حين ينبري الباحث المهتم بالشعر القديم إلى اقتفاء أخبار الشعراء الصعاليك وآثارهم، فإنه يجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، ومعاناتهم التي لازمتهم طيلة حياتهم، وسط مجتمع جاهلي راهن على حق القوة، واغتصب إنسانية الإنسان عندما نبذ الضعيف لضعفه، وازدرى الفقير لفقره، وأذل المحتاج لعوزه، واحتفى في المقابل بالغني فقط لغناه، وبالقوي فقط لقوته. لقد عانى صعاليك عرب المرحلة الجاهلية آلاما كبيرة، أناخت عليهم بها ظروف صعبة تداخل فيها الاجتماعي، والسياسي والطبيعي، وهي في الحقيقة آلام شبيهة بتلك التي كابدها ويكابدها الفقير المعدم في كل عصر وفي كل مصر، الفقير الذي لم يجد يد عون تفرج عنه شيئا من الأزمات والكرب. تقول الحقيقة التاريخية المثبتة في دواوين الشعر إن الصعاليك نهجوا أسلوبا فريدا في الحياة، انتصروا له وآمنوا في أعماقهم بأنه الأسلوب الخاص والناجع، الذي يستطيعون به أن يرفعوا عن كواهلهم ما أسدلته عليها ظروفهم الطبيعية، وتقاليدهم الاجتماعية وأوضاعهم الاقتصادية، من ذل وهوان، وهو الأسلوب الذي جعلوا شعارا له: الغزو والإغارة للسلب والنهب. وحتى يتحقق لنا فهم عميق لظاهرة الشعراء الصعاليك ولقضيتهم الإنسانية لابد من إطلالة على مفهوم الصعلكة في استعمالها اللغوي والأدبي. الصعلكة في الاستعمال اللغوي: ورد في لسان العرب في مادة (صعلك): الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد، وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك قال حاتم الطائي: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى *** فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر وتصعلكت الإبل خرجب أوبارها وانجردت وطرحتها. ورجل مصعلك الرأس: مدوره، ورجل مصعلك الرأس صغيره. وصعلك الثريدة: جعل لها رأسا، وقيل رفع رأسها. والتصعلك: الفقر وصعاليك العرب: ذؤبانها، وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك، لأنه كان يجمع الفقراء في حضيرة فيرزقه مما يغنم[1] من خلال نص ابن منظور يمكننا أن نخلص إلى فكرة مفادها، أن الصعلكة في مفهومها اللغوي تفيد الفقر الذي يجرد الإنسان من ماله ويظهره ضامرا، هزيلا بين أولئك الأغنياء المترفين الذين أتخمهم المال وسمنهم[2] لكن المعنى الحقيقي اللغوي للكلمة لا يكون تاما ودقيقا إلا بالوقوف عند الزيادة التي أضافها الأزهري، وهي قوله "و لا اعتماد". والمعنى اللغوي لهذه العبارة واضح، فاعتمد على الشيء: توكأ عليه، واعتمد عليه في كذا: اتكل عليه.[3] وعلى هذا نستطيع القول: إن الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة ويعالجون مشكلاتها بيد واحدة، أو بعبارة اخرى، الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا وقد جردته من وسائل العيش فيها، وسلبته كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها، فالمسألة إذن ليست فقرا فحسب، ولكنه فقر يغلق أبواب الحياة في وجه صاحبه ويسد مسالكها أمامه.[4] الصعلكة في الاستعمال الأدبي عند دراستنا لأشعار الجاهليين نصادق في غير ما موقع حضورا واسعا لكلمة الصعلكة، لكننا نكشف ونحن في طريق بحثنا أن الكلمة قد تأتي حاملة دلالة تختلف ماما عن المفهوم اللغوي الذي سبق أن تطرقنا إليه، وذلك كما جاء في أخبار عدي بن زيد من أن النعمان بن المنذر حبسه حتى مات، فأراد ابنه زيد أن يثأر له من النعمان، فدبر مكيدة يوغر بها صدر كسرة عليه حتى يقتله، وترامى خبر المكيدة إلى سمع النعمان، ففر من كسرى ولجأ إلى قبائل العرب، ولكن أحدا لم يجرؤ على إجارته، فقال له سيد من بني شيبان في حديث طويل معه: فامض إلى صاحبك، فإما إن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير لك من أن يتلعب بك صعاليك العرب، ويتخطفك ذئابها، وتأكل مالك، إذ من الواضح هنا أن الصعاليك ليسوا هم الفقراء، ولكنهم طوائف من قطاع الطرق، كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به ويتخطفونه ويأكلون ماله.[5] [1] لسان العرب لابن منظور مادة "صعلك" [2] الشعراء الصعاليك، يوسف خليف ص: 22-23 [3] لسان العرب لابن منظور مادة "عمد" [4] الشعراء الصعاليك، يوسف خليف ص: 23 [5] الشعراء الصعاليك، يوسف خليف. ص: 26 * باحث في سلك الدكتوراه في الآداب العربية بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة تطوان المغربية، تخصص النص الأدبي العربي القديم.