يبدو أن جيل الزد قد أصبح اليوم مهيّأً، لا في المغرب وحده، بل في العالم بأسره، لأن يتقدّم الصفوف ويعيد تعريف معنى السياسة والأخلاق والمواطنة. هو الجيل الذي وُلد عند تقاطع الشاشات والخرائط والأفكار؛ جيلٌ لم يعد الانتماء عنده مسألة جغرافية بقدر ما هو وعيٌ ومعرفة، ولم تعد الوطنية عنده شعاراً بل مسؤولية أخلاقية تجاه الإنسان والعدالة والمعرفة. في المشهد السياسي الذي أفرز فوز زهران ممداني، يتبدّى الحدث بوصفه أكثر من مجرد انتصار انتخابي؛ إنه إعادة صياغة للنحو السياسي للمدينة، وللغة التي تُبنى بها تصوّرات الحكم والعيش المشترك في الحاضرة الحديثة. فبانتصاره، لم تعد السياسة في نيويورك مسرحًا للمنافسة بين وجوهٍ أو أحزاب، بل أصبحت ساحةً لإعادة توزيع المعنى ذاته: من يملك حق الحديث باسم المدينة؟ من يُعرّف مستقبلها؟ وكيف يمكن لمدينة عظيمة أنهكتها أزمات السكن، واتساع الفوارق الطبقية، وتفكك النسيج الثقافي، أن تُعيد تخيّل ذاتها؟ لقد نجح ممداني في تحويل الغضب الصامت إلى مشروعٍ لغوي وسياسي متكامل، يستمد شرعيته من التجربة اليومية للمهاجرين والمستأجرين والشباب الذين شعروا طويلاً أن المدينة لم تعد تنتمي إليهم. فالأرقام القياسية في التصويت، والالتفاف الشعبي الواسع حوله، يؤكدان أن فوزه لم يكن حادثة انتخابية عابرة، بل ثمرة وعيٍ مدنيٍّ جديد يتجاوز الولاء الحزبي إلى إدراكٍ جمعيٍ بضرورة استعادة المدينة إلى سكانها الحقيقيين. إن ما حدث لا يمثل مجرد تبدّلٍ في الوجوه، بل تحوّلًا في مفهوم المواطنة الحضرية ذاتها: أي نوعٍ من المطالب تعترف به المدينة كشرعي، وكيف يمكن إعادة توزيع السلطة والموارد في فضائها العام. فبرنامج ممداني القائم على العدالة السكنية، والنقل العام، واحتضان المهاجرين، يشكّل سردًا مضادًا للمدينة النيوليبرالية التي حوّلت الحياة إلى سلعة. لقد جاء فوزه ليعلن لحظة انعطاف معرفي وثقافي، تعيد تعريف سؤال "من يحكم؟" إلى سؤالٍ أعمق: "كيف يتخيّل المواطنون أنفسهم؟ وكيف تدعوهم السلطة إلى تخيّل المدينة التي يعيشون فيها؟" إنها لحظة ميلاد تخيّلٍ حضريٍّ جديد، تتقاطع فيه الهوية والهجرة والطبقة والثقافة، لتعيد للمدينة معناها، وللسياسة شرفها المفقود. وهنا، يمكن للمرء أن يرى الجسر الممتد نحو المغرب. ففي جيل الزد المغربي يمكن أن نلمح ملامحَ العديد من "الممدانيين" المغاربة — شبابٍ يمتلكون الرؤية والجرأة والخيال الأخلاقي والاجتماعي. لكن الفارق لا يكمن في القدرات بل في البيئة السياسية التي تُتيح أو تُقيّد. قبل أسابيع، سُئل النائب الحاج محمد السيمو، رئيس جماعة القصر الكبير، عن رأيه في تمكين الشباب من جيل الزد من خوض الانتخابات والقيادة، فأجاب: "نعم، ولمَ لا؟... لكن هذا لا يكفي، فالشباب يحتاجون إلى الكثير حتى يفوزوا." السيمو، وهو بالكاد متعلّم، يمثّل مدينةً تئنّ تحت الإهمال والتهميش، وتعيش سنواتٍ من الانحطاط العمراني والاجتماعي رغم أنه يجمع بين صفة النائب البرلماني ورئيس مجلسها البلدي في الوقت ذاته. لكن وراء هذه العبارة — "يحتاجون إلى الكثير حتى يفوزوا" — تختبئ ذهنيّةٌ سياسيةٌ كاملة تُلخّص مأزق المغرب المعاصر: أن النجاح في السياسة لا يُقاس بالكفاءة أو الرؤية، بل بالقدرة على بناء الولاءات، والتحكّم في شبكات المصالح، ومراكمة الرموز السلطوية التي تجعل من الشباب المتعلم والمستقلّ مشروعاً خطراً قبل أن يكون مشروعاً إصلاحياً. إن "الكثير" الذي تحدّث عنه السيمو لا يعني الخبرة أو الثقافة أو النضج، بل الكثير من الانحناء، الكثير من الصمت، والكثير من التنازل أمام من يملكون القرار والمال والإعلام. إنها صيغةٌ ناعمة لتكريس مبدأ قديم: أن السياسة ليست مجالاً للحلم، بل حقلٌ مغلقٌ تُدار فيه المصالح لا القيم. العالم اليوم لم يعد يبحث عن حكّامٍ، بل عن صُنّاع معنى. والمعنى يولد عادةً من أجيالٍ لم تتلوث بعدُ بصفقات الماضي ولا بحسابات النفوذ. إن الممدانيين المغاربة الذين لم يُسمح لهم بالظهور بعد، والذين خنقتهم البنى القديمة، يُجسّدون ما كان يمكن أن يكون عليه المستقبل لو أُتيح لهم أن يحلموا ويتكلموا كما فعل ممداني في نيويورك. ربما آن الأوان لأن تُدرك السلطة و النخبة السياسية في المغرب أن جيل الزد ليس تهديداً، بل وعداً بالتجدد — وعداً بالشجاعة الأخلاقية والخيال المدني. وحين تتغير الثقافة السياسية لدينا، لن نحتاج إلى استيراد رموز الشباب والتقدّم من الخارج. ف الممدانيون بيننا — ينتظرون فقط أن يُسمَع. ولعلّ الأمل يبقى أن تصل هذه الكلمات يومًا إلى السيد محمد السيمو، فلا يعلّق عليها بعبارته المعتادة «شلا يقول هذا؟»، بل يتوقّف لحظةً ليتأمّل ما إذا كان جيل الشباب حقًّا يستحق أن يُمنح الفرصة ليَفوز — ولكن بطريقةٍ مختلفة، لا تُقاس بالولاء بل بالكفاءة، ولا تُشترى بالمال بل تُصاغ بالمعنى والحلم. أستاذ الدراسات الثقافية بالولايات المتحدة الأمريكية