مع كل استحقاق دولي أو قاري يعود النقاش الدائر حول كرة القدم وحول المساحة التي تحتلها في وعي الشعوب لا سيما المتخلفة منها التي ترزح تحت نيران لهيب الأسعار والبطالة المستشرية وقمع الأصوات الحرة فيها، والتي زادت حدتها مع تداعيات كورونا ومع الحرب الأوكرانية الروسية، مما أنعش السلطوية وأدى إلى انزواء الطموح التغييري حتى إشعار آخر، كل هذا في الوقت الذي لم يتراجع فيه شغف الناس بالكرة وبملاعبها والتي شهدت اهتماما قياسيا في المونديال الحالي على حساب قضاياهم المصيرية، مما قد يؤدي في نظر الكثيرين إلى تعطيل أية يقظة شعبية محتملة. مفعول السحر لم تتمكن لعبة في التاريخ من أن تستقطب هذا الكم الهائل من المتابعين والمعجبين بها التي قد تؤدي ممارستها أو حتى متابعة مبارياتها من بعيد إلى متعة استثنائية يغيب معها التفكير فيما سواها، الشيء الذي جعلها محط اهتمام الجميع أفرادا وجماعات، ذلك أن البشرية لم تتوحد على شيء قدر توحدها على التعلق بهاته الرياضة، فحتى الأطراف التي اتخذت مواقف سلبية منها في أوقات سابقة لم تستطع أن تمنعها حين وصلت إلى مراكز النفوذ والتي اضطرت إلى تصحيح تلك المواقف بعد ذلك. الغلبة للأقوى تلك الشعبية الاستثنائية حولتها إلى ساحة غير معلنة للصراع وإلى تصريف مختلف النزاعات فيها، حيث تأسست أندية على اعتبارت مناطقية أو عرقية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى إيديولوجية، فبالإضافة إلى الأندية التي كانت تمثل المدن فقد خُصِّصَتْ أندية وظيفية للعسكر وللأمن وللعمال وموظفي الشركات، ناهيك عن الفرق التي كانت تتشكل داخل المدينة الواحدة على أسس طبقية، وقد عملت أنظمة سياسية مختلفة على الدفع بفريقها الكروي كأنه وحدة عسكرية والتغني بأمجاده كأنها انتصارات حربية. لكن دخول رأس المال على الخط في زمن العولمة قد قلص من نفوذ المعايير السابقة، حيث جعل القيمة السائدة هي المال وجعل فئات كبيرة من الجمهور مجرد تابعة يسهل تحوير اهتماماتها والتأثير على ميولاتها الكروية. المقاومة تتصاعد خلافا للاعتقاد السائد لدى مناهضي متابعة الكرة من أن جمهورها مخدر بكليته، فإن استغلال الكرة يواجه بمقاومة تتصاعد من داخل جمهورها الرياضي الذي طور احتجاجاته من رفض كواليس وتلاعبات المؤسسات الكروية (الفيفا، الاتحادات القارية، الاتحادات الوطنية…) إلى التذمر من مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية، ولا نبالغ إن قلنا أن ألتراس النوادي قد حرر المدرجات من ظاهرة التشبيح الرياضي، وهو ما كلفه صدامات لا تنتهي مع الأجهزة القمعية. حتى أن ظاهرة الألتراس قد ألهمت حركات احتجاجية عديدة فأصبحت تحاكي أساليبها التعبوية وتستخدم شعاراتها وأهازيجها مثل "في بلادي ظلموني"، "رجاوي فلسطيني"، ومنها من شارك بشكل مباشر في الاحتجاج السياسي مثل ألتراس أهلاوي ودوره في ثورة 25 يناير لم يعد يخفى على أحد. الكرة في خدمة السلطوية الصورة تكاد تختلف في موضوع المنتخبات الوطنية، فما زالت السلطوية قادرة على استثمار كرة القدم لصالح دعايتها الفجة والتي