواقع الاجتماعية المناداة بضرورة الاستفادة من المنافع الدنيوية الخاصة، واقتناص مصالح ذاتية صرفة، كالتسرع لأخذ المكافآت، والاستفادة من المنح التي تمنحها الدولة للمواطنين، والتسجيل في لوائح الفقراء الذين يستفيدون من المواد الغذائية فتعددت وجوه المنافع الدنيوية، حتى آلت اتجاهاتها إلى ما يمكن تسميته: "بالهوس الاجتماعي المصلحي" للاستفادة من الأجر الدنيوي بحق وبغيره في عِز أخطر وباء كارثي يضرب عمق المجتمع المغربي في العصر الحديث.
ولم يكن ذلك كله عيبا، ولا السعي للحصول على الأجر الدنيوي عاراً، وإنما يلاحظ إغفال الجانب الأخروي التعبدي فقليل من يلتفت إليه، ولو عُمِل به لحصلت القناعة للكثيرين، ولما زجوا بأنفسهم مع الفقراء، والتظاهر بالضعف والفقر، دع عنك تأثير هذا الجانب أكثر في المخالطين مع المصابين الذين استبعدت الوزارة الوصية إصابتهم، وحصلوا على نتائج سلبية للتحاليل الخاصة بهم، فقد وصلوا إلى 235362 حالة منذ بداية انتشار الفيروس بالمغرب حسب تصريح وزارة الصحة الصادر يوم الأربعاء 3 يونيو.
ولو صبرت تلك الألوف المؤلفة لِقدر الله لما خرقوا فترة التمديد، ولما خالطوا مع المصابين، وكل ذلك أفضى إلى تمديد الحجر الصحي وتقييد الحركة من 20 مارس إلى 20 ماي، ولو لم يعجل أصحاب تدبير الشأن العام بذلك لوقعت6 آلاف إصابة و 200 وفاة يوميا، حسب توقعات مشاهير الأطباء وكبار الخبراء المختصين في فقه المستقبليات، ولكن الله سلم، ثم مُدد في آخر فترة إلى 10 يونيو، للأسباب نفسها، ونرجو أن يستفيد الجميع من الآفات السابقة ويتحلون بالإتزان والحكمة والتبصر، وقديما قيل: العاقل من اتعظ بغيره.
غير أن أهم الثمار التربوية التي يمكن قطفها في ظل هذه الجائحة هي؛ استشعار قيمة الجزاء الأخروي التعبدي الدائم، وتغليبه على الجانب الدنيوي المصلحي الزائل، مصداقا لقوله تعالى: "نِعْمَ أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون" فإن في حجرك الصحي أيها القارئ أجرا خاصا وثوابا عظيما ليس على انتظارك الفرج؛ ولكن على كيفية صبرك في ذاك الانتظار، فإن الله وعدك بادخاره لك بقوله: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وأيد رسوله ذلك في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح البخاري: "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من خطاياه" .
ولا تفكر في طول صبرك لتستفيد من صرف المكافآت النقدية، لكن تدبر في درجات صبرك لتفوز بخيري الدارين فتريح وتستريح، فإن الله تعالى أخبرنا أن "ما عندكم ينفد وما عند الله باق وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
فعليك بالصبر فإنه أعظم منحة يكتسبها العبد في هذه الجائحة، فدونك ظهور بؤر جديدة في تجمعات عائلية، وانتشارها في محلات تجارية، وتفشيها في شركات صناعية كانت برمتها سببا في ارتفاع عدد الإصابات، وتضاعف عدد المخالطين، ولو التزم الكل بالحجر بالصحي وصبروا على ما أوذوا لاختفى هذا الوباء في مملكتنا الشريفة، ولما كانت هناك حاجة لتجديده مرة أخرى، ومن هنا يظهر أن فقد هذا الصبر، وقلة التحمل، هما أصول الفتن، وسبب المهالك، نعم أنت تعيش في مصيبة لكن حولها بإيمانك إلى نعمة، وفي مثل هذا المقام يقال: مصائب قوم عند قوم فوائد.
