توقع فتح بحث قضائي بعد نشر المهداوي فيديو مسرب من مداولات لجنة التأديب بالمجلس الوطني للصحافة    المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينظم دورات تكوينية للقاضيات الراغبات في تولي مناصب المسؤولية    اجتماع المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار    الاتحاد العام للفلاحين يتدارس ملف إعادة تشكيل القطيع الوطني    بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    تتويج سفير المغرب لدى الأرجنتين ضمن "قادة التحول في أمريكا اللاتينية"    أمل موكادور لكرة القدم الشاطئية بطلا للمغرب لسنة 2025    مونديال أقل من 17 سنة.. في مواجهة حاسمة المنتخب المغربي يلاقي البرازيل اليوم الجمعة وعينه على حجز مقعد في نصف النهائي    قرعة الملحق الأوروبي لمونديال 2026.. مواجهات نارية في طريق آخر أربعة مقاعد    "الشباب": حمد الله غير مقيد قانونيا    وفاة رضيع وُلد في طرامواي الرباط تُشعل جدل الإهمال الطبي وتُحرّك التحقيقات    30 دولة تعارض مسودة اتفاق "كوب30"    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    تراجع أسعار الذهب    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم يتعلق بتطبيق الضريبة على القيمة المضافة    خطف 52 تلميذا من مدرسة بنيجيريا    لفتيت: إصلاحات المنظومة الانتخابية تهدف إلى "تجنب الشبهات" وتحسين صورة البرلمان    سيراليون تجدد دعمها للوحدة الترابية للمغرب وتعبر عن ارتياح بالغ باعتماد القرار التاريخي 2797        المغرب يرتقي إلى المرتبة السادسة عالميا في مؤشر الأداء المناخي 2026    المغربي إدريس علواني يحصد الميدالية البرونزية في بطولة إفريقيا للدراجات    مدرب مارسيليا: أكرد لاعب لا يعوض.. وعلينا التأقلم مع غيابه    المغرب يرأس المجلس الدولي للزيتون لعام 2026    مهرجان الدوحة السينمائي 2025 يفتتح فعالياته معززاً مكانة قطر في المشهد السينمائي العالمي    بوعياش: تبادل إطلاق النار بحي بوسلامة ينتهي بتوقيف أحد المشتبه فيهم    مراكش: استئناف هدم مساكن العسكريين وقدماء المحاربين... وتعويضات تشمل بقعاً أرضية ومساعدات للبناء    اعتداء خطير بمستعجلات مستشفى بني ملال يخرج النقابة الوطنية للصحة للاحتجاج والتصعيد    كيوسك الجمعة | المنظومة المؤطرة للانتخابات تهدف إلى تخليق العملية الانتخابية والسياسية    وسام حمادة والدة "هند رجب" في افتتاح الدوحة السينمائي:    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    المكسيكية فاطمة بوش تتوَّج ملكة جمال الكون بعد جدل واسع    زلزال بقوة 5,5 درجات يضرب بنغلادش    اليوم.. فتيان الأطلس يواجهون البرازيل بأمل المرور إلى نصف نهائي المونديال    مهرجان الذاكرة المشتركة بالناظور يتوج أفلاما من المغرب وبولندا وأوروبا الغربية    توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    بوريطة يتباحث بالرباط مع نظيره الغاني    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    "الأحرار" يصادق على تصوره للحكم الذاتي تمهيداً لرفعه إلى الملك    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    أشبال الأطلس ضد البرازيل: معركة حاسمة نحو نصف النهائي    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    منظمة الصحة العالمية تحذر من الزيادة السريعة في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية    غوغل تطلق أداة جديدة للبحث العلمي    تدشين غرفة التجارة المغربية بإيطاليا في روما    مناورات مشتركة بين قوات المارينز الأميركية ونظيرتها المغربية تختتم في الحسيمة    معمار النص... نص المعمار    لوحة لغوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يباع في مزاد على الإطلاق    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن تشكيلة لجنة التحكيم    الأكاديمية الفرنسية تمنح جائزة أفضل سيرة أدبية لعام 2025 إلى الباحث المغربي مهدي أغويركات لكتابه عن ابن خلدون    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفو التزييف..
