وأنا أمر بشارع محمد الخامس في الرباط في الأيام القليلة الماضية، إذ بي أشاهد قبالة البرلمان مجموعة من المعطلين في حالة اضطراب وهيجان جراء تدخل عنيف بحقهم من طرف الأجهزة الأمنية. ومع حالة الهرج والمرج التي سادت المكان، كان طبيعيا أن يلفت هذا انتباه المارة، لكن اهتمام الغالبية منهم بما يجري بدا خاليا من أي حس تضامني مع المتظاهرين الذين كانت تكسر أضلعهم وتهشم رؤوسهم أمام أعينهم، بل إن بعضهم تعامل مع هذا الأمر كأنه مشهد هزلي، حيث كانت بعض الفتيات يضحكن بصوت مرتفع كأنهن يتابعن فيلما كوميديا، مما جعلني أتساءل عن المتعة التي يجدها البعض منا في التلذذ بآلام الآخرين، وعن طبيعة هذه السلوكات المرضية ومنبعها. لم يكن مشهد الرباط هذا عابرا ولا معزولا، فهو امتداد لعدد كبير من الشواهد التي تؤكد هذا المعنى وتعضده، فيكفي أن يكلف أي شخص نفسه حضور أية فعالية نضالية كيفما كان نوعها ومراقبة الهوامش، ليتابع رد فعل الناس الذي بلا شك سيجده متقاربا ومتشابها إلى حد كبير. كما يمكن رصد هذا الأمر أيضا في كثير من التعليقات الشامتة والمتشفية في المواقع والمنتديات الإخبارية أو مواقع التواصل الاجتماعي على الساحة العنكبوتية، ناهيك عن المقاهي وما يروج فيها من نميمة. . لا غرابة في ذلك، فالمغاربة الذين رباهم المخزن منذ نعومة أظافرهم بالمهرجانات والمواسم جبلوا على الفرجة، وهذا ما جعل أغلب الفعاليات النضالية تحظى بمشاهدة عالية من على الرصيف، حيث كان عدد المتفرجين يفوق في كثير من الأحيان عدد المحتجين رغم أن كثيرا من المطالب المرفوعة تعنيهم هم أيضا. كما اعتاد المغاربة على السخرية من مآسي بعضهم خصوصا مع ما رسخه المخزن في أذهانهم بسياساته، وهذا ما يظهر بشكل واضح في الأعمال الهزلية أو برامج الكاميرا الخفية التي يعرضها التلفزيون الرسمي والتي يتفاعل معها قطاع واسع من الشعب المغربي ويتفنن فيها المنشطون في التلاعب بمشاعر الناس وامتهان كرامتهم، مما جعل المغاربة يتطبعون مع واقع الاستهزاء بهم ويعتادون على احتقار الذات. لقد أصبح المغاربة تبعا لذلك ينظرون لبعضهم البعض بعدائية غير مبررة، وهو ما يمكن لمسه في كثير من المواقف، لا سيما حين تصر بعض الفئات على المطالبة بحقوقها المهضومة ورفع الحيف عنها، حيث تتعرض لحملات تشهير واسعة ليس فقط من المنتفعين من الكعكة المخزنية بل حتى ممن لا ناقة لهم ولا جمل من عامة المواطنين الذين تكون ألسنتهم عليهم أسلط كأنهم سيدفعون شيئا من جيوبهم، لأن كل من يطالب بحقه في الوعي الشعبي هو شخص لا يحمد الله ويجحد نعمة المخزن عليه، فهو الذي تكرم عليه بالأمن والاستقرار والمأوى والغذاء والصحة والعافية ولولا الحياء لنسبوا له حتى الهواء الذي نتنفسه. للأسف ما زالت فئات واسعة من الشعب المغربي تتصرف بعقلية العبيد الذين يظلون ممتنين لسيدهم وإن جوعهم أو نهب أموالهم أو ألهب ظهورهم بالسياط وإن سامهم سوء العذاب فلا حق لهم إلا ما يجود به السيد، لأنهم غير مستوعبين معنى أنهم مواطنون وأن المسؤول هو مجرد خادم لهم وليس سيدا عليهم أو معبودا. ولأنهم كذلك فهم يكرهون أن يتحرر من يماثلهم من ربقة العبودية، وبدل السعي لتغيير واقعهم يتمنون بقاء الآخرين في نفس وضعهم عملا بمقولة إذا عمت هانت. لا فرق هنا بين النخبة وعامة المواطنين فكلاهما في الهم سواء، فقد أثبتت جل النخب أنها أسوء من شعبها، حيث كانت دائما لا ترى مصالحها إلا في الولاء للمخزن، لأنه في نظرها منزه عن أي ظلم أو فساد وأن كل ما يعاني منه المغاربة ناجم عن تصرفاتهم وعن جهلهم وأميتهم وكأن