سعيد صحافي – صحافي دولي وناقد فني العنوانة الدالة "أنا من هناك" تُشكّل تصريحًا وجوديًا وهوياتيًا، وتطرح نفسها كتحدٍّ في وجه النفي، الطرد أو التهميش. يمكن أن تشير إلى فرد أو جماعة تعيش صراعًا مع سلطةٍ ما، أو تعاني من التهميش الاجتماعي، أو تحاول إثبات جذورها في أرضٍ ما، أو ثقافةٍ ما، أو وطنٍ مهدد. لكن ما معنى "أنا" في العنوان، أو على الأقل ماذا أريد أن أتبين من "أنا" هذه المرآة التي تقف علامة دالة، كاشفة، متشظية، هائمة، حالمة، انوجادية إلى درجة التماهي مع الحضور، كما وقف عامر حليحل على خشبة مسرح قصر الثقافة القرعاوي، ذات خميس موشوم بالقلق الوجودي، فكلمة"أنا" بكل بساطة تدل على الشخص بجميع ذواته، لكن "أنا" في الفعل الفلسفي تغوص في العمق، في الجوهر، ليتحدد "أنا" تبعا لتصور ماهية الذات الإنسانية، "النفس التي أنا بها ما أنا"/ ديكارت، بمعنى أن إنيته تكمن في النفس، في "أنا" المفكر فيه، لدرجة تصبح" أنا" شرطا وحيدا للتأليف بين الحدس والإدراك في الوعي، بحسب ايمانويل كانت. داخل العرض المسرحي والذي هو عبارة عن اعداد شفيف، بل هي دراماتورجيا بخيط رابط يقوده "أنا" عامر، عبر كل "أنا" الحضور، وعلى الرغم من أن العرض يبدو سيرة ذاتية ل"أنا" إلا أنها في التلقي تتجاوز المفهوم الذاتي لترقى به إلى مفاهيم جمعية ترابطية تحيل على الحلول بالمعنى الصوفي، لتصبح "أنا" صوت من لا صوت له، وقصة من لا قصة له، بل وتاريخ من لا ذاكرة له، وسيرة قصائد وحدتها قضية"أنا" في الذات الشعرية من محمد درويش إلى سميح القاسم مرورا بالمنجز الشعري الذي رسخه الصوت وبينه (من التبيين) القول الصراح. في الفلسفة الوجودية، لا تعتبر"الأنا" مجرد ذات عقلية كما عند ديكارت في الكوجيتو" أنا أفكر إذن أنا موجود"، بل تمتد إلى وجود يتحقق بالفعل والممارسة والتجربة، وهذا ما راكمه عامر حليحل على مدى سنوات تلقيه وتعلمه ومراسه الوجود على خشبة المسرح، لكي ينقل لنا تفاصيل "أناه" وتتغلغل بالفعل المسرحي إلى "نحن" الحضور، إلى حين، "أنا" ليست معطًى ثابتًا، بل مشروع وجودي مفتوح، يتحدد من خلال الاختيار والحرية والمسؤولية. على اعتبار أن" الأنا" في الفكر الوجودي يعيش حالة قلق وجودي نتيجة وعيه بأنه موجود في عالم لا يملك فيه إجابات جاهزة، ويشعر بالاغتراب عن العالم، عن الآخرين (يمثل ذلك اغتراب "أنا" عامر في طابور الصباح المدرسي، أو في محاولة اعتباره صوتا/ مشخصا في تل أبيب)، بل حتى عن ذاته أحيانًا، لأنه لا يوجد "جوهر" مسبق للذات؛ بل هي ما تختاره أن تكون. و"هناك" ليست مجرد مكان جغرافي،" بل تمثيل للهوية والحق في الوجود، لكي نفكك الفهم أكثر علينا أن نغوص في مفهوم الأنا والهناك في الفكر الوجودي، و"الهناك" في الفكر الوجودي يعتبر من المفاهيم الأساسية لفهم طبيعة الوجود الإنساني، والكيفية التي يدرك بها الإنسان ذاته والعالم من حوله. يتجلى هذان المفهومان بشكل خاص في أعمال فلاسفة مثل مارتن هايدغر وجان بول سارتر وكارل ياسبرز وهم من أبرز ممثلي التيار الوجودي في الفلسفة الحديثة. عندما يدرك الإنسان أنه "هُناك"، لا ككائن موضوعي بل كذات مسؤولة عن وجودها، يشعر بالقلق لأنه يرى الفراغ الكامن خلف المظاهر اليومية بمختلف تجلياتها، لأن القلق يكشف له عدم أصالة الوجود اليومي ويدفعه نحو تحقيق وجوده الأصيل. لكن ماهي العلاقة بين أنا" و"هناك"؟