باراغواي تجسد اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء بإعلان فتح قنصلية عامة    صمصم: جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة.. انطلاق المشاورات في الأقاليم ال 75 ابتداء من الأسبوع المقبل    مكتب المطارات يتوقع تحقيق 6.4 مليار درهم معاملات في 2026    إسرائيل تقصف مخزن أسلحة في غزة    إنقاذ قارب للهجرة السرية على متنه 22 مغربياً أبحروا من سواحل الحسيمة    ملامح الحزن ومأزق الوجود في ديوان «أكثر من شجرة أقل من غابة» للشاعر علي أزحاف    المعارضة الاتحادية بمجلس النواب تدقق في القضايا الكبرى في مشروع قانون المالية    بتنسيق مغربي إسباني.. تفكيك شبكتين دوليتين وحجز 20 طناً من الحشيش داخل شحنات فلفل    "منخفض جوي أطلسي" يجلب أمطارا وزخات متفرقة نحو الشمال المغربي    ملاعب الرباط تستعد: "الأمير مولاي الحسن" و"البريد" يحتضنان معارك الملحق الإفريقي للتأهل لمونديال 2026    المنتخب المغربي يواجه منتخب الموزمبيق ودياً في أكادير استعداداً لكأس إفريقيا    التوقيع على ملحق اتفاقية استثمارية بين المملكة المغربية ومجموعة "رونو المغرب"    دعوات للنيابة العامة من أجل التحقيق في تصريحات التويزي حول "طحن الورق"    حركة "جيل زد"... فرصة لإعادة المعنى للسياسة! (1)    تعيين محمد الطوزي عميدا لكلية العلوم الاجتماعية بالجامعة الدولية للرباط    جلسات ماراطونية لمحكامة جيل زيد بكل من طنجة والعرائش والقصر الكبير    المديرية العامة للأمن الوطني تعقد شراكة مع شركات التامين الفرنسية    اتفاقية استثمارية بين المغرب ومجموعة "رونو" تُحدث 7.500 منصب شغل    السياحة المغربية تلامس أفق 18 مليون سائح... و124 مليار درهم من العملة الصعبة حصاد مرتقب    لامين يامال يشتري قصر بيكيه وشاكيرا    جرائم ‬بيئية ‬ترتكبها ‬معاصر ‬الزيتون ‬تهدد ‬الموارد ‬المائية ‬بالمغرب    ترامب يتأسف لعدم السماح له بالترشح لولاية رئاسية ثالثة    "أكاديمية المملكة" تصدر موسوعة "مناظرة العلوم الإنسانية والاجتماعية" في 4 مجلدات    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    علماء يكتشفون حياة ميكروبية تحت جليد القطب الشمالي    الدار البيضاء تحتفي بالفلامنكو الأندلسي عبر عرض استثنائي لفرقة باليه الأندلس    مهرجان الدوحة السينمائي يعلن عن لجنة تحكيم المسابقة الدولية للأفلام الطويلة    غوارديولا يتطلع إلى عودة مرموش لكامل لياقته    إعصار "ميليسا" العنيف يضرب جامايكا ويسبب خسائر في الأرواح    صقور الصّهيونية    قيمة شركة "إنفيديا" تقترب من مستوى 5 تريليونات دولار القياسي    مقتل جندي إسرائيلي في قطاع غزة    التويزي يوضّح حقيقة عبارة "طحن الورق" ويؤكد: المقصود هو التلاعب في الفواتير لا خلط الدقيق    الأمن يوقف المتورط في قضية اغتصاب مساعدة محام بالبرنوصي    البرلاسين يفتح صفحة جديدة مع الرباط ويجدد دعمه لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء    الساكنة الحقيقية لمخيمات تندوف... عندما تنكشف أكاذيب النظام الجزائري    شباب المحمدية يبسط سيطرته على صدارة القسم الثاني    "سباق التناوب الرمزي المسيرة الخضراء" يصل محطة طرفاية-العيون    بنسعيد يترأس حفل تنصيب لجنة تحكيم الجائزة الكبرى للصحافة    شيخوخة اللسان!    