استقر الغلاء واتخذ مكانه في السوق المغربي وأصبح لا يثير حتى اهتمام المستهلكين كأنه كائن طبيعي ومعترف به ليكون في مجتمع يضعفه الفقر وتفككه الفاقة ويغرق في ظلمات الجهل ويعاني من المرض، حتى صار الغلاء اليوم بنية قائمة الذات في الاقتصاد المغربي، بل وتقاطرت عليه الاعترافات من كل جهة، وحيثما وليت وجهك تجده قائما عاري الوجه ويتحدى الجميع، وهذه الوضعية لا يمكن تجاهلها ، لأنها صارت لصيقة بذواتنا وأذهاننا وعبر كل منعطفات الحياة، ولكن هذا الغلاء لم يولد من فراغ، بل وجد مصدر انتعاشه وتغوله وانتشاره ليشمل كل السلع، وجده في السياسة هذه الحكومية القائمة وغيرها، وتزايد بشكل تصاعدي ليتحدى كل التوقعات، وهو ثقل يرهق كل الذين يعملون بسواعدهم كما الذين يستخدمون أذهانهم، باستثناء ، طبعا أولئك الذين لهم نصيب في هذا الغلاء وأصلا ،هم لا يعرفون ما يجري في الأسواق، لأن كل احتياجاتهم وغير احتياجاتهم يجدونها لديهم ولا يتعبون أنفسهم لمعرفة كم هي تكلفتها ولا حتى من الشخص الذي اوصلها للإقامة الفخمة "التي يتحرك فيها الخيل" فهذا الغلاء جاء مبعوثا من جهة الحكومات التي لا تسعى لتحسين حياة المواطنين ولا الى التخفيف من معاناتهم خاصة الطبقة الكادحة والمتوسطة التي هي أيضا وصلها "الصهد"، أي حرارة الغلاء، تلك الطبقة المتوسطة التي طالما كان الاقتصاديون يعولون عليها في دفع عجلة الاستهلاك وتحريك قطاعات اقتصادية مهمة. إلا أنها مع نار الغلاء احترقت جيوب تلك الفئة التي كان ينظر اليها أنها تقترب من الطبقة البرجوازية نظرا لمظهرها النظيف لإقدامها على الاعتناء بالملبس ويطلق عليها الفرنسيون "عمال ذو الياقات البيضاء " هذا السلوك ونمط العيش يبدو عند العامة أنه نوع من الترف والتميز الاجتماعي والاقتصادي والفكري ، ولو انه قد يكون ضروريا بالنسبة لمثل هذه الفئة التي لها تطلعات اجتماعية واقتصادية فوقية، ولم لا قد تكون برجوازية، وأيضا وانتهازية ووصولية، وفي اخف تقدير قد تكون نخبوية، لأن هذه الطبقة في الغالب لها مثل تلك التطلعات للفوق، إذ غالبا ما نراها لا تساهم في الاحتجاجات والانتفاضات الاجتماعية للمطالبة بحقوق الطبقات الكادحة، إلا مع بعض الاستثناءات لولائك الذين تشبعوا بالفكر اليساري ولهم مبادئ شمولية وإنسانية للتغيير وليست مواقع اجتماعية وثقافية طبقية. فها هو الغلاء أصبح جزئا من البنية السياسة الاقتصادية، وهو ما شجع الحكومات على نهج هذا الطريق هو كون السياسة العامة المتبعة في بلادنا تزوجت بأصحاب رؤوس الأموال زواجا كاثوليكيا، والكل يعرف ما هي فعلة الرأسمال والسياسة، هذه السياسة تصبح حبلى بالرأسمال، عوض المبادئ والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يمكنها أن تساهم في الخروج من الأزمات المتعددة التي تغرق فيه الأوطان.لكن المال. لما يتربع على كرسي السياسية يصيبها بالحول الحاد بل يعميها مع الزمن السياسي ومروره عن أخذ أي مبادرة دون اعتبار الربح، والربح السريع من خلال تطويع الفعل السياسي والتحكم في آلياته لنيل المزيد من المال لتستفيد منه الفئة المستثمرة في السياسية لتحمي مصالحها ولتنتج محصولا ماليا غالبا ما يرحل من البلد ليودع في صناديق الإيداعات البنكية في سويسرا وامريكا ،والمال لما يوصل مالكيه للمسؤولية السياسية تتقوى لديهم السلطة وتشتد قبضتهم على البلد بأسره ويسلم لهم مفتاح القرارات كلها ، وبذلك تفتح أعينهم على التحالفات الخارجية ولن تجد إلا أصحاب المال العابر للقارات وتتشابك بينهم المصالح وتتكاثر المشاريع المشتركة ، التي طبعا تقوم على تبادل الخبرات في كيفية وطرق الهيمنة على كل من يعرض سياسته التي وضعت يدها في يد رأس