الكاتب: خديجة عبيد في زاوية هادئة داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، كان الباب يفتح ببطء ليكشف عن مكان تنبض فيه الألوان. ليس مكانا جديدا تماما، بل ورشة فنية كانت مغلقة لفترة طويلة قبل أن تفتح أبوابها مجددا لاستقبال طلاب يرغبون في استكشاف شغفهم بالفن. في البداية، لم يكن هناك صداقة بين هؤلاء الطلاب، كل منهم دخل عالمه الخاص، محملا بحلمه وتطلعاته. لكن مع مرور الوقت، ومع تنامي الصداقات والتعاون بينهم، تحولت الورشة إلى فضاء ينبض بالإبداع الجماعي. كانت الورشة، التي بدأت بداية متواضعة، جزءا من مشروع طلابي يعكس إيمان الجامعة بضرورة توفير فرص للإبداع. في البداية، سجل الطلاب مع بداية السنة الدراسية، وعاد بعضهم بعد فترة طويلة من الانقطاع. في هذه المساحة، لم تكن هناك حدود للخيال؛ فالطلاب هنا يرسمون بحرية، ولكن تحت إشراف مؤطر متخصص يساعدهم على تطوير مهاراتهم ببطء وتدريجيا. المثير في هذه الورشة هو التنوع الكبير بين الأساليب والمواضيع التي يختارها الطلاب. يمكن رؤية بعضهم يركزون على التعبير عن مشاعرهم، بينما يرسم آخرون لوحات تعكس أحلامهم أو قضايا اجتماعية تهمهم. ورغم أن كل واحد منهم كان يدخل الورشة وحيدا، إلا أنهم أصبحوا فيما بعد فريقا يدعم بعضهم البعض، مشجعين على الاختلاف والإبداع. لم يكن هناك مكان للأحكام المسبقة، فكل فكرة تُحتفى بها، وكل لون يأخذ مكانه. كيف وجدت نفسك في الرسم؟ ماهي حدودك كفنان في الورشة؟ كيف ترى نفسك بعد تجربتك في الورشة الجامعية؟ كل هذه الأسئلة وأخرى يجيب عليها طلاب الورشة. الطالب عبد الله بنحمادي"من التوقف الى الإبداع. قصة العودة" بدأت رحلته مع الرسم منذ أن كان في الثامنة من عمره، حيث كان ملهمه الأول هو عالم الرسوم المتحركة. في البداية، كان يرسم الطبيعة، ثم تطور الأمر ليشمل رسم شخصيات خيالية. ومع مرور الوقت، أصبحت ممارسة الرسم جزءا من وقت فراغه، وكان يشاهد الرسوم المتحركة ويتخيل شخصياته الخاصة. الرسم كان بالنسبة له وسيلة لتوسيع خياله وإبداعه، لكن مع تقدم دراسته، توقف عن الرسم لمدة تسع سنوات. وفي وقت لاحق، وبمجرد أن فتحت أبواب ورشة الرسم الجامعية، قرر عبد الله العودة إلى عالم الرسم. بدأ في رسم بعض الأعمال الخفيفة في البداية للتأكد من أنه لا يزال يمتلك الموهبة. ومع مرور الوقت، اكتشف أن موهبته لم تختفِ بل تطورت، وقد استغرق الأمر حوالي شهر ليعود إلى مستواه السابق في الرسم. كانت كل لوحة جديدة يبدع فيها فرصة لاكتشاف ذاته بشكل أعمق. في ورشة الجامعة، استغرق رسم كل لوحة حوالي 15 يوما، حيث كان يكتشف من خلالها أبعادا جديدة في قدراته الفنية. عندما سُئل عن تعبيره في الرسم، قال عبد الله: "الرسم بالنسبة لي هو طريقة للتعبير عن نفسي، وخاصة في لحظات الضغط والقلق. في الرسم، أجد راحتي وأتمكن من فراغ همومي". وأضاف: "كل لوحة ترسمها تتطلب مني أن أكون صادقا مع نفسي وأتعامل مع كل فكرة بكل حرية. في البداية، كان الرسم يتطلب مني تأكيد أنني لازلت قادرًا على إظهار التفاصيل بطريقة جيدة، لكن مع الوقت، أصبحت أكثر جرأة في التعبير عن أفكاري عبر الألوان والتفاصيل". أما عن اللوحة التي أبدع فيها مؤخرا، فكان يعبر من خلالها عن فكرة "الحب