لا يمكن فهم الحملة الاستعمارية على المغرب عموما والريف بشكل خاص خارج السياق الحضاري للتدافع الحتمي بين أمتين تحملان مشروعين متعارضين (المغرب والغرب المسيحي)،ولاشك أن الأمة المغربية التي دب الوهن في أوصالها بعد وادي المخازن وخفت إشعاعها تدريجيا ، ظلت تحتفظ بمقومات النهوض كاملة غير منقوصة لا تنتظر غير الفرصة السانحة لاستعادة بريقها تماما مثلما كان ينتظر أعداؤها فرصة الا نقضاض عليها ،وكذلك شأن كل الحضارات فإما أن تكون في مد أو جزر ، يقول المؤرخ محمد العلمي : "أما رغبة إسبانيا في احتلال الريف فكان مرجعها كما قال كثير من المؤرخين الانتقام من العرب الذين احتلوها خلال سبعة قرون وضمانة ضد هجوم الإسلام على المسيحية في إسبانيا " ، وهكذا ومنذ "إيسلي" عام 1844 م سيقف المغرب موقف الدفاع من الهجوم الاستعماري وستشكل أنوال منعطفا هاما في تاريخه كاد أن يعيد عقارب الزمن إلى أجواء الزلاقة والأرك لولا إدراك القوى الاستعمارية لخطورة الموقف ودقته ومسارعتها لاحتواء تداعياته . الصفعة التي أشعلت فتيل المواجهة معلوم أن منطقة الريف قد شهدت ضعفا ملحوظا فيما يخص حضور المخزن حتى قبل وصول الحملة الاستعمارية ، غير أن النظم القبلية عوضت غياب السلطة إلى حد ما، وهكذا فقد عرف الريف "تارفيقت" كنموذج لانخراط مجموعة من القبائل في حلف يحفظ أمنها ويرد عنها صائلة المعتدين ، وعلى رأس تارفيقت كانت القبائل تعين رئيسا يحمل لقب "أمغار" يلجؤون إليه في فض النزاعات ويلتزمون بأحكامه ،ومعلوم أيضا أن الوازع الديني عند هذه القبائل كان قويا وأن الفقهاء والشرفاء وطلبة العلم كانوا يحظون فيها بمكانة خاصة وقد كان عبد الكريم الخطابي واحدا من وجهاء الريف المرموقين وقد لعب دورا هاما في هزيمة "بوحمارة" ولأنه أدرك أهمية العلم في توسيع دائرة نفوذه بين القبائل الريفية فقد وجه ولديه لطلب العلم مبكرا فأرسل امحمد إلى مدرسة المعادن بمدريد ومحمد لدراسة العلوم الشرعية بالقرويين ولدى عودة محمد إلى أجدير بعد إتمام دراسته ألحق بالإدارة الإسبانية ليشغل وظيفة مدرس بمليلية ،وسرعان ما ظهر نبوغه فعين مترجما ومن ثم قربه القادة العسكريون الإسبان من أمثال "الكولونيل موراليس" و " جوردان " و "بيرانغير" ثم عين قاضيا على منطقة مليلية نظرا للمكانة التي كان يحظى بها آل الخطابي آنئذ ، ولم يكن تقرب محمد بن عبد الكريم من الإسبان ليقبر مشاعره القومية والوطنية والدينية التي ما فتئت تثور بداخله كلما عاين عن كثب فداحة الظلم الذي ينزله الإسبان بإخوانه في الدين والوطن، وقد احتدم الخلاف مرة بين محمد بن عبد الكريم والجنرال سيلفيستر بعد أن رأى هذا الأخير أن الاستعمال المفرط للقوة بالريف هو السبيل الوحيد لبسط السيطرة عليه ، فاحتد الجنرال وصفع محمد بن عبد الكريم الذي أحس أن تلك الصفعة هي واحدة من الصفعات التي وجهت لكل المغاربة الأحرار يومها وأنها أهون من احتلال الأرض وتدنيس العرض فعقد العزم من يومها على أن يقتص لنفسه ولأمته على حد سواء . معركة أنوال ألقي القبض على محمد بن عبد الكريم وسجن في قلعة "كباليريزاس" فحاول الهروب ولم يفلح وتسبب له سقوطه من سور عال في تلك المحاولة في إعاقة دائمة ، وعلى مدى سنة داخل سجنه تغذى إيمانه بضرورة طرد المستعمر من البلاد وبأن الخلاص هو خلاص الأمة جمعاء وليس خلاصه الفردي، وبعد خروجه من السجن راح يتحين الفرص للانقضاض على عدوه فلما انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وأحست ساكنة الريف أن