لم تكد تمضي بضعة أسابيع على إطلاق المبادرة الملكية السامية باتجاه دول منطقة الساحل الإفريقية، بهدف تمكينها من الولوج إلى المحيط الأطلسي والانفتاح على البحر وعلى الإمكانات التبادلية الهائلة التي توفرها البنيات التحتية للساحل الأطلسي المغربي، حتى استجابت لها بالكامل دول الساحل المعنية بهذه المبادرة المغربية، وبكل ثقة في المقاصد النبيلة لبلادنا في دعم الأشقاء الأفارقة ومساعدتهم على النهوض بأسئلة التنمية، وحل معضلات الندرة والخصاص المرتبطة أساسا بإشكالات جيوسياسية وأمنية لا يمكن معالجتها إلا بمقاربات تعاونية وتشاركية بين دول الجوار، على أساس سياسة رابح – رابح، وتبادل المصالح والمنافع، والاستفادة المتقاسمة من الفرص الكبيرة المتاحة لها لتنويع علاقاتها وصادراتها ووارداتها، بهدف إحداث تحول نوعي وجوهري في بنياتها الاقتصادية والتنموية يفك العزلة الجغرافية عنها، ويفتحها على المنافذ والجسور والمعابر الدولية الآمنة لتجاراتها ومعاملاتها الاقتصادية الدولية، ومنها المنفذ الأطلسي الواعد بحركية غير مسبوقة في التاريخ الإفريقي، سيكون المغرب كما كان دائما عبر التاريخ، جسرا ومعبرا لها وبوابة لإفريقيا على العالم الغربي خاصة؛ الأوروبي من الجهة المتوسطية، والأمريكي من الجهة الأطلسية. في أول اجتماع وزاري تنسيقي تم الإعداد له مباشرة بعد الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء المظفرة، والمتضمن للمبادرة الملكية المذكورة، وفد وزراء خارجية دول الساحل الإفريقية إلى مدينة مراكش يوم السبت الماضي، لتدارس سبل تفعيل المبادرة الملكية، بكل أمل في أن تتضح رؤية هذه النوايا الصادقة للمجموعة المغربية الساحلية بمقترحات عملية وملموسة تبدأ في التنفيذ انطلاقا من السنة المقبلة، بما في ذلك تأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي خاصة مع الدولتين المطلتين على المحيط الأطلسي، وهما موريتانيا التي عبرت عن انخراطها في هذه المبادرة، والمغرب صاحب المبادرة والداعي إليها وراعيها. سيكون بإمكان دول الساحل الشقيقة الاستفادة من الإمكانات اللوجستية المتطورة والبنيات التحتية الكبرى للمغرب من طرق وموانئ أطلسية متميزة وفي المستوى الدولي العالي، التي يضعها المغرب رهن إشارة هذه الدول للاستفادة من الخدمات التي تقدمها في النقل البري والبحري والسككي، والانفتاح والتبادل، واختراق العوائق الجغرافية للتصدير والاستيراد، إيمانا من المغرب أنه ليس بالمقاربات الأمنية والعسكرية يمكن محاربة مشاكل هذه الدول الشقيقة، ولا بالتدخلات في شؤونها الداخلية وتصدير الأزمات إليها، ولا بتقديم الأموال والهبات والصدقات والنصائح إليها، بل بتشجيعها على أن تمسك بزمام المبادرة في تدبير ثرواتها وإمكاناتها، وبتوفير الأرضية المناسبة لتقاسم الأفكار والحلول والاقتراحات معها، على أساس النفع المتبادل والحل المشترك والكرامة المحفوظة. وبهذه المبادرة الرائدة والرفيعة الدرجة في منطقة إفريقية تزخر بالثروات وفي الآن نفسه تعرف تحديات وبؤر توتر عديدة، يكون المغرب قد عزز من موقعه كعامل استقرار