إجراءات الحكومة تساعد على الحفاظ على استقرار أسعار السمك في مستويات معقولة    سقوط عشرات القتلى في قطاع غزة    الجديدة.. تأجيل محاكمة شبكة 'السمسرة والتلاعب بالمزادات العقارية' إلى 4 نونبر المقبل    آفاق واعدة تنتظر طلبة ماستر "المهن القانونية والقضائية والتحولات الاقتصادية والرقمية" بطنجة    "لبؤات U17" يغادرن مونديال الفتيات    مندوبية السجون تعلن الإغلاق النهائي لسجن عين برجة    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية:أضواء على صفحات منسية من تاريخ الحركة الأدبية بالمغرب، من خلال سيرة الشاعر أحمد الزعيمي وديوانه المحقق..    عبد الإله المجدوبي.. العرائشي الذي أعاد للذاكرة دفئها وللمكان روحه    ميسي يتطلع للمشاركة في كأس العالم 2026 رغم مخاوف العمر واللياقة    النمل يمارس التباعد الاجتماعي عند التعرض للأمراض والأوبئة    دراسة حديثة تحذر من مغبة القيادة في حالة الشعور بالإرهاق    مواد سامة وخطيرة تهدد سلامة مستعملي السجائر الإلكترونية    اكتشاف خطر جديد في السجائر الإلكترونية يهدد صحة الرئة    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة "جيل زد"... فرصة لإعادة المعنى للسياسة! (1)
نشر في لكم يوم 29 - 10 - 2025

يرصد الجزء الأول من هذه المقالة أزمة السياسة التي نعيش في ظل موازين قوى مضطربة ناتجة عن تقاطب بين القوى الحية للمجتمع، وتقاعس النخب، بل وشيخوختها، وضعف مؤسسات الوساطة الديمقراطية. في هذا السياق، يمكننا طرح السؤال، هل استنفدنا الإمكان الدستوري؟ وهل الملكية البرلمانية عصا سحرية لحل إشكالية الازمة السياسية؟ في ظل هذا المشهد الهش مدنيا وسياسيا، وفي سياق إقليمي ودولي مضطرب، من جهة، وواعد بانبثاق دينامية ممانعة أممية، من جهة أخرى. في ظل أوضاع هشاشة الفاعل الشعبي، تضعف إمكانيات الفعل وتقل المبادرات، ويصبح العمل ضمن ما تتيحه القوانين من مؤسسات ترابية ووطنية مهمًّا. كما يصبح بناء أشكال تنظيمية جديدة ضروريا لليقظة الشعبية المدنية الاجتماعية والسياسية، مع اعتماد ما تتيحه التكنولوجيا الخوارزمية من تصميم تطبيقات "اليقظة الشعبية المدنية" للتتبع اليومي للمرفق العمومي والسياسات العمومية والمؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة، تبدأ من الدائرة، فالجماعة، والإقليم أو العمالة، ثم الجهة، فالمستوى الوطني.
ومن أجل ذلك، تصبح الحاجة إلى فتح نقاش عمومي للترجمة التنظيمية لهذه اليقظة التي تبقى الاختيار الواقعي والفعال أمام الشباب، عوض دعوتهم للانخراط في الأحزاب الموجودة أو تأسيس أخرى، نعرف مسبقا عوائقها في واقع ديمقراطية لا تزال شكلية. أما الجزء الثاني، فيتطرق لتمثلات المغاربة لما يحدث من تقدم، وعلى ضوء تزايد الحاجيات وانفتاح المغاربة على العالم عبر الحياة الافتراضية، ما هو الاختيار الاقتصادي السياسي، والإنجازات الاجتماعية الضروري القيام بها؟ والهدف من هذه المقالة المساهمة في مقاربة بعض الإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة في الساحة التي أطلقتها حركة "جيل زد".