نشر في هسبريس يوم 05 - 06 - 2013


من صناعة الفكر إلى ترويج الوهم الإيديولوجي
الثقافة مسؤولية و التزام؛ تكوين فكري و وضوح منهجي؛ انتصار للفكرة في أبعادها الإنسانية و الكونية. لهذا؛ ينتصر المثقف؛ عادة؛ للموضوعية objectivité على حساب الذاتية subjectivité و لذلك؛ لا يصلح المثقف لخدمة تيارات إيديولوجية منغلقة؛ لان رسالته تتجاوز التصنيف الإيديولوجي الضيق.
إن هذه الصورة الملتزمة للثقافة هي التي ساهمت في إصدار أول بيان ثقافي في تاريخ الفكر الغربي الحديث؛ حينما أصدر جماعة من المثقفين الفرنسيين ( بيان المثقفين) محتجين على الحكم الصادر في حق الضابط اليهودي فرنسي الجنسية (ألفرد دريفوس) بتهمة الخيانة العظمى، حيث طالبوا العدالة بأن تعيد النظر في القضية، وقد حمل البيان وقتها توقيع أسماء كبيرة مثل: إميل زولا وأناتول فرانس ومارسيل بروست وليون بلوم.
و هذه الصورة الملتزمة للثقافة؛ هي التي دفعت الروائي الفرنسي الكبير (إميل زولا) إلى بعث رسالته الشهيرة إلى الرئيس الفرنسي (فليكس فور) متهما السير غير الطبيعي للعدالة في فرنسا بخصوص نفس القضية؛ و كانت الرسالة حينها تحمل عنوانا قويا يعبر عن قيمة المثقف الملتزم الذي ينتصر للعدالة و للقيم الإنسانية؛ فقد صاح (زولا) بأعلى صوته : إني أتهم .. J'accuse
لقد كانت هذه المرحلة؛ تجسيدا للفكر الأنواري بروحه الإنسانية المنفتحة و بما يحمله و يجسده من قيم العدالة و الإخاء و الحرية؛ هذا الفكر الذي جسدته نخبة ثقافية في قمة الرقي الفكري و المنهجي. لكن؛ النموذج الفرنسي نفسه عرف انحرافا خطيرا؛ جعل الكثير من أصوات الالتزام الثقافي تتعالى محذرة من المصير المجهول لفكر الأنوار. و نستحضر في هذا الصدد مفكرا و باحثا سياسيا؛ هو ( باسكال بونيفاس) مدير معهد العلاقات الدولية و الإستراتيجية ( IRIS) هذا المفكر الذي يقدمه (هاشم صالح ) مترجم كتب المفكر محمد أركون من الفرنسية إلى العربية؛ بأنه وريث كبار فلاسفة التنوير في فرنسا أمثال: فولتير؛ ديدرو؛ روسو ...
هاشم صالح- باسكال بونيفاس و الفكر المستنير – جريدة الشرق الأوسط- الخميس 1 ماي 2008- ع: 10747 .
لقد امتلك (بونيفاس) شجاعة خارقة حينما أعلن حربا لا هوادة فيها على من يسميهم ب مثقفي التزييف/التزوير les intellectuels faussaires الذين يسيطرون على المشهد الثقافي الفرنسي و يوجهونه لخدمة أجندة سياسوية رخيصة لا علاقة لها بالثقافة حتى في أبخس تجسيدها ! إنهم؛ بتعبير بونيفاس؛ يصنعون عملة ثقافية مزورة .
Pascal boniface – les intellectuels faussaires- jean Claude Gawsewitch éditeur- 2011- p :8
إن ربط (بونيفاس) خاصية التزييف و التزوير بالمثقف لا علاقة له بالاعتباطية و لكنه تعبير دقيق عن درجة الانحطاط الذي يمكن أن يصل إليه حارسو القيم و المبادئ الإنسانية السامية؛ و هذا الانحطاط قد يصل أحيانا إلى مستوى خطير جدا؛ و ذلك حينما لا يختلف المثقفون عن مزوري العملات الذين يهددون التوازن الاقتصادي؛ فهم كذلك يزورون القيم و الأفكار و يشكلون بذلك خطرا أكبر على التوازن الثقافي و الاجتماعي؛ حيث يؤكد بونيفاس أن القطيعة بين المواطن الفرنسي و النخبة الثقافية تزداد بشكل اكبر و هذا خطر على الديمقراطية؛ حيث يشكل مثقفو التزييف عصب الديماغوجية .