ومن روائع ما وقع لزوجة فتح الموصلي -وهي من الصالحات العابدات- استشعارها حلاوة المصيبة رجاء ثوابها، والفرح وقت الشدة لنيل الأجر العظيم "لما عثرت فانقطع ظفرها -ومع ما فيه من الألم- لكنها حمدت الله وضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع ؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه" فتجب المبادرة إلى التحلي بالصبر على الآفات والمصائب، والمصابرة على الجوائح والأوبئة، للحصول على الأجر الأخروي، لاسيما مع تغليق أبواب المساجد، لكن باب التوبة والدعاء مفتوح أبدا لا يُسد، فبادر إليه، وسلم نفسك له، واغرف من مدده، لترتاح نفسك بالإيمان، وروحك بالأنس، وجسدك بالراحة، وحياتك بالفرح والسعادة.
ومن نماذج غلق المساجد في تراثنا المغربي زمن الأوبئة ما وقع في حوادث سنة 448ه، لما كان القحط العظيم بالأندلس والوباء فمات خلق كثير بإشبيلية، وغلقت المساجد كما قال الذهبي في تاريخه الكبير، لا تجد من يصلي بها، وعُرفت تلك الجائحة في كتب التاريخ بعام الجوع الكبير.
وبالجملة فإذا أحس الإنسان داخل الحجر الصحي بضيق المكان، وإيذاء الأهل، وصراخ الأولاد، واستشعر أنه مسلوب الحرية، فاقد الكرامة، وكأنه في إقامة جبرية، وأحس من تلك المضايق بالأسقام والآلام، فصبَر عليها، وكانت عزيمته قوية على تحملها؛ فإنه سيحس لا محالة بحلاوة المكان رغم ضيقه، ويأنس بأهله، ويفرح بمن حوله، وما كان له أن يصل إلى ذلك الإبصار لولا عقد نيته وحسن ظنه بربه لعظيم جزاء الصابرين عند الله تعالى، فيهون عليه وقتها ما يسمى بالحجر الصحي، بل سيصبح عنده عزلة ممتعة، ترتقي روحه من مباني قشور الظاهر؛ إلى أسرار معاني الباطن، فيقْوَى يقينه بربه، فيهون عنده هول وباء كورونا لقوة ثقته بعطاء ربه، أرأيت كيف ذوَّبت منحة الصبر محنة البلاء، كأن لم تغن بالأمس فجعلت من النقمة نعمة، ومن الداء دواء، ومن عين الضرر صلب المنفعة.
الاحساس بقرب الفرَج:
لعل من أهم الدرر المستفادة من مصنفات الناصحين والمربين؛ اعتبار خصلة قرب الفرج لون من ألوان الصبر، لأن أدب الانتظار يرسخ الرحمة والأناة، ولا يُهَوّل من طول انقضاء الأمر المنتظر عادة، فإذا تأدب الإنسان بهذا الأدب؛ فإن انتظاره لانتهاء فترة الحجر الصحي يوم 10 يونيو المقبل؛ سيكون بنظرة ربانية موجهة برؤية شرعية مختلفة تماماً عن نظرة الكثيرين المشؤومة إليها.
فتأمل حال سيدنا يعقوب لما فقد ولده يوسف ثم بعده أخوه، كيف طبق قاعدة الاحساس بقرب الفرج بأحلى صورها، وأبهى مظاهرها، فقال على لسان القرآن: " فصبر جميل عسى الله أن ياتيني بهم جميعاً" والحاصل أن السنن الإلهية قضت منذ الأزل هذا الضرب من التدبير في الحوادث جملة مصداقا لقوله تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرها فننجي من نشاء".
