ليست مسألة معضلة التعايش بين التيارات الفكرية والسياسية والمعتقدات الدينية والمذهبية مسألة طارئة، في مختلف المجتمعات الحديثة، بل إنها قد شكلت جزءا لا يتجزأ من معضلة البناء الوطني، خاصة في المراحل المفصلية من الفرز الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي في المجتمعات البشرية التي دفعتها تلك الظروف إلى إبداع أشكال متعددة من التنظيم الاجتماعي والسياسي الكفيلة بمواكبة التطورات، وحل مختلف الإشكالات الناجمة عنها، بما يمكنها من المحافظة على وحدتها وانسجامها ويمنحها القدرة على رفع التحديات التي يطرحها واقعها المتجدد باستمرار. إننا نجد أنفسنا هنا في الواقع أمام المبادئ والأسس والضوابط النظرية والمعرفية التي وضع الفكر الديمقراطي الحديث أسسها الجوهرية، وتم اعتمادها في كل تجارب البناء الوطني الناجحة في مختلف أنحاء العالم المعاصر، باعتبارها الإطار المرجعي العام الذي يتم الاستئناس به موجها للممارسة والذي تترجمه بكثافة مفاهيمية دقيقة فكرة البناء الديمقراطي الحديث باعتبارها، هي كذلك، مؤطرا أشمل لمجمل متطلبات الممارسة الوطنية السوية على قاعدة مفاهيم التحرر الجماعي من ربقة الاستعباد والاستبداد بأشكاله كافة، وتكريس كرامة الإنسان بما هو مواطن بشكل يحوله إلى عنصر لاحم للوحدة الوطنية، وليس مجرد فرد تستبد به الأهواء، وتنأى به عن غيره من مكونات الاجتماع البشري الوطني. إن رفع هذه العبارات إلى مستوى التصور المفاهيمي والتعامل معها كمنظومة مترابطة هو القاعدة الذهبية في حل مسألة التعايش والشراكة الوطنية القومية في عصرنا، حلا يقوم على ضرورة الاعتراف بمختلف التيارات الفكرية والسياسية والحساسيات الاجتماعية والقومية ضمن تصور لا يناقض ممارسة الحرية، وإنما يعززها ويغنيها في مختلف أبعادها السياسية، على أساس تفعيل المنهج الديمقراطي في مجالات تدبير الشأن العام على مستوى المجتمع والسلطة، ووسيلة للبت في قضايا الخلاف بما يحقق للمجتمعات والأوطان التقدم على درب التحرر والانسجام الاجتماعي والوطني على قاعدة الانتماء إلى الشعب أو الأمة بمعناهما الجدلي الغني لا الاختزالي العقيم بالتعريف. ويمكن هنا استحضار تجربة عملية في التاريخ الحديث والتي ما تزال دروسها وعبرها مصدر إلهام لكل فكر ديمقراطي حديث على مختلف المستويات وخاصة بالنسبة للمسألة القومية والبناء الديمقراطي. فقد فشلت كل نظريات الصهر والتذويب القسري والهيمنة في المجال القومي كما هو حاصل في التجربة الشيوعية، في صيغتها التسلطية، رغم أن القيادات الماركسية السوفياتية الأولى كانت سباقة إلى الاعتراف بحق الشعوب في ممارسة حقها في تقرير المصير دون قيد أو شرط. كما تبين عجز المجتمعات القائمة على الاستبداد السياسي والهيمنة العقائدية والمذهبية في مواجهة مختلف مستجدات حياتها الاجتماعية الداخلية خاصة في فترات الأزمات التي تمر منها لهذا السبب أو ذاك. ويتجلى هذا العجز في سرعة التحول من واقع يبدو فيه التناغم والانسجام الاجتماعي والوطني هو السائد إلى واقع يمثل الذروة في الاحتقان والتوتر والمواجهات التي قد تتخذ أشكالا عنيفة تدفع المجتمع بأسره إلى نوع من أنواع الاقتتال الداخلي الذي يبدو للبعض غير مبرر في حين أنه يجد جذوره العميقة في طبيعة البناء الاجتماعي والتنظيم