الجزء الأول: أسئلة لابد من الوقوف عندها
في سياق مسترسل، يعرف المغرب دينامية شعبية احتجاجية سلمية منذ عقد ونصف، أي بعدما ما استقر الانتقال بين ملكين وما فرض ذلك من أوراش اقتضتها ظروف الانتقال وبناء معالم صورة الملك الجديد وتموقعه علاقة بالملك الراحل. ومنذ أزيد من سنتين، عشنا على خلفية حركية التضامن مع الشعب الفلسطيني، وما عرفه هذا النضال من أجل وقف الإبادة وتطبيع بلادنا مع الصهيونازية، من تجاهل تام وعدم التجاوب معه، وقد شكل ما يعانيه الشعب الفلسطيني من إبادة همًّا لدى كل فئات المجتمع، من عبّر عن ذلك بخروجه للشوارع في مظاهرات، ومن احتج وامتعض في مختلف الأماكن العمومية. فبدا لي أثناء هذا المسار ان هذا التجاهل ليس في مصلحة المغرب لما يولده من شعور بالإهانة والحكرة لدى عموم الناس، ومن تسفيه للصوت الشعبي، سوف تكون له عواقب، من تعميق لهوة انعدام الثقة فيمن يفترض أنهم يحكمون باسمنا. وقد يُنتج ذلك كراهية وعداوة بين الشعب والحكم يصبح تذويبها عملية صعبة فيما بعد. لتتدفق حركة "جيل زد 212″، لا لتتكلم عن فلسطين، ولكن لترفع، في بداية الامر شعار "التعليم والصحة أولا، قبل المونديال". هل "جيل زد" غير مكترث بما يحدث من إبادة الفلسطينيين؟ مستبعد بشكل كبير. الشعب المغربي كله يتألم بسبب ذلك. هل هذا الجيل في واد والباقي في واد؟ أبدا، كلنا في واد واحد، أزمة السياسي، والاقتصادي والاجتماعي. قد يكون جيلا براغماتيا، يحدد أهدافه بدقة وفق حاجياته ولا يتيه. استفاد من التجارب السابقة بمطالبها وسلبياتها، فمن ولد في 1997 من هذا الجيل كان عمره 14 سنة أثناء حركة 20 فبراير 2011، و19 سنة علاقة بحراك الريف الذي كانت له تداعيات وطنية. فإذن هو جيل، مهْما اعتقد، صُهر تحت نار ما طرح في الفضاء العام المغربي، أولا، وإن كان ذلك خارج تنظيمات الوساطة، وتأثر افتراضيا بما يحدث في العالم، وهذا ما أعطاه بعضا من خصوصيته مقارنة بالحراكات السابقة. هناك استمرارية في الفعل المغربي المقاوم ولا توجد أية قطيعة.
أزمة السياسة وعجز النخب
شكلت محطة 20 فبراير 2011 لحظة سياسية فارقة في تاريخ المغرب، لما تَوفر لها من شرط تاريخي خارجا عنها، ألا وهو ربيع الشعوب الذي شكل الخلفية الضاغطة الأكثر تأثيرا على أعلى سلطة سياسية بالبلاد، والتي تكللت بفتح ملف الإصلاح الدستوري وبمنهجية تشاركية مختلفة عن السابق، وإن لم تشمل كل الحساسيات السياسية الوازنة، فإنها تمثلت بشكل غير مباشر من لدن الحلفاء الأيديولوجيين، تعبَّأت لها مختلف قوى الفعل السياسي والمدني، لكن ذلك تم في ظل تقاطب أيدلوجي حاد أرخى بضلاله على الوثيقة الدستورية. هذا الزخم السياسي سرعان ما تكالبت كل الظروف الخاصة بالتجربة المغربية من ضعف الإرادة الفعلية في التغيير من طرف الدولة، ونتيجة تقاعس النخب لتعيدنا إلى ما قبل 2000. وقد بدأنا نعيش فصول التراجع وتغول السلطة على حساب مؤسسات المجتمع مباشرة بعدما استُنفِد الإمكان الذي حبلت به السيرورة التي أطلقتها حركة 20 فبراير. حتى كاد اليأس يتمكن منا رغم بعض الأصوات التي لم تتوقف عن دق ناقوس الخطر داخل وخارج المؤسسات. فما يحسب لحركة "جيل زد"، هو أنه أفاق الأمل بدواخلنا، وضخ دماء جديدة في فضائنا العام من جديد، واستنفر السلطات العمومية من سبات بطء فعلها وأولوياتها التي ليس فحسب لا تجيب عن الحاجيات الفعلية للمغربيات والمغاربة، بل أحيانا تستفز ذكاءهم. إن هذه الحركة جعلتنا من جديد نحلم بأن التغيير ممكن.
لم يعد للسياسة كما تدار اليوم من معنى مقبول، أو على الأقل لم يعد المغاربة من الشباب أساسا يقبلونه لا عند الدولة ولا عند مؤسسات الوساطة التي لم تعد قادرة على التعبئة الجماهيرية من أجل التغيير، بل أصبحت مكتفية بلعبة الانتخابات في ظل هامش زاد ضيقا ولم ينفع معه الانتظار ليتسع، ولن يفعل ذلك مع طريقة تدبير الحكم وشيخوخة النخب الكابحة للتجديد. لكن الطبيعة تكره الفراغ.