وكذلك أنت أيها الجندي الذي تخندق في كهف الحجر الصحي لطالما تتشوف انتهاءه وترجو زواله دون رجعة، لكن لو قَدر الله أن يجدد مرة أخرى فلا تيأس ولا تحزن، فإن الله وعد عباده بالفرج قائلاً: "سيجعل الله بعد عسر يسرا" ووَعْد الله حق لا يتخلف أبداً، فبادر إلى جني ثمار هذا الحجر، وقطف ثمراته، ومن السفه والعبث أن يحبس الإنسان نفسه شهورا متصلة دون أدنى تأثير بحال واقعه، ولا تأثُّر بمآل متوقعه، فالصبر كما قيل قديماً هو مفتاح الفرج، وأن الفرج مع الكرب، ومن هذا المعنى قال ابن النحوي:
وإذَا بك ضَاقَ الأمْرُ فَقُلْ * اشْتَدِّي أزْمَةُ تَنْفَرِجِي
ومن الخطر بمكان أن تجازف الدولة برفع الحجر الصحي بالكلية، لأن رفعه لا يتم إلا إذا كانت هناك ضمانات صحية كافية للاطمئنان برفعه، كرفع عدد التحاليل المخبرية للكشف عن حالات الفيروس بسرعة قياسية تبلغ 10 آلاف يوميا مقابل 8 آلاف حاليا، وضمان القدرة على تتبع دقيق للمصابين، ومخالطيهم باستعمال تطبيق معلوماتي استحدثته وزارة الصحة بداية شهر يونيو ونشرته في وسائل الإعلام، وهو عبارة عن برنامج معلوماتي خاص عُمّم على هواتف المواطنين، ويعمل بتقنية "البلوتوت" فيبث إشارات يتم تخزينها في الهواتف، وترسل تلقائيا إلى وزارة الصحة بموجبها يظهر الحاملون للفيروس المقربين لحاملي ذاك البرنامج عن طريق رسالة إلكترونية تحدد وقتها بدقة وزارة الصحة موقع الحامل لفيروس كورونا بكل سهولة دون ما حاجة إلى تقديم نفسه بالطرق التقليدية السائدة الآن.
خاتمة:
تلكم إذن كانت نبذة موجزة ومختصرة عن أصول الصبر، وما يعين عليه، فقد تبين من خلال تأصيله الشرعي أنه من الإيمان، ومن مسائل القضاء والقدر، وقاعدة جليلة من قواعد أصول الدين، تنفع صاحبها في خيري الدارين، وتعلي شأنه لقوة تحمله، وترفع منزلته بشدة صبره، فيكون ثوابه مدخرا عند الله تعالى يوفى له أجره بغير حساب.
وقد بدا واضحا أن المشكل الذي نعيشه مع فيروس كورونا ليس هو حقيقة الصبر بإطلاق، والكلام على قواعده بإجمال، ولكن كيفية توظيف روحه، وحسن تنزيل مقاصده، ذلك أن معرفة حقيقة محنة ابتلاء العباد في الدنيا مدخل مهم لاكتساب منحة الصبر على هذا الفيروس، وكلما اشتد البلاء إلا وضاعفت الأجور، وصدق عمر بن عبد العزيز لما قال: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس. وإذا حصل ذلك فستَسْري إلى قلوبنا دون استئذان سنة كونية أخرى وهي؛ اختلاط المنافع والمضار في الحياة، وأنه لا يوجد كل منهما خالصاً، بل لابد أن يمتزجا ويتقابلا، والسير في هذا الطريق صعب لا يلجه إلا الغواصون عن أسرار تقلب الحياة.
ثم يأتي بعد هذا العناء الطويل وقت اقتطاف الثمرة والعبرة بمسك الخواتيم، وهو الأجر الجزيل، والثواب العظيم الذي يناله الصابر في حجره الصحي، وتشتد فائدة هذه الثمرة أكثر مع إحساسه بقرب الفرج، ولو عُمل بهذه المسالك التي تُعِين الصابر على صبره؛ لصُحّحت مجموعة من المفاهيم المغلوطة حول هذا الوباء القتال، ولاندرست بعض المظاهر الاجتماعية السلبية التي تفضي أحياناً إلى التقليل من فتك هذا الوباء، عن طريق المهاترات الكلامية، والشائعات الكاذبة، ونشر أخبار زائفة، وسرعان ما تأثر بعض ضعاف النفوس بما شاهدوا، وغُرِّرُوا بما سمعوا فتولدت عن ذلك حوادث غريبة كخرق فترة الحجر الصحي، والتجمهر وقت الحظر القانوني، والتلويح بالعصيان المدني، وما يجري مجرى ما ذكر .
*مرشد ديني المجلس العلمي لاشتوكة أيت باها


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.