وقاطرة للقارة الإفريقية لإنجاز نهضتها المأمولة والممكنة بسواعد أبنائها وبالنوايا الصادقة وبالأفكار المثمرة والمنتجة، وتكون مشاريعه ومبادراته رافعة للتنمية، غير موجهة ضد أي كان، كما يدعي المعطلون والمشوشون وخدام الاستعمار، وإنما هي يد ممدودة للتمسك بالأمل في مستقبل أفضل، واستثمار في الاستقرار والسلام والتنمية المستدامة، ويكفي أنه وضع كل الإمكانات المتطورة التي يتوفر عليها رهن إشارة أصدقائه وأشقائه الأفارقة، من غير قيد أو شرط، لاستعمالها في ما يعود على الجميع بالخير العميم وبالاندماج الفعلي والتكامل الملموس والمؤثر، لمواجهة التحديات وحل معضلات التنمية التي لا يمكن للبلد الواحد والمنعزل أن يحلها أو يرفع عقباتها. ولعل من علامات اليمن والبركات على هذه المبادرات، ما خيم عليها من سكينة ووقار وحسن قرار، وبمباركة الدول الإفريقية وعدد من دول المعمور التي تتطلع للإسهام في المشاريع التنموية لدول الساحل الإفريقية وللدول غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي في مشروع آخر مواز يتكامل مع المبادرة المغربية الموجهة لدول الساحل، ألا وهو المشروع الاستراتيجي لأنبوب الغاز المغرب – نيجيريا، المرافق لمبادرة إحداث إطار مؤسسي، يجمع الدول الإفريقية الأطلسية الثلاثة والعشرين، بغية توطيد الأمن والاستقرار والازدهار المشترك، والذي تحدث عنه خطاب المسيرة الخضراء بآمال مغربية عريضة على الربط الإبداعي القوي بين المشاريع والتشبيك بينها، بعيدا عن خطابات الهيمنة والشعارات الوحدوية أو التضامنية التي لا تقدم ولا تؤخر في موضوع الإجابة العملية عن سؤال: ما العمل؟ المغرب لا يملك إجابات جاهزة، ولكنه يعرف جيدا الرهانات والتحديات التي تواجه الدول الإفريقية، ولديه تجربة تاريخية عميقة ورائدة في تدبير المشاريع بعقلية إيجابية ومنفتحة، تؤمن إيمانا حقيقيا وراسخا بالشعوب، وتثق ثقة غامرة في قدراتها وكفاءاتها على إدارة مصالحها وعلاقاتها وأزماتها. سؤال ما العمل؟ هو الذي يشتغل عليه المغرب مع أشقائه الأفارقة سواء من دول الساحل أو من دول الشريط الأطلسي الإفريقي، الذين يؤمنون بمصداقية العمل المغربي، وبأهمية التعاون مع المغرب وفتح شراكات معه للخروج من التشرذم والانقسام والانغلاق، بهدف تقاسم الخبرات والتجارب وتبادل المنافع والمصالح، وضمان إشعاع لمنطقتنا ولمحيطنا وتحقيق الكرامة والاكتفاء الذاتي لبلداننا وشعوبنا، وتأهيل مواردنا البشرية وتعبئة طاقاتنا لاستدامة التنسيق المبدع والمنتج، وكسب معركة شريفة ونبيلة عنوانها: "ازدهار إفريقيا". ولأن أولى الخطوات نجحت على هذا الدرب في التفاعل الكبير مع المبادرة الملكية وانطلاق عمليات التنسيق سواء بين دول الساحل والمغرب، أو بين مجموع دول غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي لإنجاز الأوراش الكبرى للمشاريع التنموية المبهرة، فإن هذا الحدث في حد ذاته يعد انتصارا لإفريقيا، ويعتبر حدثا تاريخيا بامتياز، وعملا جوهريا بكل المقاييس في مسار التحولات الكبرى والسريعة التي تشهدها القارة الإفريقية ما بعد جائحة كورونا.