ولكن السؤال الذي يُطرح علينا بإلحاح، ما هي العروض السياسية من أجل الإصلاح التي يمكن للشباب اليوم أن يبنوا عليها أو يتبنوها؟ يمكن القول إن هناك ثلاث خيارات مبتورة أمامهم، واحد يساري تدافع عنه بعض الفعاليات الفردية وبعض الأحزاب اليسارية الصغيرة، يحمل شعار "لا تقدم من دون إصلاح سياسي عميق"، وآخر عملت الدولة على إعداده تُصرف بعض مقترحاته، الا وهو النموذج التنموي الجديد، وآخر أممي، وهو أجندة أهداف التنمية المستدامة. فإذا كان الثاني والثالث يُغيِّبان تماما الإصلاح السياسي الضروري لتفعيلهما، فإن العرض الأول، يقف عند المدخل المبدئي دون إعطاء تصوره حول كيفية النهوض بالعدالة الاجتماعية وما هو الاقتصاد السياسي الواقعي المناسب للمغرب، في عالم متحول تغلب على اقتصاداته الصناعةُ المرتبطة بالخوارزميات والتي سوف تعصف بفرص الشغل الشحيحة أصلا عند الدول النامية مثلنا، أكثر مما سوف يحدث في البلدان الصناعية كما تؤكد على ذلك التقارير الأممية. وما هي الإصلاحات الضرورية لتوفير شروط المشروع السياسي، وما هي مراحله الانتقالية، وما إلى ذلك.
إن التجربة المغربية معقدة ومركبة، كأي تجربة إنسانية أخرى، تجر خلفها ثقل تاريخ من الصراعات على السلطة، ومن آثار الفترة الكولونيالية، وما ترتب عنها من التبعية لنفوذ القوى الاستعمارية، وآثار كل هذا على بنية الدولة، وبنيات المجتمع وذهنيات النخبة من أجيال الطفرة الديمغرافيةBaby Boomers وXوY، لم يخبرها جيل زد المنتفض اليوم. هذا التاريخ لا يمكن الارتفاع عنه، ومن لا يستحضره سوف يجني مزيدا من خيبات الأمل، دون أن يعني ذلك أن التغيير غير ممكن. فقط ونحن نفكر في الإصلاح، علينا استحضار كل العوامل لتحييد كوابحها. لنأخذ مثالا على أحد الكوابح الأساسية المتعددة والتي سوف أتطرق لها في سياقات الإصلاح الاجتماعي، النخبة المغربية تشكل أعظم كابح للتقدم في الإصلاح ببلادنا والتي تفوت علينا فرص الإصلاح منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأقل. وفي هذا الشأن كتابات متعددة جَلّت بعض من خبايا هذا التاريخ.
بالتأكيد للإصلاح العميق مدخل سياسي ضروري، من دونه لا نرى أفقا لبلادنا في هذا القرن، وقد يعرض بلادنا لهزات شعبية متكررة، وهذا لا يشكل أدنى خطر طالما الدولة قادرة على التفاعل معه بإيجابية وفق ما تسمح به مصالحها. لكن المشكل البعيد المدى هو إضعاف القوة الشعبية التي تشكل الضامن الحقيقي لاستقرار الدولة، بل لوجودها وسيادتها. غير أن المدخل السياسي وحده ليس كافيا مهما كان ضروريا، ولا يمكنه أن يشكل العصا السحرية لحل إشكاليات التأخر التي نرزح تحتها. ثقل التأخر المجتمعي لا يمكن تجاهله في أي إصلاح. كما لا يمكن الاستهانة بتشعب بنية المخزن والمصالح التي نمت حوله في مفاصل البلاد كلها. بما يعني ذلك من اقتيات شبكات من المصالح الفئوية والفردية حول المنظومة المخزنية.
علينا تقدير أفاعيل المسلسل الانتخابي ببلادنا في تعزيز تداخل وتوسيع شبكة الذهنيات المخزنية منذ بداية الاستقلال. فقد شكل سيرورة لتثبيت بنيات الدولة المخزنية وبالخصوص في العالم القروي الموجود عمليا خارج العمل الديمقراطي. لم تعد سلطان المخزن في حدود المركز، بل تشعب متخذا بنية جذرومية ستكون سريرا مواتيا لاستنبات ثقافة المصالح غير المشروعة، عوض خدمة المصالح العامة. ولم تتوقف آثار ذلك في هذه الحدود، بل امتدت إلى الأحزاب اليسارية أيضا التي استدمجت ثقافة الاعيان منسلخة عن جذورها الشعبية والاشتراكية، وبهذا تكون قد وقعت صك اضمحلالها. يمكن القول أن المغرب اليوم بدون أحزاب يسارية قوية وحتى متوسطة، وهنا توجد عين الازمة السياسية ببلادنا.
لكن كل منظومة تستبطن حفار قبرها استعارة للقول الماركسي، فبموازاة ماكينة استنبات الفساد، تتدرب اليوم أجيال من النساء والرجال على التنظيم وتدبير الشأن العام والوقوف بالملموس على أشكال الفساد… عبر ما يتيحه قانون تنظيم الجماعات الترابية من لجن موازية تشرك المجتمع المدني مع كل ما يعتري هذه التجربة من شوائب.