IBID – P : 13
في فرنسا؛ قام مثقفو التزييف بدور خطير جدا في نشر قيم الكراهية و العنصرية بين أفراد الشعب؛ و كانوا بذلك؛ السلم الذي قاد رمز الديماغوجية إلى الحكم؛ و لذلك فقد عاشت فرنسا خلال عهد ساركوزي أسوأ مراحلها؛ و أصبحت الدولة بمؤسساتها تطارد فتاة تضع قماشا على رأسها؛ أو تحرس جزارا يبسمل عند الذبح ... ! بينما تم فسح المجال واسعا لمرتزقة اللوبي الصهيوني ينشرون قيم و أفكار التزييف و التزوير بين الناس؛ و ذلك لأن الحدود بين المزيفين و المرتزقة واهية؛ لان الجميع على وعي بأنهم يمثلون النقيض التام للأمانة الفكرية؛ يؤكد بونيفاس بكل الشجاعة الفكرية .
IBID- P :9
إن حديثنا عن المشهد الثقافي الفرنسي؛ من خلال رأي بونيفاس كمثقف ملتزم؛ ليس هروبا من الواقع الثقافي العربي؛ الذي يعاني أعطابا أخطر بكثير مما صاغه بونيفاس؛ بل هو حديث غير مباشر عن هذا الواقع المختل؛ حيث يختلط الحابل بالنابل و تصبح الصورة مشوهة و أحيانا بشعة .
و هكذا؛ أصبحت الثقافة صناعة إعلامية صرفة لا مجال فيها للتكوين الفكري و الوضوح المنهجي و الالتزام الأخلاقي؛ فقد اختلطت القيم و أصبح بإمكان أي (شخص) أن يقدم نفسه مثقفا دينيا يفتي في أمور فقهية عويصة بجرة قلم؛ فيسيء بذلك إلى المعرفة الدينية الأكاديمية التي يمثلها علماء متخصصون في مجال علمي ضيق جدا يقضون السنوات الطوال في مطارحته؛ و قد تتحول معرفة فقهية سطحية بسيطة إلى أحكام قيمة مطلقة؛ غالبا ما تتميز بالسلبية؛ حول الديمقراطية و حقوق الإنسان و العلمانية ... و هذه قيم و أفكار مركبة و شامخة تتطلب قدرا عاليا من التكوين الفكري و الوضوح المنهجي و الالتزام الأخلاقي. أما في الجانب المقابل ( فحدث و لا حرج) حيث أصبح بإمكان أي كان أن يقدم نفسه خبيرا في قضايا الحداثة؛ ثقافيا و سياسيا و اجتماعيا؛ و بجرة قلم يحكم على تراث حضاري عظيم؛ فقها و فلسفة و فنا ... بأنه بضاعة رخيصة؛ بمنطق العصر؛ يجب أن تذهب إلى المتاحف. و لذلك لا يتوانى مثقف التزييف الحداثوي عن الرمي بأحكام القيمة البسيطة و المتهافتة حول قضايا في غاية التركيب؛ قد ترتبط بالمسالة الدينية أو بقضايا اجتماعية و سياسية في غاية التعقيد .
في هذا السياق؛ يدور الحديث؛ اليوم؛ في العالم العربي عن الصراع بين الحداثيين/الليبراليين/العلمانيين و بين المحافظين/السلفيين/ الإسلاميين؛ و قد يذهب البعض بعيدا حينما يعتبر أن الصراع الجاري بين هذه التيارات الإيديولوجية المنغلقة؛ هو صراع بين قيم الحداثة و التقدم من جهة و بين قيم السلفية و الرجعية من جهة أخرى ! لكن؛ أخطر ما يخفيه هذا التحليل المتواضع هو كون هذه التيارات لا تجسد هذه القيم بل تكتفي بتوظيف شعارات فضفاضة في إطار سباق انتخابي لكسب الأصوات الشاردة. إن ما يمكن أن يوصف بأنه صراع إيديولوجي في الساحة العربية (..) إنما يعبر عن اختلاف السلطات المرجعية المعرفية التي تمارس هيمنتها على هذه الفئة آو تلك من فئات المثقفين العرب؛ أكثر ما يعبر عن شيء آخر له صلة حقيقية بالواقع العربي أو بالتطلعات الحقيقية للجماهير العربية. و في هذا الصدد يؤكد الأستاذ الجابري: و إذن فإن مقولة الصراع الإيديولوجي هي ذاتها من المقولات التي يجب إعادة النظر فيها داخل الساحة الفكرية العربية الراهنة.
