لسنا في حاجة إلى أن نضع الأشخاص في مقام القداسة حتى نعترف لهم بما قدموه من تضحيات جسيمة. لا الزفزافي يريد أن ينظر اليه من فزاعة المقدس، ولا مانديلا مقدس، ولا عبد الكريم الخطابي كان محنطا بأوهام القداسة اللاهوتية. القداسة شأن المعتقد، أما القيام بالواجب فشأن الإنسان في سياق تاريخي محدد،يمليه عليه ضميره وما يقتضيه واجب اللحظة التاريخية . ولعل العبارة التي تركها لنا عبد الكريم الخطابي: "قمنا بالواجب الذي يمليه علينا ضميرنا" تختزل جوهر المسألة: ليست البطولة أسطورة، بل فعل ضروري، ولا الزعيم أو الرمز ملكا، بل إنسان اختار أن يقف حيث يقتضي الضمير. لكن مشكلتنا أننا نميل أحيانا إلى تحويل الرموز إلى أيقونات مقدسة. فإذا أبدى مؤرخ رأيا في تاريخ آل الخطابي، جوبه بالتخوين وكأنه مسّ جوهر الطهارة. وإذا عبر صحفي مثل علي لمرابط عن رأي في ناصر الزفزافي، واجه عاصفة من الهجمات والتهديدات، وكأن ناصر فوق النقد. المشكل هنا ليس في احترام الرموز، بل في خلط الاحترام بالتقديس. الاحترام يعني الاعتراف بالتضحيات، أما التقديس فهو تعطيل للعقل وإلغاء للحق في النقد. وقد يقول قائل: لكننا لا نريد الإساءة إلى رموزنا. صحيح، لكن تحويل الرموز إلى مقدسات هو إساءة من نوع آخر: إساءة تعفي النظام المخزني من المساءلة. فالمأساة في جوهرها ليست في أشخاص، بل في بنية المخزن: في عسكرة الريف منذ الاستقلال الشكلي، في التهميش الاقتصادي والاجتماعي، في نهب الثروات بالريع، في صناعة نخب مطيعة تبرر قهره، وفي إعلام مأجور يلمع صورته ويشوه أصوات الاحتجاج والمقاومة السلمية. كل هذه المآسي لم تنتجها أخطاء فردية، بل منظومة كاملة اسمها المخزن. ناصر الزفزافي ورفاقه لم يسجنوا لأنهم اقترفوا جرما، بل لأنهم مثلوا خطرا على هذه البنية. مثلوا لحظة صدع حر بكلمة الكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي الكلمة التي يخشاها المخزن أكثر من أي شيء آخر. فإذا حولنا الزفزافي اليوم إلى صنم، فإننا نرتكب خطأ مزدوجا: نثقل عليه بانتظارات أسطورية لا طاقة له بها، ونخلي ساحة المساءلة من المخزن الذي هو الجرح الأصلي. التجارب العالمية تعلمنا أن الرمز القوي لا يخشى النقد. في أمريكا اللاتينية لم يمنع وهج تشي غيفارا الباحثين من فضح إخفاقاته. في جنوب إفريقيا لم يحصن مانديلا من نقاش حاد حول اختياراته الاقتصادية. في أمريكا نفسها لم يعف مارتن لوثر كينغ من نقد قاسٍ من داخل حركته. ومع ذلك، بقي كل واحد منهم رمزا حيا. لماذا عندنا نعتبر النقد خيانة؟ لماذا نقصي علي لمرابط من خيمة إنسانية بباريس لأنه لم يساير موجة التقديس المزيف؟ أليس هذا السلوك نسخة صغيرة من منطق المخزن نفسه: منطق يقصي ويخرس الأصوات بدل أن يحاججها؟ إن الانتصار الحقيقي للزفزافي ورفاقه لا يكون بتحويلهم إلى آلهة معصومين، بل بالوفاء للقيم التي ناضلوا من أجلها: الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية. هذه هي القيم التي يخشاها المخزن، وهي التي تجعل كل كلمة صريحة تعتبر تهديدا، وكل احتجاج سلمي يعامل كتمرد. وإذا أردنا أن نكون أوفياء لهم، فعلينا أن نحمي حق المختلف في الكلمة المرة، لأن الحرية التي حلموا بها لا يمكن أن تبنى على إقصاء أي