الإصلاح الديمقراطي وموازين القوة
لم يعد العنف واردا في أجندة الفعل السياسي المغربي من أجل التغيير الديمقراطي. كل ما يُتسلح به وعيٌ وإرادةٌ في الإصلاح بطرق سلمية، من تعبيرات بكل أصنافها، أو مقاطعة أو تظاهر في الشارع، وفي أقصى الحالات، عصيان مدني. ولا يتأتى كل شكل من هذه الاشكال، متفرقة أو مجتمعة، إلا إذا توفرت شروطها، واتقدت شعلتها. يمكن القول إن للمغرب رصيد احتجاجي مبتكر جدير بالاهتمام، لا نزال حتى الان غير قادرين على رسملته وتحويله إلى إصلاحات ديمقراطية مستدامة. فكلما أطلِقت دينامية احتجاجية، لا يعدو ما نقوم به التنديدَ والتضامنَ، لنعود إلى نقطة الصفر مضيعين الفرص تلو الأخرى.
ولكن من أكبر عوائق تقدمنا في بناء قوة ضاغطة من أجل الإصلاح الديمقراطي، أننا لا نزال لم نتوافق على مضمونه على الأقل وسط من يؤمنون فعلا به. فمن يختزله في صناديق الاقتراع، ومن يحصره في الإصلاح السياسي فقط، وقليل من الفاعلين من يأخذوه في شموليته السياسية والاجتماعية والثقافية، ويجعلون من دمقرطة الدولة والمجتمع كل لا يتجزأ. ولا يبدو في الأفق المنظور إمكانية التوافق حول مضمونه، ولا إمكانية الفعل المشترك بين هذه القوى وإن تعددت الحراكات أواشتدت. وهذا لعمري لا يخدم إلا أعداء الإصلاح.
في غياب قوة يسارية حقيقية في الساحة قادرة على التأثير واستنهاض الدينامية الشعبية، لا يبقى أمامنا، من أجل فرض فتح النقاش العمومي الشامل والجذري، إلا هذه الحركات الاحتجاجية الشاملة التي لا تظهر إلا بعد مرور وقت لا يقل عن العشر سنوات، اختصارا لما عرفته تجربتنا المغربية. لكن تبقى جودة استثمارها للتقدم في الإصلاحات، موكولةً للقوى الحية الموجودة بالتأكيد في مختلف المجالات، وليس لمن يخرج إلى الشارع. وهو ما لم نقم به في 2011، ولا يبدو أننا جاهزين للفعل الإصلاحي فيما توفره حركة "جيل زد".
هل استنفدنا الإمكان الدستوري؟
في ظل التقاطب الأيديولوجي السائد اليوم، يبدو أننا لا نزال لم نستنفد بعد كل الإمكان الذي يحبل به الدستور الحالي بالنسبة لإرساء دعائم دولة حديثة دمقراطية يسودها الحق والقانون التي تتصدر الدستور في فقرته الأولى، وتعدد مشارب الهوية التي يتبوأ فيها الدين الإسلامي مكانة الصدارة، في الفقرة الثانية، ومكافحة جميع أشكال التمييز في فقرته الرابعة. هذا النفس التقدمي للدستور سيتم تعطيله في فصول أخرى. من المستفيد من هذا التعطيل؟ الحقيقة الواحدة الموجودة هي أن الوطن هو الخاسر الأول.
صحيح أن الدستور يعكس داء التقاطب الإيديولوجي الذي يعيق تفعيل مضامين التصدير الإيجابية، غير أن هذا الاحتباس سوف لن يحله إصلاح جديد للدستور لأن السياق الذي أنتجه لا يزال قائما، ولا نشعر أن هناك مجهودا قائما لتجاوز معيقات بناء تعاقد اجتماعي جديد، أو على الأقل لم تنضج ظروفه بعد. ولذلك، ما يطرح اليوم وبحدة هو التعاقد الشعبي أولا، بمعنى التعاقد بين القوى المجتمعية الحية حول القضايا الجوهرية للبلاد. أساسا حول طبيعة النظام السياسي للدولة، والمجتمع الذي نطمح إليه، وعلى الخصوص، بإخراج إشكاليات المساواة بين الجنسين من الاحتقان الأيديولوجي والارتقاء بما يختزنه الإمكان الحضاري لتجربتنا التاريخية. هاتان مسألتان أساسيتان، إذا تعاقدت فيهما هذه القوى، سوف يصبح الإصلاح الحقيقي وإعادة التوازن للسلط مع استقلاليتها، أمرا ممكنا وقابلا للتفعيل. وبهذا المعنى نحن، المؤسسات المدنية بمعناها الشامل، نتحمل مسؤولية كبرى فيما يحدث ببلادنا من جميع أشكال الشطط في استعمال السلطة لأغراض متعددة ذاتية ومؤسسية. وإلى حين ذلك، هناك إمكان مهم علينا تفعيله وفي خضمه فتح النقاش بين القوى من أجل ما سميته بالتعاقد الشعبي.