الخطر الإسباني تزايد في الشمال المغربي بعد انكسار الألمان الذين دعموا بعض الزعامات الريفية للوقوف ضد فرنسا ،ومع دخول برانغيز إلى الشاون مدينة الأولياء تعاظم شعور أهل الريف بالأخطار المحدقة بهم وأعلن عبد الكريم الخطابي الحرب على الإسبان وقاد الهجوم الأول على معسكر تافريست بنفسه وكان أن لقي حتفه فيه، فالتف الناس حول ابنه محمد ،وبعد توالي الهجمات على مراكز الإسبان أصدر الجنرال سيلفيستر أوامره للقوات المتمركزة بأنوال بالتحرك لسحق ثورة الريف وقد حقق محمد بن عبد الكريم ورجاله يومئذ نصرا مهما في منطقة "ظهر أبران " مما دفع بالمئات من أبناء القبائل الريفية للالتحاق به ،وقد بلغ عدد قواته بعد موقعة ظهر أبران ثلاثة آلاف مقاتل فشرع حينها في تنظيم رجاله وفي بناء المواقع الدفاعية وفي انتزاع النقط الإستراتيجية المحيطة بأنوال ، ورغم أن قوات محمد بن عبد الكريم لم تتجاوز خمسة آلاف مقاتل وكان عليها مواجهة جيش يصل عدد جنوده إلى عشرين ألف جندي تام العدة والعتاد فقد لجأ المغاربة إلى قطع خطوط التموين عن سيلفيستر ورجاله وإلى توجيه المياه في الجبال إلى المنطقة المحيطة بأنوال فتحولوا ضواحي أنوال إلى أماكن مليئة بالأوحال يتعذر التنقل فيها بالآليات الثقيلة وتحول العتاد الحربي للعدو إلى نقطة ضعف قاتلة . وقد أدرك سيلفيستر دقة الموقف وخطورته وأيقن أن معركة الحسم قد اقتربت وأن مصير أمته معلق بنتائجها فحاول الإفلات من الشرك، ولجأ إلى الخداع فرفع جنوده أعلام بيضاء ودعوا إلى التفاوض وأرسل إليهم الأمير وفدا من ستين شخصا للنظر في مطالبهم، فأجهز عليهم سيلفيستر دون مراعاة لأعراف الحرب، فسرت الحمية في نفوس جنود الأمير وانطلقوا يوم 22 يوليوز من عام 1921 م إلى مواقع الإسبان يدكونها دكا ويقتلون كل من يقف في طريقهم بعد الغدر الذي بدر منهم في حق إخوانهم، وقد اختلفت المصادر في تحديد عدد قتلى الإسبان في أنوال بين قائل بأنهم ستة عشر ألف قتيل وقائل بأنهم خمسة وعشرون ألف قتيل ، وأما الجنرال سيلفيستر فأشار صاحب الظل الوريف الشيخ أحمد سكيرج إلى أنه قتل بأيدي المغاربة ونقلت مصادر أخرى أنه انتحر بعد أن استعصى عليه تقبل هزيمته الفادحة ،وقد غنم المغاربة في هذه المعركة مائة وخمسين مدفعا ثقيلا وخمسة وعشرين ألف بندقية وملايين الطلقات وأسروا المئات من الجنود والضباط ، وقد أمر الأمير رجاله بالإحسان للأسرى وإطعامهم ،وتنازل لهم المغاربة عن أغطيتهم فضربوا مثالا رائعا في رقي حركتهم التحررية العادلة، ونبل مقاصدها ،وقد نقل صاحب الظل الوريف أن أسيرة إسبانية رفضت الالتحاق بأهلها بسبب حسن معاملة المغاربة لها . وبعيد المعركة تتبع جنود الأمير فلول الهاربين وأجلوهم عن الريف حتى لم يعد في أيدي الإسبان غير مليلية وسبتة . تداعيات أنوال على المستوى الداخلي استثمر محمد بن عبد الكريم انتصار أنوال على أكمل وجه ووضع النواة الأولى لدولة حديثة بكل المقاييس ففي عام 1921م أعلن الأمير عن تأسيس حكومة الريف التي اتخذت من أجدير مقرا لها ،وقد أسندت له رئاستها وأسندت فيها وزارة المالية لعمه عبد السلام ووزارة الخارجية لمحمد أزرقان ووزارة الحربية لأحمد بودرة و العدلية لمحمد بن عمارة والداخلية للشيخ اليزيد بن عبد السلام . وقد أولى الأمير أهمية خاصة لتنظيم الجيش فكون قوات نظامية أجرى عليها مرتبات قارة ،وأبقى الكثير من المقاتلين في حالة تأهب يلتحقون به عند الحاجة ،وكانت تعبئة المتطوعين تتم بشكل دقيق ومنضبط كما أن عمليات التدريب