في خريف 1983 كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) نصًا نادرًا في انخراطه السياسي بعنوان «عظمة ياسر عرفات»، عقب مجازر صبرا وشاتيلا، نص يبدو وكأن كاتبه كان يقرأ حاضرنا اليوم. لم يكن دولوز أحد أبرز فلاسفة ما بعد البنيوية، مجرد شاهد متعاطف، بل فيلسوف قرأ في المأساة الفلسطينية جوهر المشروع الصهيوني: الإنكار المنهجي لوجود شعب بكامله، والتصرف كما لو أنه لم يكن يومًا على هذه الأرض. في زمن كانت فيه أوروبا غارقة في ذاكرة المحرقة، اختار دولوز أن ينظر إلى مأساة الفلسطينيين كوجه آخر للظلم، ليس فقط بما يتعرضون له من طرد وتشريد، بل أيضًا من خلال إنكار وجودهم ذاته، وتحويلهم إلى شعب "غير مرئي" في الخطاب الغربي. حذّر يومها دولوز من أن محو الفلسطينيين لا يعني فقط تدمير حاضرهم، بل هو جريمة مضاعفة ضد التاريخ والإنسانية، وأن غياب منظمة التحرير أو إذابتها لن يخلّف سوى صعود "إرهاب مزدوج" ديني ودولتي، ويغلق أبواب أي سلام عادل. اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود، يتردّد صدى تحذيرات دولوز في أزقة غزة المدمرة. فالمجازر التي تتواصل على مرأى العالم ليست سوى استكمال لذلك المسار الذي وصفه الفيلسوف: تفريغ الأرض، تهجير الناس، وتجريم كل من يدافع عن الفلسطينيين بوصفه "عدوًا للسامية". غزة ليست استثناءً، بل هي الحلقة الأحدث في تاريخ طويل من الطرد والقتل والإنكار. ما كتبه دولوز قبل أكثر من أربعين عامًا يبدو اليوم كأنه تعليق مباشر على صور الأطفال تحت الركام، والمستشفيات المقصوفة، والناس الذين يُطلب منهم أن يختفوا. من بيروت 1982 إلى غزة 2025، يتكرر المشهد: شعب يصرخ في وجه العالم أنه موجود، وأنه لا يريد سوى أن يُعامل كغيره من الشعوب. بقيت الإشارة إلى أن المقال كُتب في مرحلة حساسة من الصراع العربي-الإسرائيلي، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982) وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وفي أجواء المذابح التي طالت المدنيين الفلسطينيين في المخيمات، خاصة مجازر صبرا وشاتيلا، وفي هذا المقال اختار دولوز، المعروف بكتاباته الفلسفية البعيدة عن السياسة اليومية، أن يترك لنا نصًا سياسيًا ملتزمًا دفاعًا عن الشعب الفلسطيني وقائده التاريخي ياسر عرفات. وفي ما يلي نص المقال الذي حمل عنوان "عظمة إسرائيل" إن القضية الفلسطينية هي، في المقام الأول، حصيلة جميع أشكال الظلم التي عانى منها هذا الشعب وما يزال يعانيها. هذا الظلم يتجلى في أعمال العنف، كما في التناقضات المنطقية، والذرائع الكاذبة، والضمانات الزائفة التي تزعم التعويض عن الظلم أو تبريره. لم يعد أمام عرفات سوى كلمة واحدة يكررها عند كل وعد مُخلف وكل التزام منتهك، خصوصاً زمن مجازر صبرا وشاتيلا: عار، عار. يُقال إنه ليس إبادة جماعية. ومع ذلك فإن تاريخ القضية الفلسطينية مليء ب "أورادور" كثيرة منذ البداية. فالإرهاب الصهيوني لم يُمارس ضد الإنكليز وحدهم، بل ضد القرى العربية التي كان يجب أن تختفي (مجزرة دير ياسين). منذ البداية وحتى اليوم، كان الهدف أن يُعامل الفلسطينيون كما لو أنهم لا يجب أن يكونوا موجودين، بل وكأنهم لم يكونوا موجودين أبداً. لقد كان الغزاة أنفسهم ضحايا أكبر إبادة جماعية في التاريخ. ومن هذه الإبادة صنع الصهاينة "شراً مطلقاً". لكن تحويل هذه الجريمة الكبرى إلى شر مطلق ليس رؤية تاريخية، بل رؤية دينية غيبية. فهي لا توقف الشر، بل تنشره، وتُسقطه على أبرياء آخرين، وتطالب ب "تعويض" يجعل هؤلاء الأبرياء يعانون بدورهم من الطرد، والغيتو، والاختفاء كشعب. بوسائل "أبرد" من الإبادة المباشرة يُراد الوصول إلى النتيجة نفسها. كان على أوروبا والولاياتالمتحدة أن تؤديا "تعويضاً" لليهود. وهذا التعويض جُعل على حساب شعب بريء تماماً، لا علاقة له بالمحرقة ولا حتى سمع بها من قبل. هناك بدأ العبث، وهناك بدأت المأساة. الصهيونية ثم دولة إسرائيل ستطالب الفلسطينيين بالاعتراف بشرعيتها، لكنها هي ذاتها لم تكف عن إنكار وجودهم كحقيقة. لم يكن يُقال "الفلسطينيون"، بل "عرب فلسطين"، وكأنهم وجدوا هناك صدفة أو خطأ. ثم سيُصور اللاجئون الفلسطينيون كما لو أنهم غرباء جاؤوا من