يسود في الوقت الحالي بين المشتغلين في أوساط التعليم والثقافة والنشر نقاشات عن استفحال أزمة القراءة نتيجة تراجع الإقبال على الكتب وفقدان فعل القراءة لقيمته وأهميته. لكن هذا الاستنتاج العام قلما يستند إلى معطيات دقيقة تعتمد مقاربة واضحة لتحليل المعطيات وتميز بين أنواع وأشكال وأبعاد الفعل القرائي. أعتقد أن أحد أسباب ذلك هو عدم وجود تمييز واضح بين النصوص الأدبية وغير الأدبية. لذلك نجد أن أغلب الفرضيات لفهم القراءة لا تأخذ بعين الاعتبار اختلاف عملية القراءة لدى كل شخص مع إغفال شبه كلي لعملية التناص أثناء القراءة رغم أهميتها. ففي جميع السياقات التي يتم فيها مشاركة القراءة النصية وتجربتها، والتي يكون فيها القارئ محور الفعل التواصلي، يتحقق التعلم الذي يتجاوز المعرفة البسيطة بالمحتوى ويتوسع إلى تطوير الإبداع والتفكير النقدي. تُعتبر القراءة اليوم فعلاً أساسياً في حياة الإنسان المعاصر، فهي ليست مجرّد مهارة مدرسية، بل فضاء رحب لبناء وعي نقدي وجماعي يُسهم في قيام مجتمع ديمقراطي مبدع. غير أنّ المفارقة العجيبة تكمن في أنّنا نعيش زمنًا تُدافع فيه المؤسسات عن القراءة بشغف، بينما تتفاقم في الواقع أزمة القراءة. فالمؤشرات كثيرة ومقلقة: الطلاب في مختلف المراحل يقرؤون أكثر من أي وقت مضى من حيث الكم، لكنّ قراءاتهم سطحية، آلية، بلا فهم أو تأمل. نشتري الكتب ونشارك صورها على مواقع التواصل، لكن كم منّا يقرأ فعلاً؟ بل كم منّا يعيش القراءة كتجربة فكرية وإنسانية؟ تذهب بعض الاتجاهات إلى جعل القراء مجرد متفرجين، مع تكليفهم بدور إعادة إنتاج ما يقترحه الخبراء أو المدرسون فقط؛ وإلا فإن مصيرهم سيكون الرسوب كقراء. لهذا، غالبًا ما يكون الهدف داخل الفصول الدراسية هو النجاح في مادة معينة، وبالتالي نيل رضا الأستاذ(ة)، دون أن يكون هناك أي مجال لمساءلة طريقة مقاربة النصوص المدرسة من الناحية المنهجية. بناءً على هذا المفهوم، يتم إقصاء القراء مع إهمال دورهم الإبداعي، إذ يصير دورهم مقتصر فقط على تكرار ما يقوله النص بالطريقة التي يفهمه بها المدرس أو الناقد لا غير. لذلك، صار من الضروري مراجعة الاستراتيجيات التي يتبعها المدرسون في أنشطتهم الصفية، بشكل يعيد الاعتبار لأدوار القراء/الطلاب كمشاركين في الإبداع وبناء النصوص. تمثل القراءة الأدبية محور هذا التصور، إذ يُقترح تناولها من منظور متعدد الاتجاهات، وهو تصور عملي يعتمد القراءة التناصية كأداة للمشاركة الفعالة للقراء في "الإبداع الأدبي". ومن هذا الإطار المفاهيمي لا بد من الأخذ بعين الاعتبار القيمة المتعددة الأصوات والاتجاهات للنصوص الأدبية، سواء من حيث التناصّ أو من وجهة نظر القارئ. المنظمات الدولية مثل اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) دقّت ناقوس الخطر منذ سنوات، إذ تُظهر تقاريرها فجوة متزايدة بين تعلم القراءة وممارستها الفعلية. ولئن قدّمت بعض البرامج التعليمية حوافز مالية أو مسابقات لتحسين مهارات القراءة، فإنّها أحياناً تُحوّل القراءة إلى سباق للنتائج، بدل أن تكون بحثًا عن المعنى، وتواصلاً حيّاً مع النصوص والعالم. لكن الأزمة ليست قدراً محتوماً. فمفهوم التناص – أي الحوار بين النصوص والأفكار والتجارب – يمكن أن يعيد للقراءة روحها الحيّة. حين يقرأ الطالب نصًا في ضوء ما قرأه أو عاشه سابقًا، حين يربط رواية بمشهد من فيلم، أو قصيدة بأغنية، فإنه يُصبح قارئًا فاعلاً، منتجًا للمعنى لا مستهلكًا له. القراءة الحقيقية هي التي تُنصت لتعدّد الأصوات، وتمنح القارئ حرية التأويل والمشاركة. وهي أيضًا التي تستفيد من الإمكانات الهائلة التي توفرها تكنولوجيا المعلومات والاتصال، دون أن تفقد جوهرها الإنساني. في النهاية، نحن جميعاً – معلمين وطلابًا وآباء – مسؤولون عن إحياء فعل القراءة. علينا أن نعيدها إلى مكانها الطبيعي: فضاءً للتفكير الحر، ولإعادة اكتشاف الذات والعالم. فالأمم لا تُقاس بعدد كتبها، بل بنوعية قرّائه.