لعل المتتبع للأحداث العالمية في الآونة الأخيرة سوف يثير انتباهه الكم الهائل لمقالات الرأي والمقالات الإخبارية الأخرى والبرامج التلفزية التي تتحدث في مجملها عن موضوع العصر: الإسلام. ولعل القراء والباحثين والمهتمين بالحقل الحقوقي والعلوم الإنسانية، بصفة عامة، ينتابهم الفضول لمعرفة المغزى الحقيقي وراء التداول اللامسبوق والغزير لكلمات ومفاهيم كلما كثرت في التسويق والتداول إلا وكثُر التجسيد لنقيضها على أرض الواقع وعظُمت المزايدة على تأويلاتها ودلالاتها كلٌ حسب فهمه الخاص ومصلحته الخاصة. كلمات خفيفةٌ على اللسان، رنانةٌ في الآذان، صعبة الفهم والبيان ويساء استعمالها وفهم منطقها حسب كل إنسان: الديمقراطية، حرية التعبير، حقوق الانسان. إنها البضاعة الأكثر رواجاً في سوق المصالح الإستراتيجية وأبواق الإعلام العالمية، بالإضافة إلى كونها الهذف المنشود للشعوب التواقة إلى الحرية، وفي الآن نفسه، ذريعة للحملات التبشيرية الجديدة الموجهة نحو "العالم غير المتحضر" أو ما يسطلح عليه ب "الدول النامية"، حسب المفهوم التقليدي للدول الغربية. ومن هذا المنطلق، يتبين لنا بوضوح مدى مصداقية القوانين الغربية، وبخاصة القانون الفرنسي الذي يعتمد على منهج الكيل بمكيالين اتجاة القضايا العربية والإسلامية، خاصةً إذا كانت تروم إلى الإذلال والاحتقار والسب والقذف. ولعل آخر تجليات الفلسفة الخاصة لفرنسا في ما يخص الإسلام هي إذاعة القناة الفرنسية الأولى"TF1" في 30 سبتمبر 2012 للحوار الملهم مع، مغنية الراب سابقاً، Melanie Giorgiades والمعروفة ب Diam's، وشرحها لحقيقة الإسلام وللسبب الرئيسي الذي جعلها تعتنق هذا الدين على حساب الشهرة والجاه والمال. فلم يدرك القائمون على هذه القناة مدى خطورة الدعاية الإيجابية لدين تعرض ولا يزال لشتى أنواع التغريض والتشويه وتلطيخ سمعة المؤمنين بتعاليمه مستعينين في ذلك بترسانة إعلامية متحيزة سعياً من دعاة الفكر المتعجرف إلى تقليص انتشار الإسلام في أوربا والغرب بصفة عامة. ففي زمن قياسي لم يتجاوز الأربع ساعات، شاهد على المواقع الاجتماعية التسجيل الكامل للحوار أزيد من 4,5 مليون مشاهد، الشيئ الذي اضطر القناة إلى سحبه فوراً وبصفة نهائية من كل المواقع تقريباً كي لا يعرف عامة الفرنسيين ماهية الإسلام وما حقيقة انجذاب المشاهير إليه على لسان إمرأة فرنسية ذائعة الشهرة كانت معروفة بشخصيتها المؤثرة، خاصةً بين الشباب. فخطهم التحريري "الحرفي" بامتياز ينبني أساساً على الإساءة للآخر، المسلمين والعرب. ولعل الانتقاد المبرح الذي تعرضت له Melanie وتكالب وسائل الإعلام الفرنسية على اختياراتها وأسلوب حياتها الجديد ليُبين بجلاء الضغط النفسي والعنف الفكري الممارس ضد "الأخر" بمفهومه الواسع، ثقافةً ونهجاً وأسلوباً. ربما ظهور مغنية راب سابقاً بالحجاب الإسلامي يعد استفزازاً للأسلوب الفرنسي وانتهاكاً لحرمة فرنسا العلمانية. وعلى هذا الأساس، حجابها مرفوض وذمها واحتقارها واجب وطني. فأية دعاية هاذفة إلى تنوير الرأي العام وشرح تعاليم ومبادئ الإسلام تُقابل بالرفض القاطع لأنها لا تخدم مصالح الشركات والمحطات الإعلامية التي تبني مجدها وشهرتها على حساب سمعة "الآخر" وعن طريق خلق الأوهام وابتداع الخوف اتجاهه. فأي حرية هذه وأية ديمقراطية يتكملون عنها؟ هذا التلاعب المشين بالكلمات والمفاهيم والعبث العنصري ضد الشرق والمنبثق من مفهومهم الضيق والسطحي لشعوب هذه المنطقة أساس علاقة اللاتواصل واللاتفاهم بين الطرفين. ومن هذا المنطلق، يجد عرابو الجهل والدوغمائية الفكرية، من كلا الطرفين، التربة الخصبة والفراغ النقدي لنشر أمراضهم الفكرية المعدية وتغذية مفهوم صراع الحضارات. الكل تابع المجرى الدرامي للاحتجاجات الشعبية التي وقعت في البلدان الإسلامية رداً على الفيلم المسيئ للإسلام والرسول، محمد (عليه الصلاة والسلام). والكل شاهد استماتة اللأبواق الإعلامية الغربية للتلويح بمبدئ حرية التعبير. وكأن لكل حقود أفاك الحرية في خلق الفتن والضغائن بين الناس. وبعد أن