علينا أن نعترف بعدم جهوزية الفعل السياسي التغييري القادر على تحويل الاحتجاجات إلى فعل سياسي قابل للإنجاز وتحقيق ما يطلبه الناس من حقوق مشروعة. علينا أيضا معرفة المقاومات للإصلاح وتقدير حجمها. علينا أيضا طرح سؤال استقلالية الدولة في قرارتها الوطنية الداخلية والخارجية، ووضعه في حجمه الحقيقي لقطع الطريق على سياسة التخويف وثقافة الخوف، حماية للمواطن والدولة معا لأن هذه الأخيرة لا تكون آمنة إلا بمواطنيها الذين يطالبون اليوم بالاستثمار فيهم أولا.
الملكية البرلمانية، مدخل للديمقراطية أم أفق لها؟
من دون أدنى شك أن السياسة كما تمارس اليوم مسلوبة المعنى الديمقراطي. وقد أصبحت فئات واسعة من الشعب على وعي بأن الانتخابات مجرد عملية شكلية بدون مضمون ديمقراطي، فإن كانت تُؤَمِّن تجديد النخب بالنسبة للدولة، فإنها لا تعبر عن صوت الشعب ولا تمثله. فهل دعوة الشباب للانخراط فيها بشكل مستقل سوف يكون نافعا على المستوى الشعبي، ويعوض أزمة الحزب؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون الطلقة الرحيمة لمكون أساسي للديمقراطية المتعارف عليها حتى اليوم، ألا وهو المكون الحزبي؟
ليس لنا حزبا ممن يمكنه إذا ترأس الحكومة أن يفعِّل صلاحيته في اقتراح مشروع قانون عفو شامل على مجلس الوزراء (الفصل 49 من الدستور)، على سبيل المثال، وغيرها من الصلاحيات الأخرى التي يتقاسمها مع الملك. وليس لنا برلمان قادر على الخوض في قرارات المجلس الوزاري، ولا في ميزانية القصر أثناء مناقشة قوانين المالية، وتتصدر تقارير المؤسسات الدستورية كلها بدون استثناء الخطب الملكية قبل النصوص الدستورية جاعلة بذلك المرجع الملكي فوق المرجع الدستوري الذي من المفروض أن هذه الوثيقة هي التي تؤطره، والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى من الممارسات التي يمكن تجنبها في إطار الدستور الحالي.
لذلك يبقى مشروعاً طرحُ سؤال هل الملكية البرلمانية حل للاحتباس الديمقراطي الذي نعيش؟ من المؤكد أنها ليست، والحالة هذه، حلا سحريا، بل بوابة ترشيد السياسة الديمقراطية ببلادنا وإعطاء معنى للمشاركة الشعبية فيها والقطع مع العبثية وتسفيه صوت الشعب. ولكن الملكية البرلمانية بالنسبة لتجربتنا، في غياب تنظيم اليقظة الشعبية، سوف لن تفيد إلا تجار السياسة. وبالمناسبة، فإن الملكية الدستورية التي تعيشها بلادنا في أدنى مستوياتها دستوريا، أي ملكية تنفيذية هجينة بين المطلقة والدستورية في ظل ضعف النخب الوطنية المستقلة، لم تمنع الأليغارشية الحاكمة من استغلال نفوذها في تعزيز أعمالها، ولم تسائل الحكومة وبرلمانها عن عدم التقصي فيما طرح من قضايا تضارب المصالح، والاغتناء الفاحش … الخ.