تتدثر برداء الشعوبية والعزف على أوتار الوطنية كما تُعَرِّفُها هي لا كما يجب أن تكون، حيث تعمل على تجيير الانتصارات الكروية لصالحها وعلى التعتيم على الواقع القاتم لبلدانها الذي تتذيل فيه قوائم التنمية البشرية والبحث العلمي، كما تحرص على تلميع مسؤوليها الذين يتركون مسؤولياتهم ويلتصقون باللاعبين في معسكراتهم في سياحة مؤدى عنها من أموال دافعي الضرائب، وذلك حتى يوهموا شعوبهم أنهم هم من جلب الإنجاز الرياضي، مع العلم أن جل أولئك اللاعبين من خريجي مدارس تكوينية أوروبية ولا فضل للسياسة الكروية الرسمية في تكوينهم وفي صقل موهبتهم. لقد تحولت كرة القدم إلى ملهاة حقيقية حين يتعلق الأمر بالمنتخبات، ذلك أن جمهور المنتخبات يختلف عن جمهور الأندية، فهو خليط من الناس والكثير منه موسمي ومتطفل على مجال التشجيع الرياضي، مما يسهل تضليله وتهييجه بوطنية على مقاس من يحكمه، كما أن مؤطريه مدعومون على أعلى مستوى عكس جماهير الفرق الأصيلة التي تضحي من أجل فرقها والتي أصبحت خبيرة بمناورات المسؤولين. عولمة الكرة كذلك الحال أمام الظواهر التي فرضتها العولمة حين استنفرت كل وسائلها من أجل صناعة الولاء لأندية بعينها، فأصبحنا نشهد تمييعا للانتماء بالارتباط بالفرق التي تفوز دائما والتي تحتكر الألقاب دون أدنى رابط منطقي بينها وبين المشجعين الجدد الذين يتماهون معها، والطريف أنهم يتفاعلون أحيانا مع شعارات الجمهور الأصلي العنصرية التي تستهدفهم هم أيضا كأنهم غير معنيين بها. جنون الكرة .. وجهان لعملة واحدة كرة القدم لعبة محايدة تتأثر بالواقع الذي يتغير باستمرار، وما يجري في أوساطها ليس إلا انعكاسا للتدافع خارجها، ومن الخطإ تحميلها وزر سلوكيات مجتمعية سلبية كالتعصب أو الإدمان والتعلق المرضي بها؛ والأولى معالجة ذلك التهييج الذي يجعل من ملاعب الكرة ساحة حرب عبر إشاعة التسامح في غيرها من الساحات المجتمعية، والأولى أيضا أن نفهم أن جنون الكرة ناجم عن الفراغ المادي بفعل البطالة وكذا الفراغ القيمي، فكلما انشغل الناس إلا وتقلص الاهتمام بمتابعة المقابلات الرياضية وعاد إلى مستوياته الطبيعية. الواقع أن جنون الكرة يقابل بجنون مقابل لا يقل سوءا عنه والذي يكتفي بالتشويش السلبي وتسفيه المتابعين لهذه الرياضة، والذي يريد من جمهور الكرة أن يتزعم الاحتجاج على السلطويات في وقت خنس فيه هو وخنست فيه جل التيارات السياسية والثقافية والمجتمعية وسلمت بسطوتها عليها، وفي الوقت الذي يصعد فيه الغرب من استغلاله البشع لشعبية الكرة عبر تمرير رسائله السياسية وعبر إشاعة ظواهر أخلاقية منحرفة من خلالها. ولو لم يكن من مبرر لمتابعة كرة القدم غير مواجهته هذه الموجة وغير مواجهة خطاب الوطنية الزائف الذي توظفه الأنظمة الاستبدادية لكان ذلك كافيا، حيث تجد الساحة مفتوحة أمامها لإشاعته والذي يحتاج الوقوف ضده إلى التفاعل الإيجابي مع ما يجري داخل الملاعب، تماما كما تمكن ألتراس النوادي من فعل ذلك بدل تمني خسارة المنتخبات الوطنية الذي يزيد من العزلة المجتمعية دون أن يحقق شيئا في ميدان التغيير.