بهدوء يشبه حياة الظل التي عاشها، غادر "عباد" عالمنا عن سن ناهز 65 سنة، تاركًا وراءه غصة في قلوب أبناء مدينة سيدي سليمان، الذين اعتادوا رؤيته في شوارعها، يبتسم للناس رغم قسوة الحياة، ويصافحهم بكلماته العفوية المملوءة دفئًا إنسانيًا نادرًا. لم يكن "عباد" مجرد شخص مشرّد. كان ذاكرةً حيةً لحي أولاد الغازي الشعبي، الحي الذي أنجب أسماء لامعة في مجالات الدبلوماسية، الأمن، الصحافة، السياسة، والمحاماة. لكن "عباد" اختار – أو بالأحرى، فُرضت عليه – حياة التشرد، رافضًا كل عروض الإيواء والمساعدة، مفضلاً العيش في الشارع على أن يُجرد من حريته كما كان يراها. رغم عزلته الظاهرية، ظل "عباد" يحظى بمكانة رمزية لدى ساكنة المدينة. لم يكن عدوانيًا، لم يؤذِ أحدًا، بل كان يعكس صورة مشرقة وسط العتمة التي تطبع حياة التشرد. تلك الابتسامة الدائمة، وتلك الطيبوبة الفطرية، جعلت منه أول مشرد في تاريخ سيدي سليمان يحظى بشعبية قل نظيرها. لقد كان جزءًا من هوية المكان، شاهداً على تغير الأزمنة، وتراكم الإهمال. رحيل "عباد" يفتح جرحًا آخر في جسد مدينة تتسع يومًا بعد يوم لجيش من المشردين، الذين يفدون إليها من مختلف مناطق المغرب، حاملين قصصًا متشابهة من البؤس، والخذلان، والانهيار الاجتماعي. وسيدي سليمان، رغم صغرها، أصبحت محطة للمشردين، إما بسبب هشاشة نُظم الدعم الاجتماعي، أو غياب مراكز استقبال فعالة ومستديمة، أو ببساطة لأن "لا أحد يهتم". ما يثير الأسى هو أن نهاية "عباد" لم تكن مختلفة عن أيامه الأخيرة: وحيدًا، مهمشًا، في مستشفى إقليمي، لا يحمل معه إلا ملابس الشارع وذاكرة حي لم ينسه. ورغم وفاته في ظروف غير إنسانية، إلا أن مبادرات بعض أبناء المدينة ورجال السلطة الذين رافقوه في لحظاته الأخيرة كانت بمثابة بارقة أمل في إنسانية لم تمت تمامًا. وفي هذا السياق، نناشد عامل إقليمسيدي سليمان، السيد إدريس روبيو، أن يجعل من ملف التشرد – وخاصة أطفال الشوارع – أولوية ضمن برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. فهؤلاء لا يحتاجون فقط إلى مراكز إيواء مؤقتة، بل إلى برامج اجتماعية عميقة ومستدامة تُعيد لهم الكرامة، وتُخرجهم من دوائر النسيان. لقد كان "عباد" ضحية مجتمع لم يُصغِ لآلام الهشاشة، ولم يفهم أن الإنسان لا يولد مشرّدًا، بل يُدفع إلى التشرد دفعًا. واليوم، بعد أن سقط آخر أوراقه، علينا أن نتوقف لحظة، لا لنبكيه فقط، بل لنمنع تكرار مأساته. رحمك الله يا عباد… كنت عنوانًا لصبر طويل، وأيقونة لشارع نسينا أنه يسكنه بشر.