كل قادم إلى مدينة القصر الكبير من جهة الجنوب، كل عابر طريقها الرئيس تعبر مركبته بناية جمارك قديمة، يُظل جناحاها عابريها وما يدري أغلب العابرين أنهم يمرون ببناية تمركزت فيها بعض وقائع التاريخ المغربي في عهد الحماية. مبنى أظل حدودا "متوهمة" كانت فاصلة بين المنطقة السلطانية التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي وبين المنطقة الخليفية التي كانت خاضعة للاحتلال الإسباني. صحيح نجح الفرنسيون والإسبان في إقامة الحواجز الجمركية بين المنطقتين؛ لكنهم فشلوا في زرعها في قلوب أبناء الشعب الواحد فشلوا في تمزيق عرى الوحدة بين المغاربة الذين لم يستكينوا لتباريح بطش المستعمر، فقد ظلوا على اتصال دائم، وظل سكان المنطقة الخليفية حريصين على احتضان الفدائيين الفارين من جبروت الاستعمار الفرنسي وتزويد إخوانهم هناك بكل احتياجات المقاومة. في آخر عبور لي للبناية المتواجدة بقرية عرباوة -القريبة من مدينة القصر الكبير- أبيت إلا أن أترجل... أن أقف.. أتغنى بذكرى حبيب ومنزل. تغن عزفت أنغامه على مقام الفخر بمكان أنبت عز المغاربة ووحدتهم. مكان زاره الملك محمد الخامس سنة 1958، حيث أعلن منه انتصار الحرية والوحدة الوطنية. قبل الإبحار في يم التاريخ، أتوقف بساحله لأعترف للقارئ.... أنا شاهدة لم تر شيئا وإنما أنصتت إلى بعض رواة تاريخ فترة الحماية؛ وأصغت إلى بعض صانعيه في مدينة القصر الكبير. حدثوني عن وقائع بعضها غير مدون بل محكي، فارتأيت الإشارة إليها ليحييها الحاضر والمستقبل بدل أن يدفنها الماضي، خصوصا وأن جل الكتابات التاريخية للمنطقة الخليفية -شمال المغرب باستثناء طنجة- مصدرها كتابات استعمارية إسبانية، يجانب أغلبها الحقائق التاريخية، الضحية الأولى للحروب. زيادة على ذلك، فأغلب الكتابات التاريخية المغربية تلقي الضوء أكثر على أحداث وشخصيات المنطقة السلطانية. أمر يلاحظ أيضا حتى على مستوى أعمال الدراما التاريخية المغربية -على قلتها مع الأسف- في حين أننا نعرف الكثير عن الثورة المصرية ورمزها "سعد زغلول" ونجهل الكثير عن الشخصيات الوطنية في شمال المغرب من أمثال المجاهدين الوطنيين محمد داوود وعبد السلام بنونة وعبد الخالق الطريس رحمة الله عليهم. أولئك الزعماء الذين أدركوا أن باب الحرية لا تدقه إلا الأيدي المضرجة بالدماء والأيدي المخضبة بمداد الأقلام. فهموا عكس بعض قادة الأحزاب السياسية -اليوم- أهمية الثقافة والتعليم في توجيه العمل السياسي، في تعزيز الحس الوطني لدى الناشئة والشباب، والتفتوا إلى تكامل الأدوار بين العمل الوطني الجهادي وبين العمل الوطني التربوي الثقافي. فسارعوا إلى إنشاء المطابع "المطبعة المهدية" بتطوان، وإصدار الصحف الوطنية منها جريدة "النهار" التي كانت توزع بمدن الشمال ومنها القصر الكبير.. وإذا كان الزعيم الألماني "بسمارك" قد صرح حين انتصاره على الفرنسيين سنة 1870-1871: "لقد انتصرنا بمدارسنا" فإن الوطنيين في المنطقة الخليفية حق لهم أن يؤيدوا جملته، فقد نجحت المدارس الأهلية في شمال المغرب -ومنها المدرسة الأهلية بالقصر الكبير- المؤسسة على النظام