الخارج، وسيُنكر تاريخ مقاومتهم الأولى. بل سيوصمون بأنهم "ورثة هتلر"، فقط لأنهم رفضوا الاعتراف بحق إسرائيل، في حين أن إسرائيل احتفظت لنفسها بحق إنكار وجودهم الفعلي. هكذا تأسست أكذوبة ممتدة: أن كل من يعارض سياسات إسرائيل يُصنَّف عدواً للسامية. عملية تقوم على السياسة الباردة لإسرائيل تجاه الفلسطينيين. لقد كان هدف إسرائيل معلناً منذ البداية: إفراغ الأرض الفلسطينية من سكانها، بل والتصرف وكأنها أرض خالية منذ الأزل معدّة للصهاينة. إنها استعمار، لكن ليس بالمعنى الأوروبي في القرن التاسع عشر؛ فالغاية ليست استغلال السكان، بل طردهم. أما من يبقى فيُحاصر في غيتوهات كعمالة عابرة، كأنهم مهاجرون داخل وطنهم. شراء الأراضي منذ البداية كان مشروطاً بخلوها من السكان أو بإمكان تفريغها. إنها إبادة، حيث تحل "الإزالة الجغرافية" محل الإبادة الجسدية، لكن القتل حاضر، سواء نُفذ مباشرة أو عبر مرتزقة. ومع ذلك يُقال: "ليست إبادة"، لأنها ليست الهدف النهائي، بل مجرد وسيلة بين وسائل أخرى. أما تواطؤ الولاياتالمتحدة فلا يفسره فقط اللوبي الصهيوني، بل أيضاً صدى تاريخي: فقد وجد الأمريكيون في إسرائيل انعكاساً لتجربتهم الخاصة مع الهنود الحمر، حيث لم يكن القتل الجسدي وحده هو الهدف، بل الإفراغ، وجعل الأرض كما لو لم يكن عليها سكان قط، إلا في محميات أشبه بغيتوهات. الفلسطينيون هم "الهنود الجدد"، هنود إسرائيل. الرأسمالية الأمريكية دفعت حدودها عبر "الحلم الأمريكي"، وإسرائيل أعادت إنتاج الحلم نفسه: "إسرائيل الكبرى" على حساب العرب. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني عرف كيف يقاوم. من شعب سلالي صار أمة مقاتلة. وأقام لنفسه تنظيماً لم يكتف بتمثيله، بل جسده، في المنفى ومن دون دولة. احتاج ذلك إلى شخصية تاريخية كبرى، تبدو، من منظور غربي، وكأنها خارجة من مسرحيات شكسبير: وكان هو ياسر عرفات. ليست المرة الأولى في التاريخ (يمكن للفرنسيين أن يتذكروا "فرنسا الحرّة"، مع فارق أن الأخيرة كانت لها قاعدة شعبية أوضح). وليس جديداً في التاريخ أن كل فرصة للحل كانت إسرائيل تُفشلها بوعي وإصرار، متمسكة بإنكار ليس فقط الحق الفلسطيني، بل الوجود الفلسطيني ذاته. ولهذا، صوّرت الفلسطينيين ك"إرهابيين غرباء"، بينما كانوا شعباً مميزاً، مختلفاً عن بقية العرب كما تختلف الشعوب الأوروبية فيما بينها. ومن هنا لم يتلقوا من الدول العربية سوى مساعدة ملتبسة، انقلبت أحياناً إلى عداء أو حتى مذابح حين بدا نموذجهم خطراً. جربوا كل الدورات الجحيمية: فشل كل حل، انقلاب الحلفاء إلى خصوم، الوعود المكسورة. ومن هذا كله، تغذت مقاومتهم. قد يكون أحد أهداف مجازر صبرا وشاتيلا هو تحطيم صورة عرفات. فقد وافق على خروج المقاتلين، وهم ما زالوا أقوياء، بشرط أن تُضمن سلامة عائلاتهم من قِبل الولاياتالمتحدة وإسرائيل نفسها. لكن بعد المجزرة لم يجد كلمة سوى: عار. وإن كان ما تلاها من أزمة في منظمة التحرير سينتهي، على المدى البعيد، إلى دمج الفلسطينيين في دولة عربية، أو إذابتهم في الإسلام السياسي، فإن ذلك يعني عملياً اختفاء الشعب الفلسطيني. لكن عندها سيدرك العالم، وأمريكا، وإسرائيل ذاتها، حجم الخسارة والفرص المهدورة. في مواجهة عبارة إسرائيل المتعالية: "لسنا شعباً كبقية الشعوب"، كان الفلسطينيون يردون بصوت واحد، كما جاء في العدد الأول من مجلة الدراسات الفلسطينية: "نحن شعب كبقية الشعوب، ولا نريد أن نكون أكثر من ذلك ولا أقل". لقد ظنت إسرائيل، وهي تخوض حربها الإرهابية في لبنان، أنها قضت على منظمة التحرير وسلبت الفلسطينيين آخر سند لهم بعدما سُلبت أرضهم. وربما نجحت، ففي طرابلس المحاصَرة لم يبق إلا الحضور الجسدي لعرفات بين أهله، في عظمة وحيدة. لكن الشعب الفلسطيني لن يفقد هويته إلا ليُخلف مكانه "إرهاباً مزدوجاً"، دينيّاً ودولتيّاً، سيستثمر غيابه ويجعل أي سلام مستحيلاً. إن أي حل سياسي، أي تسوية سلمية، لن يكون ممكناً إلا بوجود منظمة تحرير مستقلة، لم تُبتلع في دولة قائمة، ولم تذُب في حركات الإسلام السياسي. أما غيابها فلن يعني سوى انتصار قوى الحرب العمياء، اللامبالية ببقاء الشعب الفلسطيني. (شتنبر 1983) تعريب موقع "لكم"