المخزن ليس له أي يد في كل ذلك، مما يساهم في تيه المغاربة وفقدانهم للبوصلة ويجعلهم يخوضون معارك جانبية لا تمس بجوهر الاستبداد، فأقصى ما يمكن فعله هو انتقاد الحكومات الصورية أو تفريغ جام غضبهم على المجتمع، الشيء الذي يؤدي إلى انقسامه وإضعافه. لكن ما يدعو إلى الاستغراب أكثر هو تلك الازدواجية التي يعيشها المواطن المغربي، فأغلب المغاربة يتفاعلون مع قضايا الأمة بشكل إيجابي وتجدهم في طليعة المتضامنين مع القضية الفلسطينية أو الثورة السورية أو غيرهما، لكن حين يتعلق الأمر بالمغرب يجِدُّون في البحث عن الأعذار والمبررات كي لا ينخرطوا في أي تحرك ويبخلون حتى بالتضامن القلبي مع من كسر حاجز الخوف منهم، فيرفضون ما كانوا يمجدونه لدى شعوب أخرى، وحتى يبرروا تخاذلهم يقومون بالطعن في أي احتجاج والمزايدة على القائمين عليه، فالبوعزيزي في نظرهم شهيد وعبد الوهاب زيدون منتحر وهو في النار خالدا فيها حتى لو لم يقصد الانتحار، وكذا غيره من الذين أحرقوا أنفسهم الذين لم يحظوا بذرة تعاطف في هذا المجتمع القاسي، احتراما لرهبة الموت على الأقل، فكلنا ضد أسلوب إحراق الذات أو التهديد به، وضد تجزيء المطالب، لكن هذا لا يبرر التعامل مع المحتجين بتلك السادية الرهيبة. باتت هاته الفئات الشعبية المتطوعة للحديث بالنيابة عن النظام المخزني بمثابة طابور خامس تطعن من الخلف أبنائها، مما أعفى المخزن من المواجهة الإعلامية المباشرة مع الشعب خصوصا مع مستوى سياسييه البائس. فإذا طالب بعض الشباب المتواضع معرفيا بحقه في الشغل يتعرض للسخرية والاستهزاء، ولسان حال المتهكمين به يقول كيف تجرؤ على المطالبة بالعمل وأنت مجرد إنسان أمي أو تكوينك الدراسي هزيل، رغم أن دستورهم الحداثي يضمن له ذلك الحق بصرف النظر عن مستواه. وإذا احتج حملة الشهادات العليا ينبري لهم هؤلاء بكيل الاتهامات المجانية بدعوى أن المعطلين مجرد غشاشين وأن مستواهم لا يتوافق مع الشهادة التي حصلوا عليها، وكأن علية القوم الذين يسيرون دفة البلاد بمستوى حكم بلد بحجم المغرب، فالمسألة تناسبية ما دام المسؤولون على درجة كبيرة من الانحطاط المعرفي فلا ملام ولا عتاب على غيرهم من بقية أبناء الشعب المغربي. أما رجال التعليم فلا يحلو النقد إلا لهم، فكلماقامت مجموعة منهم للدفاع عن بعض حقوقها المهدورة تتلقى وابلا من الشتائم مع أن رجال التعليم ليسوا سواء منهم المستفيدون وأغلبهم لا يحصدون إلا المر من مهنتم. كما أن ما شهدته المدن المغربية من انتفاضات، كان محدودا ولم يتجاوز بعض الأحياء حيث فشلت في التمدد في ذات المدينة فضلا عن باقي المدن، فرغم أن تلك الأحياء كانت تحاصر وينكل بساكنتها كان الناس في بقية المناطق يبحثون عن المبررات لعدم التضامن والنصرة. وهكذا لا تترك أي فئة لحالها، فكل من رفع صوته مبرزا مظلوميته أصبح متهما. لكن غير المفهوم هو انخراط بعض المجموعات المناضلة نفسها في هذا الأمر، فمع سياسات النظام المخزني الفاشلة في تدبير شؤون البلاد، تم خلق حالة من التفاوت في الحقوق بين أبناء الشريحة الواحدة، فنمى الإحساس بالحسد والغيرة لدى البعض، وبدل أن يتوجه ما تولد من عداء لمن خلق تلك الفروق البسيطة ولمن ينهب خيرات المغرب نهبا يوجه للتطاحن الداخلي. وطبعا هذا صادف هوى مخزنيا فتمادى في تكريسه حتى كثرت المجموعات والهيئات والتنسيقيات، مما ساهم في تمييع النضال وخلق طبقة غريبة من المناضلين الذين يطالبون بحقوقهم الفئوية ويغتنمون أي فرصة لاقتناص امتيازات فئوية ولو على حساب باقي فئات الشعب المغربي متناسين أن النضال