إن النظام السياسي كما يمارس اليوم على ارض الواقع، لم يعد مقبولا من طرف فئات واسعة من الرأي العام، بل أصبح مستهجنا، على الدولة الانتباه إليه والقيام بجعله ينسجم مع مقتضيات الدستور، لأن في ذلك خطورة على الاستقرار والتقدم. فهذا التقابل المتعارض بين أوراش ملكية مهيكلة ناجحة، وعمل حكومي متعثر، وجهاز تشريعي عاجز، يشكل أكبر خطر على الديمقراطية، وعلى مستقبل المغرب. فهل الملكية البرلمانية، والحالة هذه، مدخل للديمقراطية أم أفق لها؟
المجالس الدستورية، ما فائدتها؟
قبل الخوض في أهمية هذه المؤسسات (الحكامة، الديمقراطية التشاركية، حقوق الإنسان)، لا بد من التذكير بأنها كانت أولا مطالب يسارية ونسائية، استُجيب للبعض منها بشكل متأخر، ولازالت أخرى لم تعرف حظها في التنزيل؛ ولابد كذلك من التنبيه إلى فضائل فتح قنوات النقاش العمومي والحوارات الوطنية على حث الذكاء الجماعي، وبناء الوعي المدني السلمي وأشكال فعله النضالي. وفي هذا الصدد، علينا الاعتراف بأن انفتاح الدولة على فئات واسعة من المواطنات والمواطنين، مع حكم الملك محمد السادس، غير مسبوق. فقد تعدد محطات المشاورات، من العدالة الانتقالية، وتقرير الخمسينية، والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، والنموذج التنموي الجديد، ومنهجية إصلاح المدونة، ومنهجية إعداد مسودة الدستور 2011…هي مناسبات عديدة فتح فيها النقاش العمومي، وإن كان في ذلك ما يقال علاقة بالتحكم في وتيرته وتوسعه وتفعيل مخرجاته… الخ.
ولكن لماذا رغم هذا الانفتاح لم نستطع أن نقدم خدمة عمومية لائقة للمواطن والمواطنة؟ ولماذا لم نستطع الوقوف على سكة الديمقراطية بفصل السلط ونفاذ القانون وإعلاء الحق؟ هل لأن عمليات المشاورات تكون فوقية؟ أم انها لا تمس الفئات الشعبية الواسعة؟ أم أن النخبة لا تلعب أدوارها المتمثلة في النزاهة الفكرية والجرأة في النقد والبناء. فإذا كان للدولة اليد العليا في كل الحوارات الوطنية التي اقتضتها الظروف السياسية، فإن ذلك غالبا ما تم بمباركة ضمنية أو واضحة للنخب.
ما فائدة المجالس الدستورية؟ سؤال استنكاري تجده يتردد في بعض الخطابات التي تذهب أحيانا إلى حد اعتبارها مجرد ريع تشترى به النخب. ولكن هذه الأطروحة غالبا ما لا تقف بما يكفي على طبيعة وحجم وأهمية العمل الذي تقوم به هذه المجالس، في تتبع السياسات العمومية، ومدى احترام القوانين التي ننتج، وتوفر المعطيات التي يصعب على القوى المدنية الحصول عليها. بل إن تقاريرها تشكل في معظم الأحيان ركائز يُتسلَّح بها في مرافعات مناهضة للفساد وغيره. يسمى هذا الصنف في التجارب الديمقراطية بالمجتمع المدني المنظم الذي يتمتع بصلاحيات دستورية تجعل كلمته مسموعة إن لم تكن نافذة حسب درجة الديمقراطية المعمول بها. فما أنتجه على سبيل المثال كل من مجلس المنافسة ومجلس محاربة الفساد والمجلس الاقتصادي، وغيرها من المجالس الأخرى، من التقارير يمكن أن تشكل قاعدة بناء وعي سياسي مدني إذا ما عرفنا كيف نرصده.
ليس أمامنا خيارات كثيرة، فإما القطيعة العدمية ذات الأفق المسدود، أو الإصلاح المستند على الإيجابي في تجربتنا. يتناغم سيناريو القطيعة مع خطاب ثوري رافض لا يرى أي أفق لما نحن عليه إلا القطيعة مع كل ما يأتي من جهة الدولة، بما فيها الإيجابي الذي لا ينعكس على حياة الناس اليومية من حيث الفوارق في التعليم والصحة ومستوى العيش التي تتفاقم بشكل مستمر. نعم الفوارق تتزايد بين شرائح واسعة من الفقر والهشاشة، وبين من يزيدون اغتناء بشكل لاأخلاقي لأنهم يثخنون أكياسهم في لحظات عصيبة على الناس بدون رحمة ولا مراقبة ويستفزون ذكاء الشعب بتبرجهم الذي تفضحه الوسائل الرقمية على نطاق واسع جدا.
غير أن هذه المؤسسات التي نلعن، ونعتبرها فقط تستقطب الأصوات والنخب، من دون جدوى وتشجع على ثقافة الريع، الم نتساءل من هي هذه النخب، وكم عددها، وما هي الأدوار التي تلعبها في هذه المؤسسات، وما هي آثارها فيما تنتجه من آراء وتقارير…الخ.
