ما الذي صِرْنا نراه؟ قل لي أيها الصائم ما الذي تراه في مراكش؟ حشدٌ في الأُفق، وعِقدٌ من أضواء المصابيح، وجامِعٌ وبَهْوٌ فسيحان مَفروشان بِبُسُطٍ وحصائِر، ورجالٌ ونساء وأطفال يجتازون رصيفاً يترنَّح بين صخبٍ طائشٍ وبين هُدوءٍ مؤقَّت. والموعدُ أيها الصائم موعدُ عِبادة وإنصات. تُغمض عينيك على إفطارٍ تنتفخ من لذَّته البطون، وتقبض بِكفِّك على لَبْدَتِكَ، كأنما تتهيأ أنت للإنصات، من جديد، أو يتهيَّأ لك الإنصات، لتُعيدا، مَعاً، نسجَ ذلك الخشوع الذي يهدأ له الحشد كلُّه لأزيدَ من ساعةٍ ونصف، فينتشرُ المصلُّون في أرض مراكش شوقاً إلى تجمعٍ هادئ ثان. ما رأيْنا إذ رأيْنا، ولكنَّ قلوبَنا رأت. رأينا حشداً هائلاً من المُصلِّين، ينسِلُون زرافاتٍ وَوِحْداناً من أزِقَّة ودروب المدينة القديمة، يمشون، في هدوءٍ، قدرَ ما تحتملُ سيقانُهم، مَوَلِّين ظهورَهم للَّهْوِ السَّمِجِ وللسَّهْوِ، رافعين قلوبَهم ابتهالاً إلى التَّرتيل الشَّجِيِّ الذي ملأ أركانَ الجامع الفسيح بالأمس رهبةً وخنوعاً. يتحولون بغتةً إلى طابور يجتازُ، من غير تدافُعٍ، رصيفاً تتوقَّف عند جانبيْه العرباتُ والسيَّارات والدَّرَّاجات، هادرةً، إلى أن يَمُرَّ جزءٌ من ذلك الطابور. أَلْمَحُ نفسي وسط ذاك الحشد أزحفُ بِمحاذاة البهو المَفروش لألِجَ الجامع، مُخَوِّلاً من إيماني لِغَيْرِي أن يَمُرَّ قبلي، فألتَقِطَ الأجْرَ. تلك هي بداية التأهُّب لصلاة العشاء والتَّراويح في جامع الكتبيِّين، في مراكش؛ بداية دَعَتْنِي إلى إبطاء خطوي لأَمْلأَ ذاكرتي بِتأمُّل مَدْفَنِ زهراء الكُوشْ، المتبقِّية حيطانُه البيضاء، دون بُوَيْبٍ أو نافذة، عن حَيِّ الكُتْبِيِّين الزَّائِلِ بعد زوال زهراءَ التي قَضَتْ في عام عشرة وسِتِّمِائَةٍ وأَلْفٍ للميلاد. لكنَّ التَّأمُّلَ الذي ظننتُه خاصّاً بي تسلَّلَ إلى غيري مِمَّنْ وقفوا في الباحة الواسعة جدّاً، والتي أقبلت، في تلك اللحظة هي والجامع، رويْداً رويداً، على مَلْءٍ بالمُصلِّين لَمْ يَعْهَداهُ. فالمصلُّون -المحافظون على صلواتِهم والسَّاهون- الذين باتوا يُقبلون على صلاة العشاء والتراويح، يتزايدون ليلةً بعد أُخرى، تبعاً لِتفشِّي خبر التَّلذُّذ بالتَّرتيل الشَّجِيِّ بينهم، لإمامٍ وديعٍ حَمَلَ بِصوته من الوَداعة والقُوة والعذوبة ما حمل. بِتُّ أزداد، في كل مساءٍ قُبَيْلَ وُلوجي للجامع، إمعاناً وتأمُّلاً في صومعة الكتبية إذ تبدو من أَسفَلِها، وهي تَرْقُبُ المُصلِّين والمُصَلِّيات، كأنَّها زوجٌ غيورٌ. واتسعتِ البداية، وازداد التَّأهُّبُ والإقبال على الصلاة. اتسعت كجامع الكتبية وبَهْوِهِ الخارجي الآوِيَيْنِ لحشود المصلِّين. وصِرْتُ أُطيل التأملَ في الصومعة، وفي علُوِّها وتَماسُكها، فبدت لي مُتفرِّدةً، دون