صوت. المعركة إذن ليست بين "مع" أو "ضد" الزفزافي، بل بين منطق المخزن ومنطق الحرية. المخزن يريد أن يختزل النقاش في الأشخاص حتى يغطي على بنية الاستبداد: عسكرة، ريع، قهر، إعلام مجند. ونحن إن انجررنا إلى معارك جانبية، نكون قد خدمناه من حيث لا ندري. لذلك، فإن مقولة عبد الكريم ليست ذكرى تاريخية، بل بوصلة حاضرة: "قمنا بالواجب الذي يمليه علينا ضميرنا". والواجب اليوم أن نقول بصراحة: كل مآسي الريف، من تهميش واعتقال وتهجير، هي في الجوهر مآسي مع النظام المخزني. الواجب أن نحرر رموزنا من القداسة حتى لا يحجب عنا عدوهم الحقيقي. الواجب أن نجعل من صمود الزفزافي ورفاقه مشاعا ملهما لكل معركة ضد المخزن، من أجل وطن للشعوب يليق بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فالحرية لا تبنى إلا بقبول الكلمة المرة. والكرامة لا تصان إلا بكشف المخزن وتعريته. والعدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا بإدراك أن الصراع المفتوح مع المخزن هو صراع وعي طويل النفس، لا تكسره الاعتقالات والمنافي ولا تطفئه حملات الإقصاء. ولعل ما يميز الزفزافي اليوم هو أنه ورفاقه لا يملكون إلا اسهم في "بورصة القيم"، بورصة الأجداد، التي لا تقاس بالمناصب أو بالشهرة، بل بقدرة الإنسان على تجسيد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والتمسك بالواجب أمام النظام المخزني القمعي. وفي المقابل، يملك علي لمرابط ذات الحق في بورصة القيم هذه، من منطلق دفاعه عن الكلمة الحرة والحق في النقد والمساءلة، حتى لو كانت هذه الكلمة مرة أو جارحة. وكما أن الزفزافي يستحق الاحترام لتضحياته، يستحق الصحفي الاحترام لمجابهته الفضاءات المغلقة، ورفضه للإقصاء، ومتابعته الصادقة للحقائق، ما يجعل كلاهما شركاء في نفس المعركة الرمزية للقيم، وإن اختلفت الأدوات والوسائل. لكن هذا لا يعني أن كل من يدعي الدفاع عن الزفزافي أو الريف يمتلك هذه البورصة. فالمشكل الحقيقي يكمن في بعض اليسراويين الذين تحولوا إلى ببغاوات ومريدين، يكررون ما يسمعون، ويرددون شعارات جاهزة، فتتراجع ممارستهم الجماعية إلى مجرد صدى صوتي بلا معنى عملي. هؤلاء أصبحوا حقا عبئا على العمل الجماعي الريفي؛ فتصبح مبادراتهم الميدانية نصف معدومة، ومواقفهم التحليلية عبارة عن ظواهر صوتية تشتت ولا تضيف، وتغرق الحوار في صخب لا إنتاج فيه. لذلك، يبقى التريث والحوار العقلاني والاحتكاك بالفكر شرطا أساسيا لكل من يريد أن تكون له حقا ايهما رمزية في بورصة القيم: أن يُقدر التضحيات، وأن يحترم الحق في الكلمة الحرة، وأن يميز بين النقد البناء والتقديس الأعمى، وبين العمل الميداني الفعال وضجيج اصوات النشاز الفارغ. فالعمل الجاد من اجل للريف، والحرية الحقيقية، لا تتحقق إلا حين تتضافر جهودالعقول والضمائر الجماعية، لا حين تغيب وتغتال رمزية الإرادات الحرة وترفع الأصوات فقط. وهكذا، يظل الزفزافي رمزا حيا في بورصة القيم الريفية والانسانية، ويظل علي لمرابط حاملا لحق الكلمة الحرة، وكلاهما يشكلان معا درسا واضحا: أن القيمة الحقيقية تقاس بالالتزام بالواجب، بالتصدي للظلم البنيوي، وبالقدرة على الحوار والنقد، لا بالتقديس أو الانصياع الأعمى. لاهاي، 15 سيبتمبر 2025