السياسي القائم على الغبن وعدم الإنصاف على مختلف المستويات. وقد أعطت التجربة العراقية دليلا واضحا على سيادة مثل هذا الواقع، كما أن الأحداث العنيفة التي عرفتها مصر بين الأقباط وبين بعض التيارات الإسلامية لا تزال شاهدة على مخاطر عدم الانكباب بجدية ومسؤولية على معالجة هذه الظاهرة، والحد من سلبيات ترك الحبل على غارب كل الأطراف لتتعاطى، كما يحلو لها، مع قضية بمستوى قضية التعايش الوطني التي تعود فيها المسؤولية الأساسية إلى الدولة بما تمثله من تكثيف لمصالح مختلف مكونات المجتمع. ولا نضيف شيئا جديدا إلى هذه اللوحة القاتمة باستحضار واقع الأزمة السياسية العميقة التي تعصف بسورية في الوقت الراهن على الرغم من تداخل عناصر عديدة في صنع واقعها، إذ منها ما هو سياسي داخلي، ومنها ما هو إقليمي ومنها ما هو دولي، ليس هنا مجال إسهاب القول فيه. وهذا هو ما يفرض طرح السؤال المركزي التالي: ما هي الأسس التي يمكن أن تبنى عليها الشراكة على المستوى الوطني؟ وفي سياق محاولة تقديم خطاطة أولية للجواب على السؤال، ينبغي التأكيد، أولا وقبل كل شيء، أن الشراكة تفترض توفر عدد من الشروط في أطرافها وفي مقدمتها: أولا، الندية بين هذه الأطراف. ثانيا، التوافق حول نظرة إلى المصالح في إطارها العام لاستيعاب المصالح الخصوصية. ثالثا، الحرص المتبادل على ضمان مصالح الوحدة الجغرافية السياسية الشاملة. رابعا، التوافق على الآليات الضامنة لتفعيل هذا التصور المشترك وحشد كل القوى اللازمة لتحقيق الغايات التكتيكية والإستراتيجية المنشودة. أولا، الندية موقف ومسؤولية إن الانطلاق من مفهوم الندية بين مختلف الحركات الاجتماعية أو القوميات يعني التعامل بالتزام خاص وبمسؤولية كبرى مع مسائل الخلاف على هذه المستويات من زاوية نظر ترمي إلى إقامة الشراكة بينها على أساس الاعتراف الصريح والواضح بهذه التباينات التي تؤسس لتباينات في المصالح الخاصة بكل مكون من مكونات الشراكة. أي الانطلاق من مشروعية الخلاف وضرورة التعاطي معه بما هو كذلك ودون إقامة أي تراتبية قبلية ومبدئية بينها خارج ما تتميز به من خاصيات سياسية واجتماعية وقومية في سياق احترام الخصوصيات الذي يشجع البحث على إدماجها في إطار العيش المشترك أو الشراكة السياسية على التركيز على الندية بينها باعتبارها شرط كل شراكة حقيقية. وهذا الالتزام يعني بناء الموقف من الحركات الاجتماعية والسياسية والقوميات على أساس هذا التصور للندية بينها ضمن فهم جدلي لمفهوم الندية والعلاقات المترتبة عنه في حدوده المنطقية والمادية في آن واحد، لأن البناء على ما دون هذا الأساس يجعل مفهوم الشراكة المعتمد مبتورا ومنقوصا. والحال، أن مسألة الشراكة تنزع نحو الكمال في ارتباطها مع مفهوم الندية، بهذا المعنى الشامل، أو إنها تنحدر، على عكس ذلك، إلى درك التهافت والتخبط في دوائر الإقصاء والتمييز والعنصرية المضمرة أو المعلنة كما هو شأن عدد من التيارات السياسية في العالم العربي التي جعلت من هيمنتها على المشهد السياسي شرط الاعتراف بغيرها من القوى التي ليس أمامها من خيار غير الدوران في فلك تلك القوى، وكما هو الأمر بالنسبة لعدد من التيارات الفكرية والسياسية الأوروبية الراهنة التي تجعل شعار الهوية القومية والوطنية مدخلها إلى حرمان ما عداها من حقوقها