إن الحقّ في التنقل جزءٌ من منظومة حقوق الإنسان الأساسية، ولا ينبغي أن يكون مرهونا بمصالح سياسية أو اقتصادية مؤقتة. فالهجرة ليست مجرد قضية قانونية تخضع لحسابات سياسوية أحيانا، واقتصادية أحيانا أخرى، وإنما هي مسألة إنسانية تمسّ حياة ملايين الأفراد الذين يسعون إلى الأمن والكرامة. إن كل محاولة للحد من حقوق المهاجرين بحجة المصلحة الوطنية، كما يحدث الآن في بريطانياوالولاياتالمتحدةالأمريكيةوكندا وغيرها من دول الشمال، يعد خرقٌا جوهريا للمبادئ التي قامت عليها هذه الدول التي طالما ادّعت أنها حامية الحريات الأساسية. إن هذا التسارع لتبني دول، مثل بريطانياوالولاياتالمتحدةوكندا، لسياسات جديدة تهدف إلى الحدّ من تدفّق المهاجرين إليها، مدعوم بخطاب سياسي مضلل يصف الهجرة بالأزمة ويربط الإشكالات الاقتصادية والسياسية بالمهاجرين رغم أن هذه الدول نفسها استفادت عبر التاريخ من جهود المهاجرين في بناء اقتصاداتها وبنياتها التحتية وعظمتها، يعكس رغبة هذه الدول في التحول من أرض الفرص إلى ساحات مغلقة أمام من يسعون إليها، وهو ما يمكن اعتباره نهجًا جديدا ومتشدّدًا يحمل في طيّاته تراجعا كبيرا عن كل ما ادعته هذه الدول من احترام لحقوق الإنسان. في بريطانيا، جاء القرار برفع الحد الأدنى للأجور المطلوب للحصول على تأشيرة العمل ليصبح أعلى مما يستطيع العديد من العمال تحقيقه، مما يعوق وصولهم إلى سوق العمل، كما تم تشديد قوانين لمّ الشمل، وتفاقمت معاناة الأسر التي تسعى للعيش معا، ومُنع بصفة نهائية أي مهاجر دخل التراب البريطاني بطريقة غير نظامية من الحصول على الجنسية حتى لو تمت تسوية وضعيته، هذه الجنسية التي يحتاج المهاجر اليوم إلى العيش عشر سنوات في البلد بدل خمسة سنوات المعمول بها منذ عقود ليتسنى له طلبها. كما تتجه الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى فرض قيود مشددة على طالبي اللجوء، ورفع متطلبات التأشيرة للمهاجرين الذين يسعون للعمل في القطاعات الحيوية، مثل التكنولوجيا والصحة، فيما بدأت كندا في مراجعة سياسات استقبال المهاجرين، مع التوجه إلى تقليص أعدادهم بسبب ما أسمته بمخاوف اقتصادية وسكانية، في المقابل، أعلن ترامب عن استعداده لمنح الجنسية الأمريكية لمواطني جنوب إفريقيا البيض، في تعامل لا يقل عنصرية وتمييزا عما شهده التعامل مع طالبي اللجوء الأوكرانيين مقارنة مع غيرهم من المهاجرين، وكأنه كلما خف بياض البشرة اشتدت قتامة التعاطي مع طلبات اللجوء، ناسين أو متناسين أنه وعلى مدى عقود لعب المهاجرون دورًا جوهريًا في بناء اقتصادات هذه الدول، ومازالوا يعملون في مجالات حيوية مثل الرعاية الصحية والبناء والفلاحة والخدمات. ومع ذلك، لم يشفع لهم كل هذا في منع فرض الإجراءات الجديدة، وكأنهم يُعاقبون بعد أن ساهموا في النمو الاقتصادي. إن هذه التناقضات في التعامل مع المهاجرين، تثير أسئلة حول عدالة هذه السياسات ومدى احترامها للحقوق الأساسية، حيث يُنظر إلى المهاجر على أنه ضرورة اقتصادية عندما تكون الدول بحاجة إليه، ولكن كعبءٍ حين يتغير الظرف السياسي أو الاقتصادي، وهو ما يتنافى كليا حتى مع ما تشير إليه العديد من الدراسات التي تقول بأن تقليص عدد المهاجرين يمكن أن يؤدي إلى نقص حاد في العمالة، خاصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على القوى العاملة المهاجرة مثل الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. كما أن الشركات التكنولوجية التي تعتمد على العقول المهاجرة قد تواجه قيودًا في الابتكار والتوسع. إضافةً إلى ذلك، فإن تقييد الهجرة قد يؤثر على النمو الاقتصادي عبر تهديد التنوع الثقافي والإبداعي الذي يسهم فيه المهاجرون بقسط وفير، مما يؤدي إلى تراجعٍ في الحيوية الاقتصادية والإنتاجية. كما أن هناك تأثيرات اجتماعية قد تكون غير مرئية على المدى القصير، لكنّها جوهرية. المهاجرون لا يجلبون فقط العمالة بل يسهمون أيضًا في إثراء المجتمعات ثقافيًا ولغويًا، ويشكلون جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي، مما يجعل سياسات الحدّ من تدفقهم خطوة لا تقتصر على الاقتصاد بل تمتد إلى التأثير على هوية الدول ذاتها، إذ أنّ تشديد القيود على الهجرة لا يعالج بالضرورة المشكلات التي تدّعي هذه الحكومات أنها تسعى لحلها، بل ربما يُفاقمها عبر خلق أزمات جديدة، سواء على مستوى السوق أو على المستوى الاجتماعي. إن السؤال الذي ينبغي طرحه ليس كيف يمكن إيقاف الهجرة، بل كيف يمكن لهذه الدول أن تخلق سياسات عادلة تحفظ حقوق المهاجرين وتحترم في الوقت ذاته مصالحها الوطنية، وهل ستدرك يومًا أن الهجرة ليست تهديدًا، بل فرصة للنمو والتطور؟