محمد عابد الجابري- الخطاب العربي المعاصر.. دراسة تحليلية نقدية-مركز دراسات الوحدة العربية – ط: 5- 1994 – ص: 201
إن الصراع الجاري؛ اليوم؛ في العالم العربي؛ في جوهره؛ صراع إيديولوجي فج فاقد لروح الفكر و القيم إنه؛ بتعبير أوضح؛ صراع بين مثقفي التزييف بمختلف انتماءاتهم الإيديولوجية. فهم يمارسون تزييفا مضاعفا حينما يقدمون أنفسهم ناطقين رسميين باسم منظومات فكرية و قيمية تتجاوز بكثير إطاراتهم الإيديولوجية المنغلقة. فأية ليبرالية و ديمقراطية و فلسفة حقوقية يمكن أن يدعيها مثقف غارق في السلفية العرقية ؟ ألا يوظف هذه المنظومة الفكرية-القيمية فقط لتصفية حساباته الإيديولوجية الخاصة ضد رموز الحضارة العربية الإسلامية ؟ و أي توجه إسلامي محافظ يمكن أن يدعيه رجل دين بسيط لا يمتلك من بضاعة العلم سوى النزر القليل الذي لا يسمن و لا يغني من جوع ؟
و إذا كان التزييف مرتبطا؛ في الغالب؛ بتراجع التكوين الفكري و تضخم الغموض المنهجي و انحطاط الحس الأخلاقي؛ فإن المنتظر من مثقفي التزييف؛ بمختلف اتجاهاتهم الإيديولوجية؛ هو الإساءة إلى الفكر و القيم فتتعرض المنظومات الفكرية على أيديهم إلى مجازر رهيبة يقشعر لها الحس الفكري الرصين؛ حيث يتحول الدين بقوته الروحية الخارقة إلى مسألة إيديولوجية فجة يحسم فيها بجرة كلمة؛ حيث يركب مثقف التزييف رأسه و يطلق العنان للغوه دون حسيب و لا رقيب. و بالمثل تتحول المنظومة الفكرية الحديثة؛ بديمقراطيتها و علمانيتها و فلسفتها الحقوقية؛ إلى أبجديات بسيطة؛ يحسم فيها مثقف التزييف بفتوى متهافتة يلبسها لباس الدين و هي من الدين براء.
و في علاقة بمشهدنا الثقافي المغربي؛ و هو حالة خاصة يمكن تعميمها على العالم العربي؛ فإن مثقفي التزييف يمارسون سطوة مطلقة على النقاش العمومي؛ في ظل تراجع الحركة الفكرية الرصينة و اتساع رقعة وسائل التواصل الشعبي. و هذا ما أصبح يسيء إلى التراث الفكري المغربي بطابعه العقلاني الأصيل؛ و يمارس تأثيرا سلبيا على المتلقي؛ الذي يجد نفسه في مواجهة قصف إيديولوجي عنيف من جميع الاتجاهات. فبعد أن يخفت القصف الإيديولوجي السلفوي يبدأ القصف الإيديولوجي العلمانوي؛ و يتواصل القصف حتى ينطبق المثل القائل: (جعجعة و لا طحين) .
