ان ما يحصل هذه الأيام في مدينة الفنيدق من فوضى عارمة ، كان يمكن أن يمر في صمت، اذا ارتبط فقط بمجموعة منعزلة من الشباب الحاليمن بالهجرة الى الضفة الأخرى، لكن مشاهد الهجرة الجماعية لنساء و أطفال وتلاميذ… يجعلنا نطرح قضايا كبرى للنقاش، تسائل الدولة والمجتمع، و تعيد النظر في المخططات الاقتصادية ومفهوم الجهوية والمنظومة التربوية، والقيم الأخلاقية للمجتمع المغربي. لقد استحضرت اسم الكاتب النرويجي "كنوت هامسون" لأنه ارتبط برواية "الجوع" التي حصلت سنة 1920 على جائزة نوبل للآداب. وهي تحكي قصة كاتب صحفي في مدينة كريستيانا، يعيش أحوال الجوع وآلامه، ويصور بعمق جارح احساس الجائع القاسي، الذي يعمقه تجاهل المجتمع من حوله. فقسوة الجوع قسوة مضاعفة، لأنها تضرب في اتجاهين، اتجاه عضوي يربك الوظائف الطبيعية للجسم، ويسبب آلاما لا تطاق، و اتجاه نفسي، يجعل الجائع يحس بانفصام بين آلامه الداخلية، وتجاهل المجتمع له. فأعراض الجوع لا تطفو على السطح، بل تظل آلاما مخلصة لصاحبها. نعرف جميعا أن الحكومات المتعاقبة لم تستطع معالجة مشكل التهريب، بل لم تفكر أصلا في القضاء عليه قضاء جذريا، بالرغم مما كان يخلفه، و مايزال، من أضرار فادحة على الاقتصاد المغربي. بل كانت تكتفي في أغلب الأحيان بالاغلاق المتقطع لمعبر باب سبتة، أو مصادرة بعض السلع من المهربين… هكذا ظلت كرة الثلج تكبر كل يوم، وتخوم المدينة تتوسع، وجاذبية الربح السريع تستقطب سكان المناطق المجاروة والبعيدة، والأجيال المتعاقبة تفتح عيونها على منجم الذهب الذي لا ينضب. ورغم قرب المدينة من ميناء طنجة المتوسطى الذي أحدث انعطافا حاسما في الوجه الاقتصادي لمنطقة الشمال، الا أنها لم تستفد من ذلك، اما بسبب ضعف المستوى التعليمي والتكويني لابنائها، أو بسبب المحسوبية والزبونية التي تستقطب يدا عاملة من خارج الاقليم، أو بسبب اقصاء المنطقة من أية مشاريع اقتصادية حقيقة، تستطيع تشغيل يد عاملة كبيرة. اذ لا يوجد، حسب علمنا، أي مصنع في هذه المدينة، مع أنه كان من الممكن استقطاب بعض المشاريع الصناعية في المنطقة، بتقديم بعض الامتيازات للشركات الراغبة في الاستثمار هناك. لم ينعكس التهريب، فقط، على الوضع الاقتصادي للمنطقة، بل انعكس أيضا على ثقافتها وتمثلاتها تجاه المدرسة والادخار والاستثمار، حيث ظلت علاقة السكان بالتعليم علاقة هشة، تؤكدها نسبة الهدر المدرسي، التي تعتبر من أكبر النسب في الجهة، كما ارتبطت أغلب استثمارات أبناء المنطقة بالاقتصاد الهش، خاصة قطاع البناء والمقاهي والمطاعم، والخدمات بصفة عامة، وغابت ثقافة الادخار. اذ مافتئت أزمة كورونا أن عرّت هذه الهشاشة، و أصبح السكان بعد أشهر قليلة أمام افلاس حقيقي. فلم يجدوا أمامهم سبيلا آخر الا الخروج الى الشارع للاحتجاج. لقد كان من الواجب على الحكومة، عوض منع الاحتاجاجات ،وتطويق الأحياء بالحواجز الأمنية، أن تعتبر الاحتجاج متنفسا لتفريغ الضغوط النفسية التي أحدتثها أزمة كورونا وأزمة البطالة، وأن تلتقط بعض الاشارات الدالة التي شهدتها هذه الاحتجاجات، خاصة تصريح تلكم الفتاة أمام بعض وسائل الاعلام، بأنها لم تعد تجد ما تشتري به "الفوطة الصحية".always . لقد كانت هذه العبارة التي خرجت من فم فتاة صغيرة تعيش في مجتمع محافظ، كافية، في تصوري، ليعرف المسؤولون أن الألم تجاوز الجلد واللحم حتى وصل الى العظم. وكان من تجليات هذا الألم، تلكم المظاهر المخزية لقوافل المهاجرين، من نساء و أطفال وشيوخ، وهم يلقون بأنفسهم في البحر، وكأنهم فارون من حرب مدمرة ، و يقدمون مادة دسمة لأعداء المغرب، لاستغلالها في تشويه صورته، في مجتمع صارت الصورة تقوم فيه بالدور الأكبر في التأثير على الرأي العام. فكم سنحتاج من وقت لترميم هذه الصورة المقلوبة؟ نحن نقدر المجهودات التي يقوم بها المسؤولون الآن لتجهيز مناطق للأنشطة الاقتصادية المندمجة، ومناطق أخرى للتجارة الحرة، وتوطين بعض المصانع في المنطقة، وتكوين أبناء المنطقة الحاصلين على شواهد عليا للاندماج في قطاع التربية و التكوين…لكن هذا قد يحتاج الى بعض الوقت، في حين أن الجوع لا ينتظر. قد يكون من الأنسب في هذه المرحلة المهمة من تاريخ المنطقة، البحث عن مناصب شغل عاجلة، خاصة في المؤسسات الصناعية الموجودة في منطقة الميناء، وفرض نسبة محاصصة خاصة بأبناء المنطقة، و تخفيف قيود الحجر الصحي لتشجيع السياحة، و مراجعة الضرائب و رسوم التأمين على التجار و سائقي سيارات الأجرة أما على المدى المتوسط والبعيد فيتطلب الأمر التفكير في انشاء مؤسسات التكوين المهني الخاص بالمهن الموجودة في الميناء، وتثبيت مناطق صناعية في المنطقة، وتطوير البنيات السياحية لتخفيف الضغط على المدن المجاورة، و تحقيق تنمية مستدامة.