على هذا المستوى أو ذاك، الأمر الذي يعرض المجتمعات التي تنتمي إليها إلى هزات سياسية وقومية غير محسوبة النتائج. وهذه المسؤولية تقتضي العمل مع الجميع من أجل تحقيق الغايات المتوخاة من الاجتماع البشري، وفي مقدمتها استمرار هذا الاجتماع وتطويره وتمتين الروابط بين مكوناته، والندية هي التي تلعب دور اللاحم لتلك العلاقات في نهاية المطاف. إنها تلعب هنا دورا شبيها بدور الإيديولوجية التي تعتبر "اسمنت" المجتمع على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي لوي الثوسير. وتشكل الندية، من جهة أخرى، الأرضية العامة للرؤية وتصور المصالح، ذلك أن الاشتراك في المواقع يؤدي حتما إلى رؤية المصالح العليا المشتركة بطرق متشابهة بين مكونات المجتمع الرئيسية مما لا يغرق في دوامة المصالح الضيقة الآنية، لهذا الطرف أو ذاك، لأنه يؤدي إلى العصف بما هو مشترك لفائدة ما يدعو إلى التلاغي والتناحر الدائم الأمر الذي يعتبر بمثابة البذرة الأساسية للانشقاق والانشطار على جميع المستويات. ثانيا، في سبيل تصور عام للمصالح المشتركة لا يمكن تكوين تصور عام للمصالح المشتركة دون إدراك الروابط الحميمة بين تجارب الأمم والشعوب، ووحدة مصيرها التي ينبغي أن تحظى بالأولوية القصوى عند تشخيص الأوضاع العامة والتفكير في بناء المستقبل ومواجهة تحدياته المختلفة. إن التشخيص المشترك للأوضاع يلعب دورا حيويا في تكوين تصور عام مشترك للمصالح وتداخلها عندما ينطلق من فكرة التوازن بين المصالح والبحث عن القواسم المشتركة بين السياسات والأهداف بما يمكن من استمرار العيش المشترك داخل المجتمع الواحد أو الإقليم الواحد بغض النظر عن تنوعه القومي وتعدد طيفه الفكري والسياسي والاجتماعي وحساسياته الإيديولوجية. وغالبا ما يتم تضمين هذا التشخيص وبكيفية مكثفة في الوثائق المؤسسة لهوية المجتمع المعني والنصوص الدستورية التي تترجم طبيعة التعاقد بين مكونات المجتمع والدولة. وبهذا المعنى، فإن طبيعة هذه الوثائق الأساسية والمؤسسة هي التي تدل على نوع العلاقات التي تسود هذا المجتمع أو ذاك، كما تكشف عن العلاقة بين الحاكمين والمحكومين وطرق تدبير الخلافات الواقعية أو الممكنة بين مختلف العناصر المكونة للمجتمع. وكلما كانت تلك الوثائق أمينة في رصد محددات الواقع، ونفذت إلى ما يمكن اعتباره روح الشعب أو الأمة، كلما كانت قادرة على تحديد التخوم بين المصالح الفردية والجماعية، وما لا الوثائق أمينة في رصد محددات الواقع، ونفذت إلى ما يمكن اعتباره روح الشعب أو الأمة، كلما كانت قادرة على تحديد التخوم بين المصالح الفردية والجماعية، وما لا يمكن تصوره منها إلا باستحضار مجمل المصالح التي يؤدي عدم المحافظة عليها والدفاع عنها إلى انفراط عقد الاجتماع الوطني والقومي. وبطبيعة الحال، فإن التغافل عن هذا الشرط لا يكون سببا في هشاشة أوضاع الاجتماع البشري للوطن الواحد فحسب، بل يعتبر السبب في تفكك عرى وروابط المكونات الأساسية للإقليم المعني ويفتح الأبواب على مصراعيها أمام كل أسباب الاحتقان والتوتر وربما الحروب الساخنة، في مجمل المنطقة تحت ذرائع واهية، لا يمكن لها أن ترقى، في حد ذاتها، إلى تعليل تلك النزاعات والحروب؛ لأن منطلقها ومبدأها يعود إلى الخلل في تشخيص المصالح وتقدير طبيعة الخلافات التي لا