المال .. ولن يكون لمثل هؤلاء أي وخز للضمير ولا تأنيب النفس عما يفعلون …. لأن من يعبد المال، الذي لا رائحة له، لن يلقي النظر في وجه اليتيم ولا الفقير بقدر ما يحسب حسابه كيف يجعله يصرف ذلك الكادح، الدريهمات المتبقية لديه في مشروع ذاك الرأسمالي الجشع. لذا وجب وضع السياسة في معزل عن هؤلاء الذين يركبونها لغرض في نفوسهم ولا علاقة بذلك بخدمة الشأن العام. نعم قد يبدو الأمر قاسيا، ولكنه مع الأسف كذلك، في مغرب ألبس سياسة لا شعبية سياسة لا تضع في الحسبان ولا في ميزان قراراتها السؤال العريض : كيف يعيش أغلب المواطنين؟ فلنبتعد ولو لبرهة عما تقوله وسائل الإعلام الرسمية والمتزلفين الذين يثقبون طبلة آذاننا بمفهوم الدولة الاجتماعية وبفصول الدستور الذي مازالت أغلب فصوله – على تقدمها – دون تطبيق فعلي على الأرض ، ولنتساءل عن أين هي الدولة الاجتماعية الي يتحدثون عنها؟، فالحال كما هو بل زاد ضغطه على المجتمع بأكمله، حال يعود بنا لزمن التراجع في كل شيء، إلا الغلاء وحده الذي وجد السبيل مناسبا من خلال القرارات السياسية، ليصعد دون توقف، اما المواطن ومكانته وحياته وكرامته وحريته في القرار السياسي فهي في انحدار سريع ، وهذا مؤشر خطير وجب على الساهرين على السلم الاجتماعي التدخل بسرعة. علينا إذن أن نتساءل من أين جاء الغلاء؟ إنه ببساطة من الفعل السياسي المطبق علينا من قبل الحكومة المغربية، كيف ذلك؟ لو تحكمت مراكز القرار السياسي في السلسلة الإنتاجية والتسويقية وقضت على الوسطاء والمحتكرين و"الشناقة" والمضاربين والمتحكمين في العمليات التسويقية عبر الهواتف النقالة بحيث يتم التلاعب بالأسعار من مكان الى آخر، وفي نفس اللحظة تنتقل السلعة من مكان لأخر وينتقل الثمن من رقم الى آخر. فالمسألة ليست دولية ولا بسبب" كوفيد" ولا حرب أوكرانيا، ولا بسبب مضيق هرمز ،ولا برفع "ترامب" الرسوم الجمركية. إنه في اعتقادي المطبخ السياسي المغربي ، الذي يقوم بإعداد وصفة خالية من عوامل الردع لآؤلئك الذين يسبحون في الماء العكر، لكن لما نجد السياسي هو نفسه ذاك الرجل الذي يتاجر ويحتكر السلع ويستقطب كل المجالات الخدماتية من تامين واسواق ممتازة وابناك واستيراد الطاقة وتصدير المنتوج الفلاحي واستيراد اللحوم وغيرها فلن تنجح أي سياسة إن لم يكن لدينا نخبة سياسية تشتغل فقط في الشأن العام والشأن العام وحده، والقيام بالتصريح الحقيقي للممتلكات الذي ظل في الظل ولم يفعل بشكل صارم. سنظل نكتب ونكتب عن هذا الموضوع ولن نفيد ولن نستفيد لأن ما في خلد الطبقة الحاكمة لن تتنازل عنه بسهولة ، فلن تصدر قرارا لمراقبة الأسواق وتضع قانونا يحد من الغلاء بوقف السلسلة الإنتاجية على طرفين إثنين لا ثالث لهما بين المنتج والمستهلك فقط، وإن كان النقل بينهما وكيفية تنظيم عملية التسويق، فيمكن للجماعات أن تقوم بدور في هذا المجال ،خاصة لما نعرف كم هو عدد الموظفين الجماعيين والأشباح منهم، لذا يمكنهم الدخول في تلك العمليات وتسييرها ، ونضرب عصفورين بحجر واحد، (وإن كان العصفور هنا لا دخل له هنا). إذن الإرادة السياسية في المقام الأول لمحاربة الغلاء والنهج السياسي الذي لا يسمح بتسرب المضاربين والجشعين لدواليب السلطة، فهذ وحده يمكن ا، يحد أو يقلل من ذلك ، وبدون تدخل الدولة العميقة سيظل الغلاء هو ذاك الغول الذي سيقضي على اكبر المداخيل ، ويصعد من التضخم بشكل يجعل الدرهم يعاني اكثر مما هو عليه الآن، لنصبح لبان الثاني ،الذي بسبب الحرب المفروضة عليه والطائفية التي مزقت قراره السيادي وجعلت من الليرة اللبنانية ما هي عليه. وأخيرا هل سنترك الأمر هكذا دون ردود فعل تقوم هذا الاعوجاج في السياسثة ؟