اعتقد البعض أن مسرحية التراجيديا التي أودت بحياة أكثر من أربعين شخصاً من بينهم السفير الأمريكي في ليبيا قد انتهت، تُبشرنا فرنسا راعية الفكر التنويري بأن للمسرحية فصول أخرى، حين قامت مجلة "شارلي إبدو" بإعادة نشر الكريكاتور الذي نشرته قبلها في عام 2005 صحيفة دنماركية للنيل من الرسول الكريم وتأجيج مشاعر الغضب والإستفزاز بغية زعزعة الأمن الروحي لدى المسلمين ورفع راية التحدي العبثي والتشبث ب "حرية التعبير". ولم يخفى على أحد الغاية التسويقية لهذه الصحيفة الصفراء المفلسة لتحقيق أكبر عدد من المبيعات والأرباح في سوق استهلاك المعلومات بأوروبا. وتتجلى ازدواجية المعايير في تطبيق مبدأ حرية التعبير في فرنسا بين الطريقة التي تعامل بها القضاء الفرنسي مع المجلتين الفرنسيتين "شارلي إبدو" ومجلة "كلوزير". حيث أجاز للأولى إعدة نشر الكاريكاتور ومنع الثانية من نشر صور دوقة كامبريدج، كيت ميدلتون، زوجة الأمير وليام، حفيد ملكة بريطانيا إليزابث الثانية، وهي عارية الصدر أثناء استمتاعها بحمام شمسي في الجنوب الفرنسي. هذه هي الفلسفة الفرنسية في تحليل منطق حرية التعبير. يجيزون في محاكمهم نشر الصور المسيئة للإسلام ورسول الإسلام، والتي تزدري وتذم وتشوه هذا الدين، والنابعة من حقد وغي متأصل في العقل الباطني للبعض منهم اتجاه العرب والمسلمين، لا لشيئ إلا لأننا مختلفون في ثقافتنا وتوجهاتنا ومتشبتون بعقيدتنا ومبادئنا. وهذا إن دل على شيئ فإنما يدل على التناقض اللفظي بين ادعائهم بالحرية وتطبيقهم الواقعي لها. نفس المحكمة التي أجازت، بدعوى حرية التعبير، نشر الصور الكاريكتورية للقذف والتشهير بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أمرت، وبدعوى "الحرية الخاصة"، بعدم قانونية ما أسمته ب "العرض الوحشي" للصور الخاصة لدوقة كامبريدج، وبالتالي حظر ومنع أي نشر آخر لهذه الصور والتلويح بغرامات مالية لكل من يقدم على ذلك. فطلقاً لمنطقهم، الحرية الخاصة لشخصين من العائلة الملكية في بريطانيا أسمى وأقدس من خاتم الأنبياء والرسل ولمئات الملايين من اتباعه. فنحن بالنسبة لهم مجرد سوق لترويج بضائعهم وحقل تجارب لنظرياتهم وعقول فارغة وجاهزة لتطبيق إملاءاتهم. فإذا قيل لنا، أن الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه وتحقيق العدالة والمساوات والتكافئ وتعزيز الحريات وتفعيل مبدئ المحاسبة...إلخ، وبالتأكيد كلها مبادئ سامية، يجب علينا السمع والطاعة وتحقيق الأهداف بحذافرها وبمفهومها المطلق، ولو كان ذلك على حساب مبادئ الوحدة الوطنية وسلامة أراضيها وأمنها القومي. أما هم فيستخدمون آليات النظام الديمقراطي بمفهومه النسبي. وعلى هذا الأساس، تستخدم عندما يكون في استخدامها تأمين مصالحهم العليا وضمان استمراريتها في انسجام مع ثقافتهم وفكر مجتمعاتهم. إلا أن الديمقراطية وأخواتها (حقوق الإنسان وحرية التعبير) لا مكان لها حين يتعلق الأمر بالأهداف الجيو استراتيجية أو تهديدات الأمن القومي. في هذه الحالة، يقومون بسن جميع القوانين وتطبيق كل الأحكام المضيقة للحقوق والحريات حسب الظرفية الزمنية. إن هذا النفاق الأخلاقي الفاضح بين القول والفعل وهذا التشويه الممنهج والمتعمد للحقائق المتعلقة بالدين الإسلامي يوحي إلى مدى الهوة التي ما فتأت تكبر وتزداد حدةً بين الشرق والغرب. نحن بالطبع لا نطالب العالم بتقليص هامش الحريات ولا بالتضييق على من يتخدها منهجاً في التحليل والإستدلال والفهم، كما لا نطالب بتجريم الإساءة للأديان، كما طالب البعض. نحن فقط نطالب بتحقيق العدل والمساوات في التعاطي مع مبادئ حرية التعبير. يجب التعامل مع معاداة الإسلام والسخرية من أتباعه بمثل الصرامة والجرأة التي يتم التعامل بها مثلاً مع معادات السامية ومعاداة المثليين جنسياً. كما أن الإطهاد العرقي والاستقواء والبلطجة الإعلامية ضد الإسلام ليست شأن العرب والمسلين وحدهم، بل هي شأن الإنسانية جمعاء، هذا إذا كان العالم الحر يؤمن فعلاً بمبادئ الحريات الكونية المنبثقة من المعاهدات الدولية.