تحت الضغوط". وقال: "حاولت أن أترجم هذه الظاهرة في رسم يجسد الحب الذي يتطور في ضغوط وصراعات". كما أضاف أنه حاول استخدام الألوان الواقعية لكي يوصل للمتلقي شعورا بالقرب من الواقع. "كنت أريد أن أجعل أي شخص يراه يفسره بطريقته الخاصة، وأعتبر هذا جزءاً من جمال الفن". في أحد أعماله، قال عبد الله "عندما رأيت اللوحة المهيأة باللون الأصفر، شعرت وكأنها كانت تنتظر أن ترسم. ألهمتني لرسم مشهد من الصحراء المغربية يعبر عن ثقافتنا"، موضحا أن هذا العمل كان بمثابة إعادة بناء للثقة بنفسه بعد توقفه الطويل عن الرسم. بالنسبة لعبد الله، فإن الورشة الجامعية كانت أكثر من مجرد مكان للتعلم؛ كانت مساحة لتفريغ الصعوبات والتحديات التي يواجهها في حياته. وقال في ختام حديثه: "بعد توقف طويل، وجدت الحياة في هذه الورشة، وكل لوحة جديدة ترسمها هي خطوة نحو اكتشاف نفسي بشكل أعمق. في الرسم، لا توجد حدود، وأنا أؤمن بأنني يجب أن أكون حراً تماماً في التعبير عن فكرتي". وأضاف: "مستقبلي بعد الورشة سيكون موجهًا نحو إقامة معرض خاص بي، وأتمنى أن أستمر في تطوير مهاراتي والتعبير عن نفسي بشكل أعمق. الفن لا يمكن رؤيته بالعين فقط، بل يجب أن يشعر بالقلب، وهذا ما يجعل الرسم فنا حقيقيا". الطالبة نجلاء خضري" لوحة حلم وأصالة وخطواتها نحو الإبداع" نجلاء خضري، البالغة من العمر 21 عاما، طالبة في دراسات الإنجليزية، بدأت رحلة الرسم في عالمها الصغير بفضل والدين يحبان الفن. كان والدها رساما لكنه احتفظ بلوحاته لنفسه، وهو ما جعل نجلاء تشعر ببعض الحيرة في البداية. ظنت أن والدها يمنعها من الرسم، لكن في الحقيقة كان يطمح أن تركز على دراستها. في مراحلها التعليمية المبكرة، عاشت نجلاء صراعا داخليا بين شغفها بالرسم وتطلعات أسرتها نحو تعليمها. لكن هذا الشغف لم يتوقف. في البداية، لم تكن تعتبر نفسها موهوبة بشكل كبير، لكن حبها للرسم وبحثها عن التعبير دفعاها للاستمرار. ومع سماعها عن ورشة فنية جديدة، قررت الانضمام إليها دون تردد. في الورشة، استقبلها الجميع بحفاوة وساعدوها على صقل موهبتها وإطلاق طاقتها الإبداعية. في إحدى لوحاتها، أكملت عملا لم يكمله فنان آخر، حيث كان الورد في اللوحة هو مصدر إلهامها. ربطت نجلاء لوحتها بكلمات شعرية عربية تعبر عن علاقة الإنسان بأرضه وهويته: "من يسكن الروح كيف للقلب أن ينساه"، مُعبرة عن الرابط القوي بيننا وبين ثقافتنا وأصولنا. أكملت اللوحة على نهج الفنان السابق، معتبرة أن هذه الرسالة تتجاوز العمل الفني إلى قصة شخصيتها وتاريخها. خيال نجلاء قادها إلى رسم لوحة أسمتها "بداية الجنة"، لوحة تختصر لحظة التحول العميق من الحيرة والاضطراب إلى الصفاء والوعي. جسدت فيها مشهدا روحيا، فيه باب مفتوح على عالم من الصفاء والمعرفة، وكأنها تقول إن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل يبدأ من الداخل، من لحظة وعي صادقة. في هذا العمل، لم تكن نجلاء ترسم مشهداً جميلا فحسب، بل كانت توثق بداية جديدة، أملا ينبت وسط الظلام، وطريقا يقود إلى الجنة، لا تلك التي في السماء، بل تلك الكامنة في أعماق الإنسان. الرسم بالنسبة لنجلاء ليس مجرد نشاط، بل هو وسيلة للتعبير عن نفسها في لحظات الضغط والحزن. ترى