وفي مطلق الأحوال، لا يجد المنتقدون لها بدا من الرجوع إلى تقاريرها، وإن لم تفعل إلا هذا، فهي مهمة وضرورية. وعلى كل حال، فهذه المؤسسات كانت تشكل مطلبا ديمقراطيا ولم تكن هبة، ويبدو أن الدولة لم تعد مكترثة كثيرا بها، ولربما أصبحت تزعجها أكثر. نأخذ المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يشارف 15 سنة من عمره، وتغيرت رئاسته أربع مرات خلالها، وانسحب العديد من عضواته وأعضائه إما بيولوجيا بالموت، أو لأسباب أخرى. الرفض المطلق سهل ومدمر، والترصيد على المنجز دائما عملية معقدة وصعبة وبناء ثقافة المؤسسات اليقظة مطلوب جدا.
حركة "جيل زد".. إنهم يحاولون إعطاء معنى للسياسة
ما أن خرجت الحركة للعلن حتى بدأ الضغط عليها من جميع الأطراف، حكومية وحزبية وفعاليات مدنية. فمن يدعوها للحوار كأنها تتوفر على برامج مضبوطة، ومن يدعوها للانخراط في الأحزاب أو أن تؤسس حزبا لها كأنها تشكل كلا منسجما، ومن ينتظر ديمومة عنفوانها حتى تقوم بما عجزنا عن فعله. لعمري، هذه الدعوات مجتمعة غير مناسبة، وتُشم منها رائحة صراع خفي، كأنما يقال للشباب: "إِوا، وَرِّيوْنا حنة ايديكم". فمتى كانت انتفاضات الشارع تعطي برامج وتتحاور؟ ألا تعكس هذه الدعوات كلها الأزمةَ التي وصلتها النخبة المغربية؟ فعوض هذه الدعوات غير المجدية، بالأحرى العمل على رسملة اللحظة لإثراء النقاش العمومي من لدن الفاعلين المدنيين، وعلى الخصوص، الحزبيين من أجل تقديم البدائل القمينة بإعطاء أجوبة لمطالبهم، وتبني مطالبهم وتضمينها ضمن برامجهم والوعد الصادق بتفعيلها إذا ما وصلوا للسلطة الحكومية، كما يتعهدوا لهم في حالة إذا ما وجدوا عراقيل لترجمتها إلى سياسات عمومية، ان يعلنوا استقالتهم، وما إلى ذلك.
ألا يستحسن أن يبقى هذا الجيل اليوم خارج العمل السياسي المباشر، على الأقل في الزمن المنظور، ليلعب دور اليقظة من خلال أشكال عمل هجينة بين الواقع الافتراضي والمادي، حتى يستقيم العمل السياسي بالمغرب ويكتسي مضمونا ديمقراطيا، بأن يصبح فصل السلط مفعلا، وتتعزز صلاحيات المؤسسات المنتخبة وتتوازن…الخ.
من أجل مراقبة مدنية موازية للسياسات والمرفق العمومي:
عندما يصبح الفساد مستشريا بشكل بنيوي في مفاصل الدولة والمجتمع، وتصبح أضراره عميقة تضر بالوطن والناس، هل تكفي المبادرات التي تقوم بها الدولة وإن كانت لها إرادة حقيقية في محاربته؟ يبدو أن تجربة المشاركة المواطنة في إطار الديمقراطية التشاركية التي أتاحتها القوانين تحتاج اليوم لعملية تقييمية مستقلة حتى تقوم فعلا بالأدوار المناطة بهذا الصنف من العمل المدني. ولكن يبدو أيضا أن لا مخرج لنا مما نحن عليه إذا لم نقم بتحصين هذه المبادرات والمطالبة بتطويرها وضمان استقلالها، وهذا لا يتأتى إلا بتنظيم المراقبة المدنية بشكل منظم شبكي يبدأ من الأحياء، بالأشخاص النزهاء من النساء والرجال، يسجل الخروقات والتظلمات مستعملا ما تتيحه التكنولوجيا الرقمية، ويرفعا بشكل عمومي لمن يعنيهم الأمر وينظم حولها الأعمال الضرورية لحلها، ليصب في شكل من أشكال العمل على مستوى المدينة أو الجماعة القروية. لم تعد لنا من إمكانيات أخرى لإعادة الصلة بمتطلبات الناس وحاجياتهم، من مختلف طبقاتهم المتوسطة وفي وضعية هشاشة أو الفقيرة في المدن والأحياء الهامشية والقرى، إلا أعمال اليقظة الشعبية القريبة من الحياة اليومية للناس. مع الانفتاح، لما تتيحه تكنولوجيا الاتصال، على أشكال الممانعة الأممية لأليغارشية رأسمالية المراقبة والاقتصادات المخربة للبيئة والإنسان.
الجزء الثاني: الاقتصاد والاجتماع، أين الوجهة؟ (يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.