يطلق مثقف التزييف السلفوي( السلفوي هو الذي يحرف الفكرة التراثية و يخرج بها عن سياقها لخدمة أغراضه الخاصة) العنان لمخيلته المريضة؛ فينبعث القصف على شكل فتاوى رخيصة تسيء للدين بشريعته السمحاء؛ أكثر مما تجيب على إشكاليات اجتماعية و سياسية و اقتصادية. و هكذا؛ يزوج الفتاة القاصر عن سن التاسعة عبر تأويل نصي متهافت لحديث نبوي شريف؛ و ينصح الفتاة قبل الزواج بممارسة الاستمناء بالجزر؛ و يحرم أكل الحلزون بدعوى أن الرسول عليه السلام كان يأكل الجراد و يمتنع عن أكل الحلزون؛ و يبيح معاشرة الزوج لزوجته الميتة؛ و يفتي بقتل المرتد عن الإسلام ضد منطق حرية الاعتقاد التي يحث عليها الدين الإسلامي و تكفلها المواثيق الدولية ... ! و عندما نبحث في مصدر هذه الفتاوى المتهافتة؛ نجدها صادرة عن مثقف التزييف الديني الذي لا يهتم بمنهجية العلوم الشرعية؛ كما جسدها الاجتهاد الفقهي في بعده الأصولي العقلاني؛ و لكنه يهتم أكثر بنجوميته كفاعل اجتماعي و سياسي ليس له من العلم سوى جبة المشيخة. و لذلك؛ نجد أكثر مثقفي التزييف الديني يستثمرون بضاعتهم الرخيصة في الحصول على موطئ قدم حزبي يؤمن لهم مصدر رزق؛ و لا يهمهم أن يكون مصدرا ريعيا لا يبذلون فيه أي مجهود يذكر .
أما مثقف التزييف العلمانوي ( من العلمانوية laïcisme باعتبارها تحريفا إيديولوجيا للعلمانيةlaïcité ) فهو يوظف المرجعية الفكرية الحديثة توظيفا إيديولوجيا فجا لا يستقيم مع مبادئها الخالدة التي أسسها رواد الفكر الحديث. إنه يمارس هوايته الدونكشوطية و هو يلوح بسيفه الخشبي محاربا الطواحين الهوائية؛ يرمي بفتاواه المتهافتة يمنة و يسرة على شاكلة مثقف التزييف الديني تماما؛ و ذلك لأن المجال المفضل لمثقفي التزييف العلمانوي دائما هو الحقل الديني؛ حيث يصولون و يجولون بلا رقيب متجاوزين كل حدود المنطق السليم؛ فهم لا يتحملون عبء البحث المضني في المتون الفكرية لعلم الاجتماع الديني و علم الأديان المقارن و علم النفس التحليلي؛ هذه العلوم الحديثة التي انشغلت بالمسألة الدينية و حللتها من زوايا متعددة؛ و ساهمت بذلك في إنهاء مرحلة النقاش الإيديولوجي الذي هيمن خلال مرحلة سيادة الفلسفة الوضعانية positivisme و ما زكاه من هيمنة الفكر الشيوعي في صيغته المذهبية.
إن ما لا يعيه مثقف التزييف العلمانوي؛ هو أن المسألة الدينية التي يصدر حولها الفتاوى المتهافتة؛ هي في غاية التعقيد و التركيب و لا يمكن مقاربتها من منطلق صحفي تحقيقي أو من منطلق إيديولوجي مذهبي؛ و يرتبط هذا التعقيد و التركيب بتعقيد البنية النفسية للفرد و البنية الاجتماعية للجماعة. و لهذا؛ نجد (كارل يونغ) يوظف آليات علم النفس التحليلي حينما يعتبر أن الدين محدد أساسي لبنية اللاشعور الجمعي l'inconscient collectif هذه البنية التي تتجاوز المستوى الفردي (كما حضر مع فرويد مثلا) إلى مستوى أعمق بكثير يرتبط بالتاريخ الجمعي للنفس الإنسانية. و من نفس المنظور العلمي؛ فقد وظف (ماكس فيبر) السوسيولوجيا لدراسة و تحليل المسالة الدينية؛ و هو الذي صاغ مفهوم العقلنة الدينية (la rationalisation religieuse ) دلالة على أن الدين كان قوة دافعة للخروج بالإنسان من مرحلة السحر؛ إلى مرحلة أصبح خلالها الإنسان راشدا؛ يوظف قواه العقلية لإدراك العالم من حوله؛ بينما كانت قوى سحرية تقوم بهذه الوظيفة من قبل؛ و للدلالة على هذه الحالة الجديدة يستعمل (فيبر) مصطلح le désenchantement du monde الذي يحيل على معنى انتزاع السحر عن العالم .