ينبغي لها أن تعلو على المصالح المشتركة في كل الأحوال. وهذا يعني أنه لا يمكن النأي عن هذه التوترات إلا من خلال إعادة النظر في المنهج الأصلي الذي تحكم في تشخيص المصالح والتمييز بين ما هو خاص منها وما هو مشترك في عملية تنظر إلى المستقبل المشترك، وليس إلى مستقبل كل مكون بمعزل عن المكونات الأخرى أو في مواجهتها بهذا القدر أو ذاك من الحدة والعنف. ثالثا، شروط تحقيق مصالح الوحدة الجغرافية السياسية الشاملة وانطلاقا من المقدمة السابقة يمكن القول: إنه ليس بإمكان أي نظرة جزئية وتجزيئية للمصالح الوفاء بمقتضيات وضرورة تحقيق مصالح المجتمع ضمن دائرة جغرافية سياسية مترابطة بشبكة من العلاقات المباشرة وغير المباشرة منها، ما هو واضح، ومنها ما هو غير محدد المعالم، في كل المراحل التي تعرفها العناصر المكونة لتلك الدائرة في أزمنة التكامل والهدوء كما في فترات التنافر والتوتر التي تؤشر على الاضطراب في العلاقات بين تلك العناصر وضرورة إعادة التوازن إليها. إذ بدون تحقيق هذه الضرورة تنتفي مقومات التعايش على هذا المستوى في عملية تنابذ مزمنة بين تلك المكونات الأمر الذي يجعل عوامل الانفجار في تلك العلاقات هي السائدة. ولعل في مقدمة هذه الشروط ما يلي: أ_ النظر إلى هذه المصالح ضمن الأفق الجيوسياسي الأشمل للمنطقة أو الإقليم أو الفضاء الأكثر اتساعا لأن هذه الرؤية الشمولية تمكن الممارسة السياسية من إطار أرحب، وقادر على استيعاب مختلف التصورات المرتبطة بفكرة التحرر وتقرير المصير لمختلف مكونات الإقليم المعني، أي دون أن يكون تطبيق مبدأ تقرير المصير سببا في تفكيك وحدة الإقليم وتفتيت وحدته القومية أو الوطنية لشعب من الشعوب. ب _ إن ما هو جوهري في كل عملية تقرير للمصير هو إعلاء شأن الوحدة الوطنية للشعب أو القومية المعنية وتتويجها سياسيا بإقامة سلطة ذات سيادة كاملة غير منقوصة. وهذا يعني أن كل تأويل اختزالي وميكانيكي لهذا المفهوم يدمر أسس الوحدات القائمة ولا يضمن قيام وحدات جديدة حقيقية قابلة للحياة اعتمادا على مواردها وطاقاتها الكامنة، بل غالبا ما تكون عرضة لهزات قاتلة لأن طبيعتها الاصطناعية تحرمها من مقومات الصمود أمام اختبارات الصراعات الإقليمية والدولية وربما أيضا في وجه تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ج _ ومن الواضح أن شرط تقرير المصير ضمن هذا التصور رهن بمدى اعتماد المنهجية الديمقراطية على المستوى الداخلي لمكونات المنطقة لأن تماثل المقاربات في التعاطي مع قضايا البناء المجتمعي يذلل الكثير من العقبات التي تعترض إقامة علاقات متوازنة ضمن فضاء متنوع وأرحب. رابعا، آليات التنفيذ أو معركة الإنجاز عندما يحصل التوافق على مستوى التصور العام القائد للممارسة، ويتم الاتفاق حول طبيعة المهام المطروحة على جدول أعمال الإنجاز خلال مرحلة تاريخية بعينها، تطرح مسألة الإنجاز من زاوية الوسائل والآليات المعتمدة والتي يتم تحديدها انطلاقا من التقدير الذي يتم التوصل إليه بخصوص الموارد المادية والبشرية المتاحة إلى جانب الطاقات الكامنة التي يصبح العمل على تفجيرها أولوية الأولويات. والحديث عن الموارد يشمل كل ما هو متاح للمجتمع المعني من إمكانيات اقتصادية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية يمكن حشدها وتجنيدها