باقي الصَّوامع في المغرب، بالعظمة والرَّصانة، وبالبهاء والبساطة، تماماً كَلُغَةِ ابْنِ تُومَرْتْ مؤسِّسِ عقيدة الموحِّدين، وما فيها من بلاغةٍ وصرامةٍ وإيجازٍ. أحسَّني انسيابُها في الأعلى بِزُهُوِّ بُناتِها الموحِّدين بِصِيتِهِمْ في الأرض شمالاً وشرقاً. واتَّسع الخشوع والإنصات، وكثُر دَفُّ النَّاس على جامع الكُتُبِيَّينَ وبَهْوِهِ، حتى ضاقا، معاً، بِمَنْ أَمُّوهُما. وقد لا ينتهي الأمرُ، بعد كُلِّ صلاةِ التَّراويح، فالمُصَلُّون يتحدَّثُون بعضُهم إلى بعضٍ، في إِيَّابِهِمْ، عَنِ الجَمال بِما يُشبه الهَمسَ، فيؤَثِّثون أحاديثَهُم بِمَلَكُوتِهمُ الأقربُ إلى السَّماء، مَلكوت من طلاوَةِ القرآن ومن عُذوبة صوت الإمام المُرَتِّلِ ومن إِقبال أَفرادٍ من أمَّة التَّثليث على التَّلفُّظ بالشَّهادتَيْنِ للانضمام إلى أُمَّةِ التَّوحيد، قبل أو عَقِبَ كُلِّ ركعتيْن بعد العشاء، فرحين، كأنَّهم يستبدلون الذي هو خيرٌ بالذي هو أدنَى. وملكوت من الإنصات التَّامِّ خلال التَّرتيل، كأنَّ الجامعَ والبهْوَ، معاً، قفْرَانِ إلاَّ مِنَ المصلِّين، المَزْهُوِّين بِعَددهِمُ الهائل خلف الإمام زُهُوَّ العاكِفين في المساجد، الخنوعين بِتَماهِيهِمْ مع عظمة الرَّبِّ المعبود. وكلُّهم، بعد أداء الصَّلاة، يحكي لأقارِبِه وأصدقائِه، وفي مَقدور حكْيِهِمُ الآسر أن يستنفِرَ مُصلِّين جدداً في اللَّيلة المُوالية. بدأْتُ أعي شيئاً جديداً لم يكن في الحُسبان، جميلاً ومنظَّماً. ذاكَ الجامعُ الموحِّدي الفسيح، الصَّامِدَةُ جُدرانُهُ وأساطينُه ومِحرابُهُ وميضَأَتُهُ وصومَعتُه ونوافذُه على مَدى تِسعة قُرونٍ. مَمْنوعٌ على أيٍّ مِنَ الحشد الهائل مِنَ المصلِّين أن يُخِلَّ بالنِّظام وهو يؤُمُّه؛ هذا أمرٌ لافتٌ، لأنَّ مسؤولاً سَابقاً من آلِ أَكَنْسُوسْ عَنِ الشَّأن الدِّيني في أوقاف مرَّاكش، وهو ابنُ المدينة وليس طارئاً عليها، قد لَمَسَ المسألةَ قبل غيرِه، فمهَّدَ السُّبُلَ المُيَسِّرَةَ لخِدْمَةِ واحتِواء ذلك التَّجمُع. والبُداةُ المُترقِّبون أبداً وعلى ألسِنَتِهم جُملٌ جاهزةٌ يتشدَّقون بها مُتَشَفِّين من أبسط تفريطٍ، وهم يُذَكِّرون بالعهد السَّابق، الذي كان فيه الجامعُ قَفْراً في مِثلِ هذه المناسبات، قبل أن يُناطَ المسؤولُ نفسُه بِمَهامِّه، بدءُوا، هُمْ بِدَوْرِهم، يَفِدُون إلى الكتبيَّة لِتَنْفَرِجَ أساريرُهم وسط توحُّد وِجْدَان الحشد الهائِلِ، ووسط الإنصات لعذوبة التَّرتيل الوفِيِّ للدِّقَّة في مَخارِجِ الحُروف وأصول التَّجويد، ووسط سخاء الخَدمات، من سقايةٍ وأمنٍ وما إلى ذلك. هذا شرطٌ جديدٌ، فَلْيَكُنْ كُلُّ جامِعٍ وبَهْوُهُ مَلِيئيْن إذاً، امتلاءً أكثرَ مِمَّا ينبغي تجاهَ مِثْلِ هذا الاقتحام الوَرِعِ الخاشِعِ.