أن كل لوحة هي رحلة نفسية، وكل خط ولون هو لغة خاصة بها. "الرسم لا يتعلم بل يتطور مع الوقت"، تقول نجلاء، مؤكدة على أهمية الاستمرار والاحتكاك بالآخرين للاستفادة من آرائهم وإثراء تجربتها. الورشة لم تكن مجرد مكان لتعلم الرسم، بل كانت مساحة لتفريغ مشاعرها واكتشاف طرق جديدة للتعبير عن نفسها. الطالب صلاح الدين الخميسي: "بين الخط والغضب، حين أصبح الرسم نافذته إلى الحلم"منذ سنواته الأولى، بدأ صلاح الدين يرسم على صفحات دفاتره المدرسية، وهو في سن صغيرة لم يدرك بعد أن هذا الشغف سيكون بوابة لإبداعه الفني المستقبلي. كانت عيناه تلتقط الصور من الكتب التي يقرأها، وفي هذه اللحظات البريئة، كان الرسم بالنسبة له مجازفة تخلط بين الترفيه والهروب من الواقع. من خلال هذه الرسومات، كان يعبر عن نفسه في عالم يبدو مختلفا عن ذلك الذي عاش فيه. تلك الرسومات الصغيرة على صفحات دفاتره كانت بمثابة تمارين لتمهيد الطريق لما سيأتي لاحقا. لكن شغفه لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كان دائمًا يبحث عن وسيلة تعبير أكثر قوة وحرية. ولذلك، انتقل بعد ذلك إلى الجدران، حيث وجد في ال"Graffiti" فسحة أكبر للتعبير عن أفكاره دون قيود. كانت الجدران بمثابة منصات حرة لا تعرف التقييد، فسجل عليها ما يختلج في نفسه من مشاعر الغضب والضغط، متحولا إلى فنان يستشعر الارتباط العميق بكل خط يرسمه. لم يعد الرسم مجرد هواية، بل أصبح بمثابة متنفس حقيقي، وسيلة لاحتواء التوترات الداخلية والهروب من القيود الاجتماعية. في الورشة الجامعية، وجد صلاح الدين بيئة مثالية تحتضن إبداعه وتحرره من أي تصنيفات أو أحكام مسبقة. هناك، تفتح أمامه أبواب جديدة ليعبر عن نفسه بحرية تامة. اختار أن يعكس ثقافته المغربية في لوحاته بأسلوب يتجاوز المألوف، حيث كانت لوحاته تظهر بشكل بسيط في البداية، لكنها تحمل في أعماقها طوفانا من الأفكار الرمزية التي كانت في معظم الأحيان صعبة الفهم للمشاهد العادي. كانت الألوان في بدايتها محايدة، خاصة الأبيض والأسود، ما كان يعكس حالة من الغموض والضغط النفسي الذي كان يعيشه، ويظهر قلقه الداخلي إزاء الواقع الذي كان يراه حوله. هذه الألوان كانت بمثابة مرآة لحالة نفسية معقدة تعكس العواطف والمشاعر المخبأة. إلا أن "لوحة البيانو" كانت بمثابة نقطة تحول هامة في مسيرته الفنية، حيث سمحت له هذه اللوحة باستخدام الألوان لأول مرة. أصبحت هذه الألوان بالنسبة له أكثر من مجرد أدوات رسم، بل كانت رمزية لأمل جديد وحياة أفضل. كانت تلك الخطوة بمثابة تحول من العزلة والضغط إلى التفاؤل والإبداع، حيث جعلت الألوان تفتح له آفاقا جديدة للتعبير. ومع تطور مسيرته الفنية، بدأ صلاح الدين في اكتشاف طاقات جديدة بداخله، فبدأ في الكتابة. لم يكن الكتابة بالنسبة له مجرد وسيلة للتعبير الأدبي، بل كانت بمثابة امتداد لفنه البصري. بدأ في كتابة الروايات ليمرر من خلالها رسائله التي عجز اللون وحده عن التعبير عنها. كان يعتقد أن الفن لا يجب أن يُختزل في الأعمال التي نراها اليوم في الشوارع، والتي غالبا ما تكون مجرد فوضى بصرية أو محاولات للظهور. بالنسبة له، الفن هو رسالة حقيقية وعميقة يجب أن تُنقل للجمهور بعناية وبأسلوب يعكس معاناة