على استخدام السلاح وصيانته كانت مستمرة في معسكرات أقيمت خصيصا لهذا الغرض ، ومن المدهش حقا أن قوات محمد بن عبد الكريم قد بلغت عام 1925م إلى مائة وخمسين ألف مقاتل ضمنهم ما يقارب ثمانين ألف مقاتل من جبالة مما يعني أن الثورة الريفية يومها كانت قد تحولت إلى قضية وطنية تعني كل المغاربة وقد أسس محمد بن عبد الكريم علاوة على ذلك تنظيما إداريا وقضائيا من مهامه السهر على تنظيم شؤون القبائل، فكان يعين قائدا على رأس كل قبيلة يتكفل بتسجيل الوفيات والولادات وتوثيق الزيجات ويُحَصلُ الضرائب التي أعفي منها سائر الفقراء وجرحى المعارك ،ونظم عمل هؤلاء القواد وعين مفتشين يراقبون أعمالهم كما عين قضاة يتولون شؤون القضاء بسائر المناطق الخاضعة لنفوذه وبنى محاكم وسجون تفي بمهام الفصل في النزاعات وزجر المخالفين والعصاة ، كما أسس مجلس نواب أسندت إليه مهمة صياغة القوانين والتشريعات ونظم خدمات البريد والاتصالات وأقام شبكة تلفونية ومحطة راديو لإرسال واستقبال الأنباء وأسس جمعية عملت على صياغة دستور وميثاق وطني يحفظ حقوق الشعب ويضمن محاسبة كافة المسؤولين الذين تقلدوا مهام حكومية ، وبالنظر إلى أن هذه الخطوات قد أنجزت في ظروف دقيقة تكالبت فيها دولتان استعماريتان كبيرتان على المغرب هما إسبانيا وفرنسا فإن أنوال قد عبدت الطريق حقيقة نحو نهضة وطنية عميقة بسواعد مغربية ووفق رؤى منسجمة مع الهوية الثقافية المغربية، وقد كادت تلك النهضة التي حققت إجماعا مغربيا قلما تحقق في غير تلك المحطة المضيئة أن تؤتي أكلها لولا أن تداعت عليها قوى الاستعمار من كل جانب فأجهضت ذلك الحلم الجميل في مهده . تداعيات أنوال على المستوى الدولي لم تكن تداعيات أنوال لتقف عند حدود المغرب الجغرافية إذ امتدت آثارها إلى العديد من بلدان العالم و استطاعت حكومة الريف في ظرف وجيز أن تقسم الرأي العام الدولي إلى قسمين أحدهما مؤيد لثورة الريف والآخر يتربص بها الدوائر ويتوجس خيفة منها، وتلك أهم العلامات التي دلت على أن محمد بن عبد الكريم كان قد وضع رجله في المسار الصحيح نحو النهضة المنشودة. وقد اهتمت الصحف الدولية في أمريكا وابريطانيا وسائر بلدان العالم الغربي والإسلامي بما حدث في أنوال، كما عزز نصر أنوال حضور ممثلي الثورة الريفية في المحافل الدولية وصار للثورة رأي مستقل في التفاوض حول مجريات الأحداث بالمغرب وخارج المغرب، وصار لها مبعوثين يسوقون وجهة نظر المغاربة في سائر بلدان المعمورة، فنجد مثلا أن محمد بوجيبار صار مبعوثا للحكومة الريفية بفرنسا ومحمد الحاتمي مبعوثا لها بلندن وتمكن مبعوثو الريف من الترويج لقضية الاستقلال على نطاق واسع داخل أوربا فتأسست لهذا الغرض جمعية يرأسها الإنجليزي " كوردون كانين " لمناصرة الريف ، وجلبت الثورة تعاطفا عارما في العالم الإسلامي مما خلف حالة هلع في صفوف الإدارات الاستعمارية، يقول المستر كنورثي عضو مجلس النواب البريطاني عن الأمير : " إنه رجل حرب وزعيم يعرف كيف يجعل الجماهير تنقاد إليه حتى صار الناس في الهند وبغداد والقاهرة يرون فيه رجلا يصلح أن يكون أميرا للمؤمنين وحاملا لسيف الإسلام فإذا أصبح والحالة هذه في مركز يدعو فيه إلى الجهاد في إفريقية الشمالية وبلاد العرب والأناضول ، فأن إنجلتراوفرنسا وإيطاليا تتعرض لأخطار عظيمة ، ولا يبعد أن تمس هذه الأخطار دولا أخرى غير هذه أيضا " . ولأن الثورة مست مصالح كل أولئك فقد وقفوا صفا واحدا في محاربتها ووظفوا أنواعا من السلاح المحظور دوليا لإجهاضها