، هل هي علاقة تشابك وجودي؟، أم علاقة انوجاد؟، لكي تفهم "أنا" ذاتها من خلال انكشافها في العالم، على اعتباره فضاء وجوديا لحريتها ولاختبارها مسؤوليتها، "هناك" ليست مجرد مكان، بل أفضية للبحث عن الذات وعن العلاقة بين"أنا" لخلق معنى وسط عالم شاهد صامت، يراقب في كمد عن قرب/ بعد. عن أي "هناك" تحكي المسرحية؟، هل هي"هناك" نرتبطة بعامر (اسم دال ومدلول) كان هناك، هل أنا هنا؟، هل أنتم هناك؟ لماذا ليس هنا؟ كيف يمكن تحليل هذا الانوجاد الانطولوجي الوجودي القاصي/ القاسي؟. من المسائل التي تشكل أساس الأسئلة الفلسفية المرتبطة بالأنطولوجيا وفلسفة اللسان (ولا أقول اللغة) والمنطق الرمزي هي مشكلة "الكائنات غير الموجودة"، تلك الكائنات التي قد أفكر فيها أو أتصَرها أو أتخيلها، كما تخيرها معد النص المسرحي(الدراماتورج)، ثم المخرج فالممثل، من دون وجودها في الواقع، فلا يمكن التحقق منها. لكن، طالما أستطيع أن أفكر فيها ألا يفترض أن تكون موجودة على الرّغم من عدم وجودها، أي أن تكون موجودة بطريقةٍ معينة؟، أليس من المفترض أن تمتلك هذه الأشياء خصائص أصيلةً ومميزة قائمةً بذاتها؟ كيف يمكنني التفكير بوجودها طالما أنها غير موجودة؟، وكيف يمكنني أن أعطيَها قيمة صدقية طالما أنني عاجز عن التحقق من عناصرها في الواقع؟ أمام هذه المشكلة الضّاربة في ميادين الفلسفة واللسانيات تبرز نظريّة "ألكسيوس ماينونغ" في الأشياء لتقدم حلا متكاملا لها. ويمكن أن نلخص النظرية تقريبيا بالعبارة الآتية: "ليس موجودًا ولكنّه ينوجد، حيث نجد الانمياز واضحا بين الوجود وبين الانوجاد. تكمن الصعوبة للإجابة على الأسئلة المطروحة في طبيعة المسرحية، وتحديدًا في التناقض الظاهر فيها. يرفض هيوم التّمييز بين الشّيء المُتصوَّر والشيء الموجود، إذ عنده أن الوجود يُعادل التّصوّر، لأن فكرة الوجود تساوي فكرة ما نتصوره أن يكون موجودا. إذ ليس التفكر في شيء أو الّفكّر فيه كموجود أمرينِ مغايرينِ عن بعضهما. إذن ثمة أشياء قد قُسَت ِتبعا لِ"مقامها الأنطولوجي" في مكان وزمان محددين، وثمة أشياء واقعية لا نعثر عليها في العالم وتمتاز بخاصية "اللازمان"، مثالية لأبعد الحدود. لذا لا يمكن التكلم عن الوجود خارج الإطار الزمانّ، أي الوجود في العالم الواقعي، في حين أّن واقعية الانوجاد تتخطى هذا الإطار وترتبط بالكينونة، "ليس موجودًا ولكنّه يَنوجدُ، ليس موجودًا، وقد ينوجد، ولكنّه حتمًا يتشيّأ". ولهذا السّبب لا يمكن التّكلّم عن السَّلب في التّشيّؤ. من "هنا" أستطيع القول إن مسرحية" أنا من هناك"، سفر في الوجود، وقلق في الانوجاد، رحلة بحث ذهنية كل من عاش تجربة الحرمان من مفهوم الوطن، الذي يحملنا بكل تجلياته المعرفية والأنطولوجية، وطن نرصف معه وبه الطريق، قد يبدو هلاميا، صعب التحقق، غير أن سرد تجربة (عامر) من خلال تجارب أصحاب القصائد، تفضي إلى درب واحد، إلى مصير مشترك. هل يكفي العيش المشترك؟ لبناء وطن، هذا هو سؤال البيض والدجاجة. لقد وفق الدراماتورج ومعه الممثل(عامر) في شد انتباهنا إلى حيث "هناك" ونحن "هنا" بلغة الجسد بما تحمله من إشارات وطقوس مسرحية، تشبع بها الممثل طوعا وكرها، يقينا وشكا، أليس في الشك مبدأ اليقين؟