الإنسان وحلمه. لديه حلم كبير يتعدى مجرد الطموحات الشخصية. يحلم أن يعيد الحياة لمدينته بالألوان، أن يزرع فيها الفرح والحيوية من خلال فنه، وأن يمنح الفرصة للفنانين الموهوبين ليبرزوا بأعمالهم. يرى أن الفن هو رسالة تستحق القتال من أجلها، وهو مستعد للقتال والتضحية حتى يكون له دور في إعادة الحياة لهذا المجال في مجتمعه، بعيدًا عن الشهرة أو الاسم. بالنسبة له، الفن الحقيقي لا يحتاج إلى دعاية أو تسويق، بل يحتاج إلى قلب مخلص وأفكار تنبع من الأعماق. الطالبة دعاء الوزاني الشاهدي "في صمتها جرأة: لوحات دعاء التي لا تشبهها…لكنها تكشفها" ولدت في بيت يسكنه الفن، من والد رسام وأخ يشارك في المعارض، كانت تشاهد أخاها يرسم وتقول في صمت: "سأجرب، ولو في وقت فراغي". بدأت بخطوط بسيطة ووجوه صامتة، ثم تحول قلمها إلى لسان ناطق ينقل ظواهر مجتمعها، مشاعرها، وتساؤلاتها. في قلب دعاء فنانة لا تحب القيود، ترسم كل شيء: من الوجوه، إلى الأزياء، إلى الأفكار التي تولد من العدم. في لحظات الحزن، تجد أصدق ما فيها. رسوماتها، على عكس شخصيتها الهادئة، جريئة، قوية، وتكشف عن وجهها الآخر. تقول: "لكل منا شخصيتان، ولوحاتي تكشف عن الأخرى في داخلي". الرسم عندها بلا حدود، بلا تصنيف، وبلا خوف. تُؤمن أن الجرأة في الفن ليست هدفا بحد ذاته، بل وسيلة للوصول إلى رسالة... وحين تصل الرسالة، تنتهي الجرأة. الورشة كانت نقطة تحول. عبر صديقة، دخلت دعاء عالماً جعل أفكارها أكثر وضوحا، ورسالتها أكثر قوة. واليوم، بعد الورشة، تحلم بإقامة معرض خاص بها لكن دون عنوان، دون موضوع، ودون حدود. معرض يشبهها تماما: حر، صادق، وغير مصنف. الطالبة آية أسلوني "حين يتكلم الفراغ: آية التي ملأته بالفن" بدأت رحلتها في الرسم بدافع بسيط: الفراغ. كانت الخطوط في بداياتها متشابكة وغامضة، لكنها كانت صادقة. شيئا فشيئا، تحولت هذه الخطوط إلى تعبير أعمق، وبدأت تجد في كل لوحة وسيلة لتصف شعورا لا يقال. دخلت الورشة بعد أن سمعت عنها، وهناك، لم تجد فقط تقنيات وألوان، بل وجدت صداقات، ومساحة تشبه قلبها. كانت لوحات عمها ترن في ذاكرتها، ومع كل نظرة لها، كانت تقول لنفسها: "حتى أنا أستطيع أن أرسم". آية لا تخطط دائما لما سترسمه، بل تترك الفرشاة تأخذها حيث تشاء. في لحظات الحزن، تخلق أجمل أفكارها. وفي إحدى اللحظات، وجدت نفسها ترسم فراشة... لكنها لم تكن فراشة عادية. كان الشكل ناعما و، لكن التفاصيل تحمل تعقيدا: هذه الفراشة تمثّلها هادئة من بعيد، ولكن من الصعب الاقتراب منها. تعشق الأسود، لا لأنها ترفض الألوان، بل لأن أفكارها تتكلم بهذا اللون. هو اللون الذي تجد فيه نفسها، دون الحاجة لتبرير. كل خط تضعه بوعي، تعيد الرسم إن لم تقتنع، فهي لا تُنهي لوحة حتى ترضي إحساسها. الرسم غيرها. جعلها أكثر هدوء، كأن العالم ينطفئ لحظة تمسك بفرشاتها. بعد الورشة، تقول بثقة: "لِم لا؟ سأكمل الطريق... فربما وُلدت فراشة، لأرسم جناحيّ بيدي". الطالبة سمية أيت بوستة "حين تغمض العيون لتُبصر اللوحات" لم تبدأ سمية الرسم من حدث معين، بل من ذاتها. لم تكن تبحث عن قصة، لأن القصة كانت تسكنها منذ الصغر. كانت تتوقف عن الرسم أحيانا، لكن الشغف كان دائما يعرف طريق العودة. وجوه البشر سحرتها، تفصيلا تفصيلا. القهوة، الأقلام، الفحم... كل أداة بسيطة كانت تُشعل فيها شعلة الإبداع. لم تكن اللوحة مجرد رسمة لسمية، بل حياة مصغرة. في إحدى لوحاتها، سيدة عيناها مغلقتان، غارقة في محيط أفكارها، يحاصرها مجتمع أو خوف أو ذكريات. اليدان التي تبدو مقيدة فيها لم تكن مجرد رسم، بل رمزية لواقع نعيش فيه، لا نراه دائما... إلا حين نغمض أعيننا. تقول سمية: "أحب رسم كل ما هو أنثوي، فالتفاصيل هناك أعمق. في العيون، تحديدًا، أجد عالمي". ومع ذلك، اختارت في لوحاتها الأخيرة أن تغلق تلك العيون... لتفتح لنا أعيننا. الورشة لم تكن فقط فضاءً للرسم، بل فضاء لاكتشاف الذات. رغم أنها لم تكن تعرف أحدا، أصبحت بين أصدقاء وأفكار مشتركة. تؤمن أن الرسم بلا قيود هو ما يمنح المعنى للفرشاة، لكنها تعرف حدودها، وتقدر من يعبّر بأساليبه. وترى لوحاتها كأنها قطع من حلم واحد، حتى وإن كانت منفصلة. في واحدة، تحكي عن انكسارات، في أخرى عن أفكار صامتة... لكن كلها تلتقي في عمق واحد. سمية ترسم لأنها تشعر بالرضا، ولأنها كلما غاصت في اللون، عرفت نفسها أكثر. أحيانا لا تكمل لوحاتها، لكنها لا ترى في ذلك نقصا... بل إشارة على أن الفن الحقيقي لا يقاس بالنهاية، بل بالشغف الذي دفعك للبداية. عبارتها التي تختم بها حديثها، تلخص كل شيء: "لا يمكن للنجوم أن تلمع بدون ظلام." الطالبة إكرام بوخوخ "أحزن بريشة عنهم…لا عني" منذ الصغر، كان للقلم موطئ حب في يد إكرام، وكانت الخالة هي العين الأولى التي رأت في تلك الخطوط شيئا يستحق أن يحكى. لم تكن الرسومات حينها متقنة، لكنها كانت صادقة، وهذا وحده كان كافيا ليجعل الخالة تحتفظ بها، وتُحضِّر لها أدوات الرسم، وتفتح لها الباب نحو الحلم. تشجيع العائلة جاء فيما بعد، فكانت الأدوات تشترى مع اللوازم المدرسية، وكأنهم يرسلون رسالة ضمنية: "نحن نؤمن بك". في الثانوية، فازت في مسابقة بلوحة، وكانت لحظة فخر، أول اعتراف خارجي بموهبة لم تعد خفية. دخلت الورشة في سنتها الأولى بالجامعة، ووجدت هناك عالما يشبهها، لكن انشغالات الحياة فرضت على إكرام توقفا لثلاث سنوات. توقف قسري، تزامن مع فترة من الحزن... لكنها لم تكن ترسم في الحزن، بل العكس تماما. إكرام لا ترسم إلا وهي سعيدة، لأن الفرح يحرك يدها وأفكارها. في الحزن، كانت تفقد تلك الطاقة. ورغم أن بعض لوحاتها تُجسد ألم الآخرين، فإنها لا ترسمه من نفسها، بل ترسمه لهم، كأنها تجسد مشاعر لم تعشها، لكنها تُحسها. عادت للورشة، عادت للوحة، وبدأت تشارك أعمالها بعد أن كانت تخشى ذلك. لم يعد تفسير الآخرين يخيفها، بل يلهمها. أصبحت ترى في التأويل اختلافا جميلا، وفي كل قراءة للوحتها، حياة جديدة تضاف إليها. تقول: "أنا لا أتحكم في كيف يقرأ الناس لوحاتي، لكني أرسم لأنني أحب الرسم، مهما كانت قراءاتهم". إكرام تحب الشعر أيضا، وتراه صديقا آخر للتعبير. وهي تؤمن أن الفن لا يحتاج دائمًا للتشجيع، لكن لا بأس إن وجد، لأنه يشعرنا بالرضا، أحيانا. في لوحتها الأخيرة، رسمت شيئ لا يشبهها تماما: حالة بين الحزن والسعادة. ليست صورتها، لكنها صورة من شعور شعبي، حس جمعي. وكأنها تقول: "أحيانا أرسم ما لا أشعر به، لأني أشعر به في الآخرين". وتختم حديثها بجملة تحمل