والزج بها في معارك الإنجاز التي تم وضع خططها الأصلية على قاعدة تصور هذه الموارد والإمكانيات. أما الطاقات الكامنة فهي تشمل كل قيمة إضافية ممكنة لعملية الدخول في معركة الإنجاز، سواء في ذلك ما يتم إبداعه من خطط وأساليب لم تكن تدخل ضمن دائرة حسبان القوى المنخرطة في الممارسة عند انطلاقها لأنه كان مستحيلا عليها التكهن بإمكانها ضمن الشروط المتوفرة لها في ذلك الحين. وسواء في ذلك، أيضا، ما ينتج عن تراكم مكتسبات الممارسة الموضوعية والذاتية بفعل ديناميكيتها الخاصة، وتفاعلها مع العناصر المنخرطة في العملية السياسية، إسهاما في معركة الإنجاز، أو محاولة لعرقلة وصولها إلى غاياتها المنشودة. وينطبق هذا الأمر أيضا على الشرائح الاجتماعية والقوى التي كانت في البداية على هامش هذه العملية إلا أنها قررت الالتحاق بها في هذا المنعطف من منعطفاتها بفعل قوة الجذب والزخم الذي مثلته ودفع بأوسع الفئات إلى الانخراط في عملية الإنجاز. عود على بدء يمكن القول كخلاصة لما تقدم من تحليل إن الشراكة لا تكون حقيقية وفعلية إلا إذا توفرت لها شروط ضرورية منها بالأساس ما يلي: أولا، الندية في الأصل والمنطلق الوجودي بين أطرافها على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي. ثانيا، اعتماد مبدأ وحدة المصالح العليا وتوازنها بين الأطراف المكونة لها، وليست مصالح فردية خصوصية وذاتية وبالتالي، ليست محصلة موازين القوة بين الأطراف لأنها تؤدي بذلك، لا محالة، إلى الحيف والغبن وتخريب أسس الشراكة ذاتها. ثالثا، احتلال الأطراف المكونة لها مواقع متساوية فيها والحرية المتساوية في إبرام التحالفات أو المعاهدات أو فسخها عندما يدب إليها الخلل لهذا السبب أو ذاك. رابعا، وأخيرا، توفر بيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية طبيعية وملائمة لممارسة تضمن تحقيق المصالح العليا المتوازنة بين الأطراف وتحافظ على الندية الأصلية بينها. وبهذا الأسلوب المنهجي يمكن تحقيق نتائج هامة دفعة واحدة وفي مقدمتها: أ_ التطابق بين القول والفعل الذي كان غيابه من سمات الفكر السياسي العربي المعاصر. فكان لا بد من معالجة هذه المسألة وتجاوز هذا النقص الذي تسبب في اختلالات كبيرة في الممارسة وجعل الرأي العربي ينظر إلى الأقوال كما لو أنها المقابل التناقضي للأفعال التي غالبا ما تأتي مقطوعة الصلات مع ما يتم إعلانه في الخطاب السياسي المعتمد لدى الحركات السياسية والأنظمة على حد سواء. ب _ الملاءمة بين شروط الواقع الفعلية، وأسس النظرية ومبادئها دون تشويه لأي منهما بدعوى أن الأولوية هي للآخر، كما تمت معاينة ذلك في كثير من التجارب الشمولية والفاشية والديكتاتورية. فباسم ضرورة تحقيق الانسجام بين النظرية والواقع يتم اللجوء إلى الإنكار على المستوى الذهني لمعطيات الواقع التي لا تتلاءم مع مسبقات النظرية. وفي هذا السياق تم ارتكاب مجازر في حق الشعوب لإرضاء غرور النظرية وأصحابها، ولو أدى ذلك إلى إلغاء مقومات الواقع غير القابلة للإلغاء أصلا. وفي المقابل يتم باسم الواقع ومعطياته إنكار التفكير والنظرية لفائدة تجريبية عمياء لا تقل نتائجها خطورة على الموقف المقابل لأنها تجعل الممارسة تخبط خبط عشواء دونما موجه أو دليل مما يفتح المجال للمغامرات والفوضى بمختلف أشكالها.