لا يتحمل مثقف التزييف عناء العودة إلى هذه المرجعيات العلمية؛ لأنه يستسهل الخوض في جميع المواضيع بدافع وهم الإلمام الشامل بجميع المعارف؛ و هذه مأساة الإيديولوجية التي تجعل فاعل التزييف الثقافي يمارس (التفكير) كاستجابة لحالة نفسية؛ تدفعه إلى تصفية الحسابات الشخصية مع المجموعات الاجتماعية المخالفة لرأيه. إن مهمته إيديولوجية تكتفي بتوظيف الأفكار كشعارات؛ و ليست مهمة فكرية تستند إلى معايير البحث العلمي؛ و هذا ما يهدد النقاش العمومي بالانحراف إلى صراعات إيديولوجية جوفاء؛ توظف فيها جميع الأسلحة الرمزية الفتاكة؛ التي تبدأ بالتكفير و التخوين و لا تنتهي بإلصاق تهم الإرهاب و الانغلاق و التشدد؛ و هي أسلحة تقوم بوظيفة القتل الرمزي؛ و قد يتطور الصراع أحيانا و يتم اللجوء إلى الأسلحة المادية عبر ممارسة القتل المادي؛ الذي يقوم بوظيفة إخراس الصوت المعارض للأبد !
و هذا؛ ليس البتة مشهدا تخييليا بل هو المنطق الذي يوجه النقاش العمومي؛ في العلم العربي؛ منذ مرحلة الصراع الشيوعي-الإسلامي و إلى حدود اليوم في سياق ما يسمى بالصراع الإسلامي-العلماني؛ و خلال المرحلتين معا كان يفشل الفكر؛ عادة؛ عن فهم الواقع لأنه غير مسلح بالمعرفة الفكرية و التأطير المنهجي و الالتزام الأخلاقي؛ بينما ينتصر الجسد في حسم الاختلاف بطرق بدائية جدا تعتمد العنف المادي لحسم النقاش العمومي لصالح من يصرخ و يضرب و يقتل ... أكثر ! و في أكثر الحالات شيوعا؛ نجد مثقف التزييف هو الذي يقود هذه الحروب الدونكشوطية؛ حيث يوظف الشعارات الإيديولوجية لتجييش الرأي العام ضد الرأي المخالف؛ مستندا في ذلك إلى مسلمات عامة قد ترتبط بالدين أو بالمصالح العليا للوطن أو بدعوى التقدم و الانفتاح في مقابل التخلف و الانغلاق ... و هي مسلمات عاطفية ترتبط ب سيكولوجيا الجماعة أكثر مما هي حقائق علمية أو فكرية ترتبط بالبحث العلمي.
إننا و نحن نتناول مسألة التزييف الثقافي في العالم العربي؛ لا تهمنا نوعية الخطاب؛ في صيغته الإيديولوجية؛ بل إن ما يتخذ أهمية أكبر هي آليات التفكير؛ من منظور ابستملوجي؛ و هي آليات موحدة بين مثقفي التزييف بجميع اتجاهاتهم الإيديولوجية. إن ما يوحدهم هو الاستناد إلى البريكولاج الثقافي عبر ممارسة ترقيع الأفكار بعد انتزاعها من سياقها الثقافي و فصلها عن إطارها المرجعي؛ بحيث تصبح طيعة و قابلة للتوظيف الإيديولوجي. و لذلك؛ يمكن لمثقفي التزييف أن يزوروا الحقائق التاريخية؛ كما يمكنهم أن يؤولوا الأفكار على هواهم؛ و هم في الغالب لا يولون أي اهتمام للآلة المنهجية؛ لان (الأفكار) تتداعى عليهم بالسجية؛ بحيث يمكن لأي اكتشاف فكري (خطير) أن يداهم مثقف التزييف و هو يلقي (خطبة عصماء) أو يساهم في نقاش إيديولوجي ... هكذا؛ من دون بحث أو تفكير أو تأطير منهجي !!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.