الحديث آنذاك، نجحت في إنضاج الوعي الوطني والفكر الوحدوي لدى تلامذتها. وقد كانت المدرسة الأهلية بالقصر الكبير حقلا خصبا لغرس بذرة الولاء لوحدة المغرب؛ غرسها متطوعون وطنيون سموا بعملهم إلى العلا. بعد حصول المغرب على استقلاله واندماج حزب الإصلاح الوطني في المنطقة الخليفية مع حزب الاستقلال في المنطقة السلطانية زار الزعيم الوحدوي عبد الخالق الطريس مدرسة القصر الكبير الأهلية، لتقييم الأداء التربوي لمدرسيها ومتعلميها. بدخول الأستاذ الطريس أحد فصولها؛ اندفع التلاميذ منشدين بكل حب وحماسة: فليحيا وليعش عبد الخالق الطريس في مشهد وطني مفعم بروح الوحدة الوطنية التقطته عدسة التاريخ؛ خاطب الزعيم الطريس الصغار بتواضع الكبار: "اعلموا يا أبنائي أنه بعد استقلال المغرب لم أعد أنا الزعيم. زعيمنا اليوم بعد الملك محمد الخامس هو المناضل الوطني علال الفاسي". لا حظ الأستاذ الطريس أمارات الدهشة والاستغراب في عيون الأطفال؛ بذكاء أدرك عدم استيعابهم الجيد لكلامه، فما كان منه إلا أن أمسك طبشورة ورسم على السبورة جلبابا مغربيا ثم خاطب المتعلمين: "تأملوا يا أبنائي هذا الجلباب، إنه يشبه خريطة المغرب، قبه الذي يحمي مرتديه من أشعة الشمس ولفحات البرد هو شمال المغرب وباقي أجزاء الجلباب المرتبطة والمتصلة ببعضها هو غربه... شرقه.... وجنوبه. غدا إن شاء الله عندما يسترجع المغرب جميع أراضيه المغتصبة سيطول الجلباب أكثر فأكثر ولن يبقى قصيرا -في إشارة مرحة منه إلى الجلباب الجبلي- الأمل معقود عليكم يا أبنائي في تحقيق ذلك؛ وقلوبنا بكم مؤملة بالرجاء في المحافظة على استقلال المغرب ووحدنه". بأعين دامعة ودع المتعلمون زعيما عظيما من زعماء الحركة الوطنية. إلى هنا انتهى درس الأستاذ الطريس لتنتهي معه حكاية الراوي، ولتظل نفسي منتشية بحكمة الدرس وجماله؛ منبهرة بحرص ملقيه على غرس الفكر الوحدوي في عقول الناشئة عن طريق الاستغلال الجغرافي لخريطة المغرب وإلباسها الجلباب المغربي وكأني به أستاذ تربية تشكيلية. إن ما يثير الإعجاب في شخصية عبد الخالق الطريس هو حرصه على زيارة المدارس الأهلية لمراقبة سير العملية التعليمية التربوية، يقينا منه بأن المدرسة الوطنية هي من أهم مصادر التنشئة السياسية بعد الأسرة، هي التي تستطيع تأصيل قيمة الولاء للوطن في نفس الأطفال. وإيمانا منه أيضا بأن المنهجية التعليمية التربوية هي مسألة مركزية وجوهرية في العمل السياسي. اليوم مع الأسف جل الأحزاب السياسية تغفل هذا الجانب، لذا ليس غريبا أن تتحول مثلا الانتخابات إلى عملية سمسرة بين مرشحين، أغلبهم غير أكفاء وغير مؤهلين للمشاركة السياسية وبين منتخبين معظمهم لا يتعدى انتماؤهم حدود ذواتهم ومصلحتهم الشخصية. لكم كان المناضل عبد الخالق الطريس محقا في اعتبار العملية التربوية خلفية أساسية للعمل السياسي المستقبلي بشكله النبيل؛ الذي يدفع الشباب إلى ممارسة العمل السياسي ويساهم في تنشئة مواطن محب لوطنه، مشارك في بنائه، غير باحث عن سبل ملتوية للوصول إلى كرسي يلتصق به إلى أن يورثه أحد أقاربه... يسلمه إياه قبل أن يسلمه الموت إلى ربه.