من الحكمة ما يشبه بوحًا: "الحياة لا تستحق أن نعيش في مستنقع طويل، مهما كان المشكل، لا بد من نافذة، لا بد من ضوء." الطالبة هدى بوكيل: من خربشات الدفاتر إلى لوحات تنبض بالروح لم تكن بداية هدى بوكيل مع الرسم بداية مخططة أو مدروسة، بل جاءت بعفوية تامة. خلال سنوات دراستها، كانت كثيرا ما ترسم لا شعوريا في دفاترها أثناء الحصص، لتتفاجأ لاحقا بأنها أنجزت شيئا ذا معنى، دون أن تدرك أنها تملك موهبة فنية حقيقية. مرت هدى بفترة من العزلة والبحث عن الذات، ولم تجد من يفهم مشاعرها، فالتجأت إلى الورقة والقلم، وبدأت بالرسم دون هدف محدد. شيئا فشيئا، بدأت تكتشف أن ما ترسمه يحمل ملامح وأشكالا واضحة. كانت أول تجربة فعلية لها عندما رسمت وجه والدتها، ووجدت أنه يشبهها بالفعل. من هناك بدأت تتساءل إن كانت فعلا رسامة، وإن كان بإمكانها رسم أي شخص. وهكذا بدأت رحلتها الفنية بكل جدية. وجدت في والديها دعما كبيرا وتشجيعا صادقا، فقد أعجبا بما ترسمه، وآمنا بموهبتها، مما منحها الثقة للاستمرار. لاحقا، التحقت هدى بورشة للرسم بعد أن سمعت عنها ، ورغم أنها لم ترتح في البداية لأجواء الورشة، كونها اعتادت الرسم في فترات متباعدة ووفق إلهام مفاجئ، فإنها مع مرور الوقت انسجمت مع المكان، وبدأت تستمتع بالدعم والرفقة التي وجدتها فيه. وتحول الرسم في حياتها من هواية متقطعة إلى شغف يومي ومصدر دائم للفرح. توجهت هدى تدريجيا نحو رسم الزليج التقليدي والجلباب المغربي، كتعبير عن حبها لهويتها وانتمائها الثقافي. لقد وجدت في الفن وسيلة للبوح والتعبير عن مشاعرها وأفكارها العميقة. ففي البداية، بدأت الرسم لأنها لم تجد من يفهمها، لكن الرسم هو من فهمها، وصار لغتها الخاصة. ما يميز هدى أيضا هو إصرارها على ترجمة أفكارها كما تتخيلها تماما على الورق، بصدق وأمانة. لكل لوحة ترسمها رمزية ومعنى خاص، ومع أنها تميل في العادة إلى استخدام الألوان البسيطة مثل الأبيض والأسود، إلا أن لوحتها الخاصة بالزليج كانت غنية بالألوان والتدرجات، بهدف إبراز جمال الزخرفة وتنوع التفاصيل، ورسالتها من خلالها كانت تسليط الضوء على غنى الثقافة المغربية. بالنسبة لهدى، الفن لا حدود له، ولا يجب للفنان أن يقيد نفسه. أي فكرة تخطر في بالها يمكن أن تتحول إلى لوحة فنية. رغم ما تواجهه أحيانا من صعوبات، خاصة في التفاصيل الدقيقة، ورغم التوقفات التي مرت بها، فإنها كانت تعود دائما بشغف أكبر وروح متجددة. بل إنها أصبحت ترى في التوقف المؤقت فرصة لاستعادة الحماس وتوسيع الخيال. وفي النهاية، تؤمن هدى إيمانا راسخا بأن الموهبة ليست كل شيء. فهي تمنحنا فقط البداية بنسبة 5٪، أما النجاح الحقيقي فيأتي من الجهد، والمثابرة، والتطوير المستمر. ما يجمع هؤلاء الطلاب ليس فقط الموهبة، بل الصدق في التجربة. بعضهم يرسم ليعبر، وبعضهم ليفهم، وبعضهم ليهدأ. منهم من يحتاج إلى الفرح، ومنهم من ينتج أجمل أعماله في الحزن. لكنهم جميعا وجدوا في الورشة أكثر من مكان للرسم... وجدوا فضاء للحرية، للدعم، للتجريب، وللبحث عن الذات. قد تختلف الأساليب, والقصص, والمصادر الأولى للإلهام, لكن شيئا واحدا يبقى مؤكدا: "الرسم ليس هواية فقط, بل حياة تعاش, وذاكرة ترسم, وصوت خين تخوننا الكلمات."