والانتهازية لا يجتمعان في قلب المناضل المبدئي. لعل الوضع الفريد الذي يعيشه المغرب هو الاستثناء الحقيقي، إذ أن الانقسامات التي تعرفها في العادة الشعوب تكون ذات أبعاد طائفية أو عرقية أو عشائرية، فيكون ذلك من أبرز موانع التغيير، لأن الطغاة يعزفون على هذا الوتر لتثبيت حكمهم. أما في الحالة المغربية فلا وجود لكل هذا، فالشعب المغربي موحد وحتى ما يبدو على أنه اختلافات ثقافية أو مناطقية لا يلغي أن المغاربة يفكرون بكيفية واحدة خصوصا فيما يخص علاقتهم بالمخزن، بدليل يوم 20 فبراير وما بعده، حيث أتيح لنا استكشاف جوانب كثيرة من المجتمع المغربي، فكل الأحداث التي عرفتها مختلف المناطق المغربية كانت متشابهة، حيث غطت احتجاجات حركة 20 فبراير المغرب بأكمله، كما أن انتفاضات الأحياء التي شهدتها بعض المدن لم تخضع لأي منطق جغرافي، حتى أن نفس الشعارات تقريبا كانت تتردد في كل مكان في المغرب، وكذلك المزاج الشعبي المتفاعل مع ما حدث لم يختلف كثيرا سواء بالنسبة لأولئك المنخرطين في الحراك أو الرافضين له المستميتين في الدفاع عن معبودهم المخزني، أو المنتظرين ممن يتشوقون للتغيير دون أن يبذلوا أي تضحيات في سبيله ويكتفون فقط بمراقبة مواكب المتظاهرين من شرفات المقاهي والتصدق عليهم أحيانا بِشارة النصر. لكن رغم تلك الوحدة الظاهرة، تمكن النظام المخزني من خلق انقسامات في بنية المجتمع ذات أبعاد مصلحية. وهكذا ففي اللحظة الحاسمة التي كان ينبغي فيها القضاء على الفساد والاستبداد، وبعدما أزاحت عدد من الشعوب طغاتها، تقوقعت أعداد من " المناضلين" في المغرب حول فئاتها وحول مطالبها الخبزية وتنكرت للعزة والكرامة والحرية، مما شرذم الحراك المغربي وضعفه، وأعطى النظام المغربي فرصة لالتقاط الأنفاس وسهل عليه عملية الالتفاف على ما كان سيكون ربيعا مغربيا، لتعود كل تلك المجموعات بخفي حنين بعدما خدعها المخزن، لأنها ضيقت واسعا فجنت على نفسها وعلى الشعب المغربي. لسنا هنا بصدد التعريض بالشعب المغربي أو الحكم عليه بالهلاك، ما يعنينا هو محاولة الإجابة عن أسباب تعثر مسار التغيير، رغم أن الساحة المغربية تعج بمئات الآلاف من المناضلين الأحرار وفيهم من يحظى بقواعد اجتماعية كبيرة، لكن كل هذا غير كاف لإحداث واقع جديد يسود فيه العدل والكرامة والحرية خصوصا مع عدو يملك خبرات قرون. فليست الأعداد فقط هي من تحسم الصراع مع أي نظام استبدادي بل يظل للمزاج الشعبي العام الدور الحاسم في ذلك، فحين يحس أي طاغية بأن من كان يحسبهم معه من عامة الناس من الذين كانوا يهتفون له ويزكون كل خطواته، قد أداروا ظهرهم له حتى لو لم يشاركوا في فعاليات المعارضة، يضطر للاستجابة لمطالب شعبه. وهذا بالضبط ما حدث في تونس ومصر، فليس صحيحا ما يروج له البعض من أن بنعلي ومبارك هما أقل دموية وإجراما من بشار والقذافي اللذان كانا يستندان لقوى شعبية ظلت وفية لهما، فالأول ما زالت جل الطوائف من غير السنة معه، والآخر كان يعتمد على الإسناد العشائري والمناطقي لبقاء نظامه، رغم أن المعارضة السورية مثلا حشدت أضعاف ما خرج في تونس إلا أن التغيير في سوريا ظل عالقا لحد الساعة، بخلاف ما حدث في تونس ومصر حيث استطاعت المعارضة أن تتوحد وأن تستقطب كل فئات الشعب حتى لم يدعوا لبنعلي ومبارك أي مجال للمناورة. لذلك ومن أجل خلاص جماعي للمغاربة، وإذا كانوا فعلا جادين في إحداث ربيع حقيقي في بلدهم، فلا حل لهم إلا بالترفع عن مطالبهم الجزئية وعن أنانيتهم التي أوصلت الجميع إلى أبواب موصدة، لأن كرامة الشعب المغربي مقدمة على أي مطلب خبزي.