بقدر ما أتفهم طموح القائمين على مهرجان "موازين" في العاصمة الرباط أن يكون نقطة لقاء الفنون بين الشرق والغرب، ويجسد مدى انفتاح أذواق المغاربة وتفاعلهم مع مدارس غنائية متنوعة، بقدر ما أنشغل بمدى برغماتية هذا المهرجان في تحقيق غاياته على مر الأعوام العشرين. أنذكّر بداياته بصيغة "مهرجان الرباط"، وحضرتُ بعض أمسياته الفنية المغربية جدا بصوت عبد الهادي بلخياط يغوص في الأعماق بأغنية "الصنارة" وغيرها. واليوم، تستوقفني جملة من الأسئلة التي قد لا يعيرها كثيرون الأهمية في غمرة الأضواء الساطعة وصدى الميكروفون، وكل "العرّاسية" التي تقام على شرف عدد من فناني الشرق: أوّلا، تراتبية غير منصفة في اعتبار بعض فناني الشرق مركز دائرة المهرجان، وفناني المغرب بمثابة "الكمّ"، مما يزيد في تكريس علاقة "لم تكن سوية ولم تكن متساوية بين الجناحين المكوّنين العالم العربي" سواء في الفنون أو الآداب أو الفلسفة وبقية العلوم الاجتماعية، حسب تعبير بنسالم حميش. قبل أكثر من عقدين، كتبتُ في موضوع "المشرق مشرق، والمغرب مغرب: فهل يتلقيان؟" لم أقصد البحث عن عناصر الاختلاف أو تركيب خطاب الانفصام من أجل الانقسام، وإنما لأوجّه الانتباه إلى نظرتين متوازيتين تنطويان على عدم إنصاف بين الجناحين: جناح مشرقي يعتقد أنه يحتكر قدرات التفوق ويميل إلى استصغار أهل المغرب بسرديات نمطية عفى عنها الزمن من قبيل أنهم "ما بيحكو عربي"، أو أنهم "فرنسيو اللغة والثقافة"، مقابل جناح مغربي لا يحيد عن وفائه لصلته التاريخية بالمشرق، وأحيانا يقدّر أهل هذا المشرق من سياسييه وكتّابه وفنانيه أكثر مما يستحقون. ثانيا، كثيرون في المشرق لا يتقبلون أن تسطع شمس الكتابة والنشر والإبداع الفني في الحقبة الجديدة في جغرافيا أخرى غير القاهرة أو بيروت أو بغداد. وقليلون جدا يعلمون ما كانت عليه قراءة طه حسين لكتاب عبد الله گنون حول النبوغ المغربي. قليلون جدا يفقهون حقيقة أن ربيع الدراسات الفلسفية يزدهر بين الرباط والقيروان، أكثر ما تساهم به أوساط فكرية أخرى في أطراف المشرق، على نسج رائد التنوير الأندلسي ابن رشد. ثالثا، لا يمكن الجزم بتحقيق معادلة منصفة بين تعامل موازين مع فناني الشرق والفنانين المحليين سواء من الناحية الاعتبارية أو من ناحية المكافآت المالية المخصصة لكل إسم فني على حدة. وكما يقول عبد الوهاب الدكالي، فإنه كثيرا ما يُساوم في قيمة أجره بسردية "أنت ديالنا، وفنان وطني.. وإمكانياتنا على حد الحال..!". لكن، هذه الجزية المالية لا تكون متقشفة و "على قد الحال"، عند الالتزام بأرقام سمينة مع النجمة اللبنانية "روعة الروعات"، أو المطرب العراقي "قنديل القناديل"، أو "الأسطورة المصرية "ملهمة الملهمات"، وقس على ذلك. رابعا، لا ينتقي موازين عيارا أكيدًا من فناني الصف الأول في المشرق من طينة فيروز أو الراحلين الأطرش وكلثوم وعبد الوهاب وحافظ، بل يستقبل أسماء من الصف الثالث والرابع والخيط على الجرّار. وتكمن المفارقة أن هذه الفئة تفترض، بل وتصرّ، على أن تُعامل معاملة نجوم هوليود، وأعلى من مقام VVIP: طائرة خاصة، سيارة فارهة وسائق متاحان 24 ساعة، وشقة خاصة Suite في فندق خمس نجمات، ومكافأة مدفوعة قبل العرض… وإذا ما شعر النجم أو النجمة بلحظة عدم الارتياح، فينبغي أن تتوقف حركة السير في كافة شوارع الرباط، وتُعلنَ حالةُ التأهب للحفاظ على معنويات نجمة النجوم، وإلا أصبحت سماء الرباط عتمة دامسة..! خامسا، تستحضر تجربة موازين حتى الآن سؤال التواضع والمقارنة في الاتجاهين معا. عندما كان عبد الهادي بلخياط أو عبد الوهاب الدكالي يقدم أغانيه في حفلات القاهرة مثلا في أواخر الخمسينات والستينات، وعندما يتجه فنانون مغاربة آخرون إلى عواصم الشرق، فإنهم لا يحملون في جيناتهم ولا في سلوكهم عناصر "العظمة" أو "التفوق" المتخيل، أو أي "نزعة سلوكية" تنمّ عن المطالبة بمعاملة خاصّة. يذهب هؤلاء بقناعة التواضع واحترام الذات من خلال احترام الآخر، وجمهور الآخر، وإعلام الآخر. سادسا، إذا كان أهل الحل والعقد في الرباط ومن يدبّرون روافد ميزانية "موازين" من أجل تسجيل نقاط في باب حوار الحضارات ومغرب الثقافات، فإن من الأجدى أن يبدأوا برفع الحيف عن الفن المغربي والفنانين المغاربة ورد الاعتبار إليهم. حان الوقت لكي يساهم المهرجان في تصحيح خلل مستدام في ميزان المغرب والمشرق، وأن المسألة ليست ترجيح كفة على حساب أخرى، وإنما ضمان تقدير متبادل بين الجناحين. وأسوء استعمار هو استصغار الذات في بلد لم يخضع قط لخلافة مشرقية!